الأدلّة الإثباتیّة علیٰ حرمة الفعل المتجرّیٰ به
الوجه الأوّل : أنّ المستفاد من الأدلّة الأوّلیة والخطابات الإلهیّة المتوجّهة إلی الاُمّة الإسلامیّة، هو أنّ الخمر المعلوم محرّم، وهذا إمّا لأجل دعویٰ فهم العقلاء والعرف ودعوی الانصراف.
أو لأجل المقدّمة العقلیّة؛ وهی أنّ طبیعة الخمر ـ بما هی هی وطبیعتها ملحوظة فی حال القدرة والعجز ـ لیست قابلة للتحریم بالضرورة، فیکون المحرّم هی الحصّة المقدورة، وهی الحصّة المعلومة؛ ضرورة أنّ الحصّة المجهولة لیست مقدورة، لامتناع فرض القدرة بالقیاس إلی المجهول.
فعلیٰ هذا، یکون المتجرّی عاصیاً؛ لأنّه ـ حسب هذا التقریب ـ ارتکب ماهو المحرّم؛ وهو الخمر المعلومة خمریّته.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 83 إن قلت : إن کان العلم المأخوذ المدّعیٰ جزءَ الموضوع، فالمتجرّی لم یعصِ اللّٰه .
وإن کان تمام الموضوع یلزم کونه خارجاً عن محلّ النزاع؛ لأنّ المتجرّی ـ حسب المصطلح ـ مورد النزاع، وهو لایتصوّر فی هذه الصورة کما مرّ.
قلت : نعم، إلاّ أنّ النزاع لیس مقصوراً حول حصار الاصطلاح، بل النظر هنا إلیٰ إثبات أنّ من اعتقد بأنّ ما فی الإناء خمر فشربه، فقد عصیٰ سیّده وإن لم یکن خمراً، فلاینبغی الخلط، ولیتدبّر جیّداً.
وهم ودفع
العلم المأخوذ إن کان جزء الموضوع، فلایترتّب علیه الأثر المقصود.
وأمّا احتمال کونه تمام الموضوع فهو بلا وجه؛ لأنّ غایة ما تقتضیه الأدلّة هو کونه جزء الموضوع. هذا مع أنّ دعویٰ: أنّه تمام الموضوع، خلاف الضرورة القاضیة بأنّ الأحکام تابعة المصالح والمفاسد الواقعیّة.
فلازم الأخذ بالأدلّة مجموعاً، هو کون العلم جزء الموضوع، فلایتمّ عصیان المتجرّی بالقیاس إلی الفعل المتجرّیٰ به.
ویندفع ذلک : بأنّ العلم فی صورة المصادفة جزء الموضوع ، وفی صورة التخلّف تمام الموضوع، وبه یجمع بین الأدلّة، ویحصل به المقصود؛ وهو عصیان المتجرّی.
وتوهّم امتناع ذلک، مدفوع بأنّ قضیّة الإطلاق هو ذاک، مثلاً إذا ورد النهی عن الخمر المعلومة خمریّته، یکون العلم المصادف وغیره مورد انطباق عنوان «معلوم الخمریّة».
نعم، لایکون تحریم الخمر فی صورة الخطأ؛ لأجل مصلحة فی المتعلّق،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 84 وهی الخمریّة، بل هو لمصلحة اُخریٰ سیاسیّة، نظیر النهی العامّ الکلّی الصادر فی العرف فی ساعات حظر التجوّل، فإنّ النظر فی هذا القانون العامّ إلیٰ منع تجوّل السرّاق وأرباب الشغب والإخلال، ولکن مع ذلک یصحّ المنع الکلّی بالقیاس إلیٰ کافّة الناس؛ حتّیٰ خواصّ السلطان، بل ونفسه.
فبالجملة : الحکم العامّ الکذائیّ مترشّح من مفسدة الخمر، وبحکم العقل مخصوص بالحصّة المقدورة، ولأجل المصالح الاُخر یؤخذ بإطلاقه لصورة تخلّف العلم عن الواقع، والجمع بین ذلک؛ أی کون العلم جزء الموضوع فی دلیل واحد، وذاک ـ أی کون العلم تمام الموضوع فی نفس ذاک الدلیل ـ ممکن.
