الموافقة الالتزامیّة
قوله: الأمرالخامس ... إلخ .
وفیه مطالب:
المطلب الأوّل فی حال الموافقة الالتزامیّة فی الاُصول والفروع
وتوضیحها یتوقّف علیٰ تمهید مقدّمات:
المقدمة الأولیٰ:
أنّ الاُصول الاعتقادیّة تکون علیٰ أقسام:
منها: ما هی ثابتة بالبرهان العقلیّ من غیر دخالة النقل والنصّ فیها، بل لو ورد فی الکتاب والسُنّة مابظاهره المنافاة لها لابدّ من تأویله أو إرجاع علمه إلی
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 141 أهله، کوجود المبدأ المتعال وتوحیده وسائر صفاته الکمالیّة وتنزیهه عن النقص، وکأصل المعاد بل والجسمانیّ منه - أیضاً - علیٰ ماهو المبرهن عند أهله، وکالنُبوّة العامّة وأمثالها من العقلیّات الصِّرفة، فما وقع فی کلام بعض أعاظم الُمحدّثین من أنّ المُعوّل علیه فی التوحید هو الدلیل النقلیّ ممّا لاینبغی أن یصغی إلیه، ولا یَستأهل جواباً وردّاً.
ومنها: ماهی ثابتة بضرورة الأدیان أودین الإسلام، کبعض أحوال المعاد والجنّة والنار والخلود فی النار وأمثالها، أو ضرورة المذهب.
ومنها: ما هی ثابتة بالنصّ الکتابی أو النقل المتواتر.
وأ مّا غیرها ممّا ورد فیه روایة أو روایات، فقد یحصل منها العلم أو الاطمئنان وقد لایحصل.
والفروع الشرعیّة أیضاً: تارةً تکون ثابتة بضرورة الدین کوجوب الصلاة الحجّ، وتارةً بضرورة المذهب کوجوب حبّ أهل البیت وحرمة بغضهم، وتارةً بالنقل المتواتر أوالنصّ الکتابی أو الإجماع، وتارةً بغیرها من الأدلّة الاجتهادیّة والفقاهتیة، وربّما تثبت بالعقل أیضاً.
المقدمة الثانیة:
أنّ الأحوال القلبیّة من الخضوع والخشوع والخوف والرجاء والرضا
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 142 والسخط وأمثالها إنّما تحصل فی النفس قهراً تبعاً لمبادئها الحاصلة فیها بعللها؟ بحیث لو حصلت المبادئ فیها تتبعها تلک الحالات بلا دخالة إرادة واختیار أصلاً.
مثلاً: العلم بوجود المبدأ وعظمته وقهّاریّته یوجب الخضوع والخشوع لدی حضرته - جلّت کبریاؤه - والخوف منه، والعلم برحمته الواسعة وجوده الشامل وقدرته النافذة یوجب الرجاء والوثوق.
وکلّما تمّت المبادئ وکملت، تمّت وکملت الحالات القلبیّة؛ أی درجات الثمرات تابعة لدرجات المبادئ، ولایمکن تحصیل النتائج إلاّ بتحصیل مبادئها، ولایمکن حصول تلک الحالات بالإرادة وجعل النفس من دون تحقّق المبادئ، ومع تحقّقها تحصل قهراً وتبعاً من غیردخالة الإرادة والاختیار فیها.
المقدمة الثالثة:
أنّ عقد القلب والالتزام بشیء والانقیاد والتسلیم القلبی لأمرٍ، من الأحوال القلبیّة التی لاتحصل بالإرادة والاختیار من دون حصول مبادئها، فضلاً عن حصولها مع تحقّق أضداد مبادئها أومبادئ أضدادها، فإذا حصلت مبادئها فی النفس لایمکن تخلّف الالتزام والتسلیم والانقیاد القلبیّ عنها، ولایمکن الالتزام بمقابلاتها وأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع، کما أنّ حصولها بدونها - أیضاً - ممتنع.
إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ الاُصول الاعتقادیّة البرهانیّة أوالضروریّة
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 143 أو غیرها إذا حصلت بمبادئها فی النفس لایمکن تخلّف الالتزام والتسلیم والانقیاد القلبیّ عنها، ولایمکن الالتزام بأضدادها؛ مثلاً من قام البرهان الأوّلیّ عنده علی وجود المبدأ المتعال ووحدته لایمکن له اختیاراً و إرادةً الالتزامُ وعقدُ القلب بعدم وجوده ووحدته تعالی، کما لایمکن عقد القلب حقیقة علی ضدّ أمر محقَّق محسوس، کعقد القلب علی أنّ النار باردة، وأنّ الشمس مظلمة، وأنّ الکوکب الذی یفعل النهار هوالمشتری، وقس علی ذلک کلیّة الاعتقادیّات والفرعیّات الضروریّة والمسلَّمة، فکما لایمکن عقد القلب والالتزام علی ضدّ أمر تکوینی لایمکن علی ضد أمر تشریعیّ بالضرورة والوجدان.
