البحث الثانی: مقتضیٰ الأصل العقلائی فی الوجوب التخییریّ
لا شبهة فی أنّ المتبادر العرفیّ والمتفاهم العقلائیّ من الأدلّة المتکفّلة لإثبات الواجب التخییریّ: أنّ کلّ واحد من الطرفین أو الأطراف، موصوف بنوع من الوجوب المعبّر عنه ب «الوجوب التخییریّ» وأنّ کلّ واحد من الأطراف بخصوصیّته متعلّق الإیجاب، لا أمراً آخر؛ سواء کان ذلک الأمر الآخر عنواناً انتزاعیّاً، أو عنواناً ذاتیّاً وجامعاً قریباً، ومن غیر فرق بین کیفیّة الأداء؛ بأن یخلّل کلمة «أو» مع تکرار الصیغة، أو لم یکرّر صیغة الأمر أو ما یقوم مقامها.
بل الدعویٰ: أنّ المتفاهم العرفی من قوله: «یجب علیک إکرام واحد من العلماء» أو «أحدهم» أنّ الوجوب موضوعه عنوان «العالم» ویکون تخییریاً، لا تعیینیاً کسائر الواجبات التعیینیّة.
وبعبارة اُخریٰ: العناوین المأخوذة تحت الهیئة وما فی حکمها، إذا کانت من قبیل العناوین الذاتیّة، فهی ظاهرة فی الوجوب التعیینیّ، فإذا قال: «صلّوا وزکّوا»
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 5 تکون الصلاة واجبةً تعیینیّةً، بخلاف ما إذا کانت من قبیل العناوین الانتزاعیّة، أو بعض منها من قبیل عنوان «الأحد» و«الواحد» فإنّ ذهن العرف ینصرف منها إلیٰ أنّ الواجب؛ هو منشأ الانتزاع، ویکون فی قوله: «تجب إحدیٰ هذه الخصال الثلاث» الواجبُ عنوانَ ذاتیّ الخصال، کالعتق والصوم والإطعام تخییراً.
ومن الغریب دعویٰ بعض الفضلاء المعاصرین: ظهورَ الأدّلة الشرعیّة فی أنّ الواجب هو عنوان «الأحد» و«الواحد» مطلقاً، فینکر علیٰ هذا الواجبات التخییریّة!! ضرورة أنّ معنیٰ ذلک أنّ ما هو الواجب، هو العنوان الانتزاعیّ تعییناً، إلاّ أنّ تطبیقه بید المکلّفین فی نطاق اعتبره الشرع، فلا تغفل، ولا تخلط.
ولا حاجة فی إبطاله إلئ شیء غیر الإحالة إلیٰ الوجدان والذوق. نعم، لا بأس بذلک إذا اقتضت الضرورة، کما یأتی.
فبالجملة: هذا هو الأصل العقلائیّ فی المسألة، وحیث إنّ الوجوب التخییریّ الشرعیّ یستتبع شبهات؛ بین ما تتوجّه إلیٰ مطلق الأقسام المزبورة، وبین ما تتوجّه إلیٰ صنف خاصّ منه، ولأجل تلک الشبهات بنوا علی العدول عمّا هو الظاهر الابتدائیّ إلیٰ المسالک المختلفة فی تفسیر «الواجب التخییریّ» فلابدّ أوّلاً من النظر إلیٰ الشبهات العامّة، وثانیاً إلیٰ الشبهات الخاصّة، فإن کانت هی تامّة فنأخذ بما هو الأقرب إلیٰ تلک الأدلّة، وإلاّ فیتّبع الأصل المزبور.
وغیر خفیّ: أنّ کثیراً من الأعلام والأفاضل غفلوا عن هذه النکتة، وظنّوا أنّ الأصحاب اختلفوا فی معنی «الواجب التخییریّ» غافلین عن أنّ هذا الاختلاف ناشئ من الإشکالات العقلیّة، وإلاّ فلا خلاف فیما هو الأصل، کما عرفت وتحرّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 6