الجهة الثانیة فی أنّ صیغة الأمر هل هی موضوعة لمعنیً واحد أو لمعانٍ متعدّدة ؟
ذکر لصیغة الأمر معانٍ ، کما ذکر لهمزة الاستفهام معانٍ .
فیقع الکلام فی أنّ تلک المعانی هل معانیها بنحو الاشتراک اللفظی ، أو لها معنیً واحد ـ وهو البعث أو إنشاء الطلب ـ والدواعی الکثیرة لا توجب المجازیة أو أنّ فی واحد منها حقیقة وفی الباقی مجاز ؟ وجوه ، بل أقوال .
والظاهر أنّ المتبادر من صیغة الأمر : هو البعث والإغراء الاعتباری فی عالم
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131 الاعتبار ـ أعنی فی دائـرة المولویة والعبودیة ـ والمعانی الکثیرة التی عدّت لصیغة الأمـر لیست معانیها ، ولم توضع الهیئة لها ، ولـم تستعمل فیها فی عـرض استعمالها فی البعث والإغراء .
بل هی مستعملة فیها مجازاً علیٰ حذو سائر الاستعمالات المجازیة ؛ حیث لم یستعمل اللفظ فیها فی غیر ما وضع له ، بل استعمل فیما وضع له ؛ لیتجاوز منه إلی المعنی المراد جدّاً ؛ للعلاقة .
مثلاً : لفظ «الأسـد» فی قوله : «رأیت أسداً یرمـی» لم یستعمل فـی الرجل الشجاع ، بل استعمل فـی معناه الواقعی ، کما فی قوله : «رأیت أسـداً» مریـداً به الحیوان المفترس .
نعم ، یستعمل لفظ «الأسد» تارة ویرید منه الأسد الواقعی ؛ فیکون حقیقة فیه ، من «حقّ الشیء» إذا ثبت ، فکأنّه اُرید أن یثبت ذهن السامع فیه ، ولا یتجاوزه إلیٰ غیره . کما یستعمل اُخریٰ ویرید منه التجاوز منه إلیٰ غیر معناه الموضوع له ، بادّعاء أنّه عینه ؛ فیکون مجازاً ، من «جاز» إذا تعدّیٰ ، فکأنّ المتکلّم بحسب القرینة یرید انصراف ذهن السامع من الأسد الواقعی إلی الرجل الشجاع .
وما أسمعناک فی الاستعمالات المجازیة هو الذی ذکره المشهور فی خصوص الکنایة ؛ حیث قالوا : إنّ اللفظ فی باب الکنایة یستعمل فیما وضع له ؛ لینتقل منه إلی المعنی المراد بذلک اللفظ .
مثلاً قوله : «زید کثیر الرماد» إذا استعمل ذلک واُرید منه انتقال ذهن السامع إلی لازمه ـ الذی هو عبارة عن جوده وکرمه ـ تکون کنایة . وأمّا إذا استعمل واُرید منه إفادة معناه فقط لا یکون کنایة .
وقد استعملت فی قوله تعالی : «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» فی معناه لینتقل
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132 الذهن منه إلیٰ عدم قدرتهم علی إتیان مثله .
وأمّا فی غیر باب الکنایة ـ من سائر أنواع المجازات ـ فیرون أنّ اللفظ فیها مستعمل فی غیر ما وضع له .
ولکن الذی یحکم به الذوق السلیم ، وتقتضیه البلاغة : أنّ اللفظ فی غیر باب الکنایة ـ من سائر أنواع المجازات ـ أیضاً استعمل فیما وضع له ، ولا فرق بین الکنایة وسائر أنواع المجازات من هذه الجهة .
ولذا یسری الصدق والکذب فی هذه القضایا أیضاً ؛ فإنّ من یقول : «کنت اُقدّم رجلاً واُؤخّر اُخریٰ» مثلاً فإمّا یرید معناه الحقیقی ، أو یرید منه لازمه ، الذی هو عبارة عن التحیّر والاضطراب .
وصدقه علی الأوّل إنّما هو إذا تقدّم أحد رجلیه وأخّر اُخراه ، وکذبه عدم ذلک . وأمّا صدقه علی الثانی فإنّما هو إذا حصلت منه حالة التحیّر والاضطراب ، وکذبه إنّما هو فیما لم یحصل منه تلک الحالة ، وإن تقدّم أحد رجلیه وأخّر اُخراه .
وبالجملة : أنّ الاستعمالات المجازیـة برمّتها لم تکـن استعمالات الألفاظ فـی غیـر ما وضعت لها حتّیٰ یکـون التلاعب بالألفاظ ، بل استعمالات لها فیما وضعت لها ؛ فالتلاعب إنّما هـو فی المعانـی حسب ما فصّلنـاه فـی الجـزء الأوّل مـن هـذا الکتاب فلاحظ .
ولم یشذّ منها صیغة الأمر وهمزة الاستفهام ، بل استعمل کلّ منهما فی معناهما الموضوع له ؛ من إیجاد البعث الاعتباری والاستفهام .
غایة الأمر : استعملت هیئة الأمر ـ مثلاً ـ فی البعث لیحقّ ویثبت ذهن السامع علیه ، ویفهم منها ذلک ، فیبعث إلی المطلوب ، فیکون حقیقة . وربّما تستعمل فیه ، لکن لیتجاوز ذهنه إلی المعنی المراد جدّاً بعلاقة ونصب قرینة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133 ففی قوله تعالی : «أمْ یَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیٰاتٍ» استعملت هیئة الأمر فی البعث ، لکن لا لغرض البعث ، بل للانتقال منه إلی خطأهم فی التقوّل علیٰ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، أو لتعجیزهم عن الإتیان بمثل القرآن ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134