إن قلت : هذا لیس بعلم، بل هو جهل مرکّب یسمّیٰ «علماً».
قلت : ماهو موضوع الحکم هو ما یسمّیٰ «علماً» أعمّ من کونه علماً وکاشفاً ومطابقاً، أو لم یکن کذلک؛ لأنّ «العلم» معناه اللغویّ أعمّ من الجهل المرکّب.
ولو کان صدق «العلم» علیه مجازاً، ولکنّه من المجاز المشهور الذی یصحّ للمتکلّم الاتکال علیه فی نشر قانونه وبسط حکمه؛ بالقیاس إلی الجاهل المرکّب، ولذلک یکون فی صورة کونه تمام الموضوع تکلیفه منجّزاً، ولو تخلّف یعدّ عاصیاً. ومن الضرورة أنّ فی الفقه مایکون موضوعه العلم علیٰ نعت التمامیّة، مع أنّه لیس بعلم واقعاً.
وإن شئت قلت : العلم المأخوذ فی الدلیل فی صورة الإصابة، یعتبر طریقاً، وفی صورة عدم الإصابة یکون مأخوذاً علیٰ وجه الصفتیّة، فیکون هو علماً علی الصفتیّة واقعاً، لا مجازاً.
وتوهّم امتناع کون العلم فی الدلیل الواحد، مأخوذاً طریقاً وصفةً، ناشئ من الخلط بین العلم العنوانیّ، وبین العلم بالحمل الشائع؛ فإنّ العلم المأخوذ فی القانون
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 85 لیس طریقاً وصفة، بل هو عنوان العلم ومفهومه، وما هو الطریق والصفة هو العلم الموجود فی أنفس المکلّفین، فإن أصاب الواقع یکون جزء الموضوع؛ إمّا علی الطریقیّة، أو الصفتیّة، وفی صورة الخطأ یکون تمام الموضوع علیٰ وجه الصفتیّة.
وکلّ ذلک لخصوصیّة المورد، دون القانون؛ فإنّه العامّ الخالی من هذه الخصوصیّات، وتلحق هذه الاُمور باعتبار المصادیق حسب الفهم العرفیّ، وسیظهر توضیحه وتحقیق هذه الجهة فی المباحث الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
فتحصّل إلیٰ هنا : أنّ شمول الأدلّة الأوّلیة لتحریم المتجرّیٰ به، أو إیجابه، ممّا لا بأس به ثبوتاً وإثباتاً. وعلی التحریر المزبور فی کلامنا، تظهر مواضع الضعف فی کلمات العلاّمة النائینیّ وغیره فی المقام.
بقی شیء یتوجّه إلی التقریب المزبور مضافاً إلیٰ ما تحرّر منّا: من أنّ الأدلّة الأوّلیة تشمل إیجاب الطبیعة وتحریمها علیٰ إطلاقها، من غیر أن تحصّص بحصّتها المقدورة المعلومة؛ لعدم شرطیّة القدرة فی إیجابها وتحریمها المطلقین، ویمکن أن یکون الحکم فعلیّاً عامّاً بالقیاس إلیٰ کافّة حالات المکلّفین ؛ من النسیان، والغفلة، والسهو، والجهل، والعجز، وغیرها، فلایتمّ ما تخیّل.
ولایتمّ أیضاً دعوی الانصراف؛ لأنّ منشأه ربّما کان الوجه العقلیّ، ولکنّه غیر وجیه. ولو کان لدعوی الانصراف وجه، لما کان لحدیث الرفع محلّ تأسیسیّ.
