المبحث الأوّل هل البحث عن التجرّی من المباحث الاُصولیة أم لا؟
قد قرّر أنّ المسائل الاُصولیة هی الکبریات التی وقعت فی طریق استنباط الأحکام الکلیّة الفرعیّة، أو یُنتهی إلیها فی مقام العمل؛ بحیث تکون نسبتها
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 43 إلیها کنسبة الکُبریات إلی النتائج، لاکنسبة الکلّیّات إلی المصادیق.
و لیعلم أنّ موضوع النتیجة وإن کان من مصادیق موضوع الکبری، والنتیجة من جزئیّات الکبری، إلاّ أنّ اختلاف الموضوعین عنواناً یکفی لکون أحدهما مقدّمة والآخر نتیجة.
و بهذا یجاب عن الدور الوارد علی الشکل الأوّل البدیهیّ الإنتاج، فما علم فی الکبری هو حدوث کلّ متغیّر بعنوانه، وما علم فی النتیجة هو حدوث العالم بعنوانه، فالعالم - مثلاًـ من المصادیق العَرَضیّة للمتغیّر، فهو غیر معلوم الحدوث بعنوانه الذاتیّ، أو بعنوان عرضیّ آخر، ومعلوم الحدوث بهذا العنوان العَرَضی، وبعد ترتیب الصغری والکبری یصیر معلوم الحدوث بعنوانه الذاتیّ أو العرضیّ الآخر، فإذن الفرق بینهما باختلاف العنوان.
و أ مّا الفرق بین المصادیق والکلّیّات فبالتشخّص واللاتشخّص مع حفظ العنوان، فأفراد الإنسان هو الإنسان المتشخّص.
فإذن الفرق بین المسائل الاُصولیّة والفقهیّة - مثل «کلّ مایُضمن بصحیحه یُضمن بفاسده» - هوأنّ المسائل الاُصولیّة تکون فی طریق الاستنباط، ولاتکون بعنوان ذاتها متعلّقاً للعمل، ویستنتج منها المسائل الفرعیّة الکلّیّة التی تکون متعلّقاً للعمل. مثلاً: حُجّیة خبر الواحد، أو عدم جواز نقض الیقین بالشکّ، وأمثالهما من المسائل الاُصولیّة، هی کبریات لاتکون بنفسها متعلَّقاً لعمل المکلَّف، بل یستنتج منها الوجوب والحرمة وسائر الأحکام المتعلِّقة بعمل
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 44 المکلَّف. و نسبة حرمة الخمر فی الشبهة الحکمیّة - مثلاًـ إلی الاستصحاب نسبة النتیجة إلی الکبری؛ فإنّ حرمة الخمر من المصادیق العَرَضیّة للاستصحاب، ومصادیقه الذاتیّة التی هی جزئیّات عدم نقض الیقین بالشکّ لم تکن مطلوبة للمکلَّف، ولم تکن متعلَّقة لعمله، بل مایستنتج من الاستصحاب هو مطلوبه. و إذا أخبرالثقة بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر، فعمل المکلَّف علی طبقه لایقال: إنّه مشغول بالعمل بخبرالواحد، بل یقال: إنّه مشغول بوظیفته التی هی صلاة الجمعة الواجبة علیه.
نعم إنّه مشغول بالعمل بخبرالثقة أیضاً، إلاّ أ نّه بعنوان عرضیّ غیر منظور إلیه.
و بعبارة اُخری: المجتهد - الذی [هو] من آحاد المکلفین - إذا تفحص عن خبرالثقة أو الاستصحاب - سواء تفحص عن حجیتهما أو تحققهما فی الموارد الخاصّة - لایکون مطلوبه الذاتیّ خبر الثقة والاستصحاب بعنوانهما، ولا مؤدّاهما بعنوان مؤدّاهما، بل مطلوبه مؤدّاهما بعنوان غیر عنوان المؤدّی. فوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمرـ اللذان هما المصداقان العرضیّان للمؤدی - مطلوبه، وأما إذا تفحّص عن مصادیق «ما یضمن بصحیحه» لایکون مطلوبه البیع أو الاجارة بعنوانهما، بل یکون مطلوبه وجدان المصداق الذاتی لهذه القاعدة - أی قاعدة مایضمن - تامل.
فتحصَّل مما ذکرنا: أن مطلوب المکلّف فی المسائل الاُصولیّة هو نتائجها، وفی القواعد الکلّیّة الفقهیة هو مصادیقها.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 45 فی الإیراد علی القائلین بکون التجری
من المباحث الاُصولیة
إذا عرفت ذلک: فاعلم أنّ مسألة التجری لم تکن من المسائل الاُصولیة، ولا وجه لإدراجها فیها إلا وجوه ذکرها المحققون، والکلّ منظور فیها.
منها: ماتسالموا علیه من أنّ البحث إذا وقع فی أن ارتکاب الشیء المقطوع حرمته هل هو قبیح أم لا؟ یندرج فی المسائل الاُصولیّة التی یستدلّ بها علی الحکم الشرعی.
و فیه: أنّ قبح التجری کقبح المعصیة وحسن الإطاعة وقع فی سلسلة المعلولات للأحکام الشرعیة، فلم یکن مورداً لقاعدة الملازمة علی فرض تسلیمها، فلو سلّمنا قبح التجری فلایُستنتج حکم شرعی البتة.
و أیضاً یلزم بناءً علیه أن یکون فی المعصیة معصیتان وفی الإطاعة طاعتان:
إحداهما: المعصیة والإطاعة الآتیتان من قبل نهی المولی وأمره.
والثانیة: ما یستکشف بالملازمة لقاعدتها.
ولاوجه لتخصیص القاعدة العقلیة بالتجری والانقیاد، وسیأتی فیما بعد عدم الفرق بین العاصی والمتجرّی من حیث التجرّی علی المولی.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 46 و بالجملة: المسألة الاُصولیّة ماتقع فی طریق الاستنباط، وقبح التجرّی ـ لو سلم - لایقع فی طریقه فلایکون منها.
و منها: مافی تقریرات بعض محققی العصر - رحمه اللّٰه -:
من أنّ البحث إذا وقع فی أنّ الخطابات الشرعیة تعمّ صورتی مصادفة القطع للواقع ومخالفته تکون المسألة من المباحث الاُصولیة.
و فیه ما لایخفی ؛ فإنّ دعوی إطلاق الخطاب وعمومه لایدرج المسألة فی سلک المسائل الاُصولیّة، فإنّها بحث صغرویّ مندرج فی الفقهیات، و قد عرفت أنّ المسائل الاُصولیة هی الکُبریات المستنتجة لکلّیّات الفروع، کالبحث عن حجّیة أصالة العموم والإطلاق، لا البحث عن شمولهما لموضوع، ولو کان البحث الکذائی من المسائل الاُصولیّة للَزِم إدراج جُلّ المسائل الفقهیّة فی الاُصول، فإنّه قلّما یتّفق فی مسألة من المسائل الفقهیّة ألاّ یقع البحث عن الإطلاق والعموم بالنسبة إلی بعض الموضوعات المشکوکة، وَ لعَمْری إنّ ما وقع منه لایخلو من غرابة.
و منها: مافی التقریرات - أیضاً - بما یرجع إلی الوجهین و قد عرفت مافیهما.
فتحصّل ممّا ذکرنا: أنّ مسألة التجرّی لاتندرج تحت المسائل الاُصولیّة، بل إمّا فقهیّة، أو کلامیّة بتقریبین.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 47