وما یتوهّم أنّ الکفر الجحودیّ یکون من قبیل الالتزام القلبیّ علی خلاف الیقین الحاصل لصاحبه - کما قال تعالی «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَیْقَنَتْها أنْفُسُهُم ظُلماً وَعُلُوّا» - فاسد؛ فإنّ الجحود عبارة عن الانکار اللسانیّ، لا الالتزام القلبی کما هو واضح.
وکذلک الحال فی الفرعیّات الثابتة بالطرق والأمارات وسائرالحجج الشرعیّة، فإنّ الالتزام بها والتسلیم لها مع حصول مقدّماتها والعلم بها قهریّ تبعیّ، لا إرادیّ اختیاریّ، والالتزام علی خلافها غیر ممکن، فلایمکن للّذی ثبت عنده بالحجّة الشرعیّة أنّ حکم الغسالة هو النجاسة أن یلتزم بطهارتها شرعاً، أو لایلتزم بنجاستها، إلاّ أن یرجع إلی تخطئة الشارع، وهو خلاف
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 144 الفرض.
فما اشتهر بینهم من حرمة التشریع ووجوب الموافقة الالتزامیّة، إن کان المراد من التشریع هوالبناء والالتزام القلبی علی کون حکم لم یکن من الشرع - أو لم یعلم کونه منه - أ نّه منه، ومن وجوب الالتزام هو الالتزام القلبی ـ بالاختیار والجعل - للأحکام الشرعیة والاُصول الاعتقادیّة، کما هو ظاهر کلماتهم بل صریحها، فهو ممّا لایرجع إلی محصّل، فإنّ التشریع بهذا المعنی غیر ممکن، فضلاً عن أن یکون متعلّقاً للنهی الشرعیّ، وکذلک الالتزامُ بالأحکام الشرعیّة - لمن یعتقد الرسالة، وثبتت عنده الأحکام بطرقها وأدلّتها - واجبُ التحقّق ممتنع التخلّف، ولایکون تحت اختیارالعبد وإرادته حتّی یکون مورداً للأمر.
وإن کان المراد من التشریع هو إدخال مالیس فی الدین فیه، افتراءً علی اللّٰه - تعالی - وعلی رسوله - صلّی اللّٰه علیه وآله - فهو أمر ممکن واقع محرّم بالضرورة، وکذلک الموافقة الالتزامیة إن کان المراد منها هوالبناء القلبی علی الالتزام العملی والإطاعة لأمر المولی، والمخالفة هی البناء علی المخالفة العملیّة، فهما أمران معقولان یکونان من شُعَب الانقیاد والتجرّی.
فتحصّل ممّا ذکر: أنّ وجوب الموافقة الالتزامیّة وحرمة مخالفتها - علی ما یستفاد من کلام القوم - ممّا لا أساس لهما أصلاً، وماذهب إلیه بعض سادة
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 145 مشایخنا - رحمهم اللّٰه - فی القضایا الکاذبة من التجزّم علی طبقها، وجعله مناطاً لصیرورة القضایا ممّا یصحّ السکوت علیها، وأنّ العقد القلبیّ علیها یکون جعلیّاً اختیاراً.
وقال شیخنا العلاّمة - أعلی اللّٰه مقامه -: إنّ حاصل کلامه: أ نّه کما أنّ العلم قد یتحقّق فی النفس بوجود أسبابه، کذلک قد تخلق النفس حالة وصفة علی نحو العلم حاکیة عن الخارج، فإذا تحقّق هذا المعنی فی الکلام یصیر جملةً یصحّ السکوت علیها؛ لأنّ تلک الصفة الموجودة تحکی جزماً عن تحقّق النسبة فی الخارج. انتهی.
فیرد علیه: أنّ العلم والجزم لیسا من الاُمور الجعلیّة الاختیاریّة، فإنّهما من الاُمور التکوینیّة التی لاتوجد فی النفس إلاّ بعللها وباسبابها التکوینیّة، فهل یمکن جعل الجزم فی النفس بأنّ الواحد لیس نصف الاثنین بل هو نصف الثلاثة، وأنّ النقیضین یجتمعان ویرتفعان؟!
وأ مّا الاخبارات الکاذبة إنّما تکون بصورة الجزم، ولیس فی واحد منها حقیقة الجزم الجعلیّ بل إظهار الجزم، والمناط فی صحّة السکوت هو الاخبار الجزمی؛ أی الاخبارالذی بصورة الجزم، ولاربط للجزم القلبی فی صحّة السکوت وعدمه، ولهذا لو أظهر المتکلّم ماهو مقطوع به بصورة التردید لاتصیر القضیّة ممّا یصحّ السکوت علیها.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 146 اللّهمّ إلاّ أن یقال: إنّ فی تلک القضایا المظهَرة بصورة التردید ینشئ المتکلّم حقیقة التردید فی النفس، ویصیر مردّداً جعلاً واختراعاً، وهو کما تری.
فتحصّل: أنّ جعلیّة هذه الأوصاف النفسانیّة ممّا لاوجه صحّة لها.
انوارالهدایة فی التعلیقة علی الکفایةج. 1صفحه 147