وبالجملة : إطلاق الأدلّة الواقعیّة قطعیّ؛ ولو فرضنا صحّة اختصاص الحصّة المقدورة بالتکلیف، ولکنّه لایلازم کون الأدلّة معنونة بعنوان «المعلوم» و«المقدور» حتّیٰ یستنبط منه ویستظهر منه معانیها الخاصّة، وحدود دلالتها وانصرافها ؛ فإنّ کلّ ذلک خروج من الطریقة الصحیحة فی استنباط الأحکام الإلهیّة، کما هو الواضح.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 86 وبالجملة : یتوجّه إلی التقریب المزبور ـ مضافاً إلیٰ ما مرّ ـ : أنّ العلم المأخوذ فی موضوع تلک الأدلّة، لایستلزم المحذور الذی لایمکن حلّه کما عرفت، وأمّا العلم المأخوذ فی متعلّق الأحکام ـ حتّیٰ تکون الصلاة المعلوم وجوبها واجبة، وشرب الخمر المعلوم حرمته محرّماً، والصوم المعلوم حرمته حراماً ـ فإنّه فی هذه الصورة والفرض، یلزم إشکال لایندفع بما اندفع به فی الفرض الأوّل؛ وذلک أنّ العلم المأخوذ یستلزم الدور، کما یأتی، ویمکن دفعه بما سیمرّ علیک.
ولکن یلزم منه أن یکون الحکم الواقعیّ والجدّی تابع العلم؛ وهذه الصفة العرضیّة، وهذا خلاف المفروغ منه عند الإمامیّة، وخلاف الظاهر ممّا نسب إلیه صلی الله علیه و آله وسلم : «مامن شیء یقرّبکم إلی الجنّة إلاّ وقد أمرتکم به...».
وبالجملة : لایلزم من أخذ العلم فی المتعلّق محذور عقلیّ؛ لإمکان کون العلم بالحکم الإنشائیّ، موضوعَ الحکم الجدّی والفعلیّ؛ فإن کان جزء الموضوع، فیکون الجزء الآخر هو الحکم الإنشائیّ، ویصحّ أخذه حینئذٍ طریقاً أو صفةً؛ علی الوجه الذی عرفته آنفاً، ولاینبغی الخلط.
وإن کان تمام الموضوع، یکون الحکم الإنشائیّ متعلَّقاً، والعلم موضوعاً للحکم الجدّی الفعلیّ.
نعم مع الأسف، إنّ هذا لایتمّ فی التجرّی؛ لما لایکون هناک حکم إنشائیّ تعلّق به علم المتجرّی، فإنّ المتجرّی یعلم بالصوم وحرمته، ولایکون الصوم المعلومة حرمته مشروعاً فی الشریعة؛ لا فعلیّاً، ولا إنشائیّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 87 وبالجملة : الفعل المتجرّیٰ به فی الفرض الأخیر، هی صلاة الجمعة إذا اعتقد حرمتها، ثمّ ارتکبها، أو صوم عاشوراء إذا اعتقد حرمته، ثمّ أتیٰ به مثلاً، فإنّه یعدّ من الفعل المتجرّیٰ به لو کان الصوم فعلاً.
وهذا الفعل المتجرّیٰ به لایمکن تحریمه بالإطلاقات؛ لما لایکون هناک إطلاق یشمل الواقع والتخیّل، بخلاف الفعل المتجرّیٰ به فی الفرض الأوّل؛ فإنّ إطلاق أدلّة الواقع یمکن أن یشمل الخمر الواقعیّ والتخیّلی، فلایتمّ التقریب المزبور فی أمثال هذه الفروض. بل فی الفرض الأخیر مطلقاً، کما لایخفیٰ.
الوجه الثانی : مبتنٍ علیٰ ما تقدّم بطلانه: وهو أنّ الفعل المتجرّیٰ به قبیح، أو ذو مفسدة ملزمة، وکلّ قبیح یستلزم العقوبة، فیکون ـ بحکم الملازمة ـ حراماً شرعاً.
أو کلّ ذی مفسدة ملزمة ممنوع عقلاً، وبحکم الملازمة ممنوع شرعاً.
وقد مرّ فساد جمیع هذه المقدّمات بما لامزید علیه، حتّیٰ توهّم: أنّ المتجرّیٰ به قبیح بعنوان «المتجرّیٰ به» وبهذه الحیثیّة؛ لأنّ قبحه یرجع إلیٰ کونه ظلماً، ولا معنیٰ لکونه ظلماً، کما عرفت توضیحه.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 6)صفحه 88