حکم الغناء وماهیّته
المسألة الثانیة: فی الغناء
فقد اختلف الکلمات فی ماهیّته وحکمه، ففسِّر بالسماع، وبالصوت، وبالصوت المطرب، وبالصوت المشتمل علی الترجیع؛ أو هو مع الإطراب، وبالترجیع، وبالتطریب؛ وبه مع الترجیع، وبرفع الصوت مع الترجیع، وبمدّه، وبمدّه مع الترجیع والتطریب؛ أو أحدهما، وبتحسین الصوت، وبحسنه ذاتاً، وبمدّه وموالاته، وبالصوت الموزون المفهم المحرّک للقلب، وبمدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب، أو ما یسمّی فی العرف غناء وإن لم یطرب، وبالصوت اللهوی، وبألحان أهل المعاصی و الکبائر، وبما کان مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص، وبالصوت المعدّ لمجالس اللهو، وبالصوت المثیر لشهوة النکاح، إلیٰ غیر ذلک.
وعن المشهورأ نّه مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 299
تفسیر العلاّمة الشیخ محمد رضا الإصفهانی للغناء وماهیّته
وقد تصدّی العلم الفقیه الشیخ محمد رضا آل الشیخ العلاّمة الشیخ محمد تقی ـ رحمهما الله ـ لتفسیره فی رسالة لطیفة مستقلّة فقال:
«الغناء صوت الإنسان الذی من شأنه إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، والطرب هو الخفّة التی تعتری الإنسان فتکاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسکر لمتعارف الناس أیضاً».
ثمّ تصدّی لتشییده بذکر مقدّمة حاصلها:
«أنّ الغناء من أظهر مظاهر الحسن ولأجله یطلبه من یطلبه، فلابدّ لبیان ناموس الحسن:
فأقول: الحسن وإن کان مماّ تحیّر فیه العقول ویدرک و لایوصف ولکنّه فی المرکّبات لایخرج عن حدّ التناسب، فأینما وجد فالتناسب سببه، فالخط الحسن ما تناسبت واواته ومیماته، والشعر الحسن ما تناسبت ألفاظه ومعانیه، ولایوصف الحیوان بالحسن إلاّ إذا تناسبت أعضاؤه، ولایقال للوجه: إنّه جمیل إلاّ إذا تناسبت أجزاؤه، وهکذا.
والصوت بین مظاهر الحسن من أکثرها قبولاً للتناسب، فإذا کان الصوت متناسباً بمه، وزیره، و بزاته، ومدّه، و ارتفاعه، وانخفاضه، واتصاله، و انفصاله، سمّی بالغناء.
وقد وضع لبیان هذه النسب وأقسامها فنّ الموسیقی الذی هو أحد أقسام
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 300
العلوم الریاضیّة.
ویخصّ فنّ تناسب الآلات باسم الإیقاع، والعود بینها میزان الغناء، یعرف به صحیح الغناء من فاسده، کما یعرف بالمنطق صحیح القضایا من فاسدها. وعلی أوتارها الأربعة وکیفیّة شدّها والإصبع التی یضرب بها یعرف أقسام الغناء.
ثمّ قال: وإذا أنشد الشعر علی طبق مقرّرات الفنّ، أوجب لسامعه إذا کان من متعارف الناس، الطرب الخارج عن المتعارف، حتّی یکاد أن یفعل فعل المسکر فیصدر من الشریف الحکیم ما یأنف منه الأنذال من أقوال وأفعال یشبه أقوال السکاری وأفعالهم، وفی کتب المحاضرات والتاریخ نجد حکایات إن تأمّلتها علمت أنّ ولع الغناء بالعقل لایقصر عن الخمر بل یربو علیه.
ثمّ قال: تقیید الصوت بصوت الإنسان لمتابعة العرف، فإنّ أصوات البلابل وإن تناسبت وأطربت لایسمّی غناء، وبقید التناسب یخرج ما أوجب الطرب بغیره من حسن الصوت اللغوی ذاتاً أو لحسن صاحبه، أو لحسن ألفاظه ومعانیه ونحو ذلک، وبقید المتعارف یخرج الخارج عنه، فلا اعتبار بمن هو کالجماد کما لا اعتبار بمن یطرب بأدنی سبب کما أنّ الحال کذلک فی حدّ المسکر، وبقولی: تکاد أن تذهب بالعقل یخرج الطرب الخفیف، إذ لا اعتبار به کما لا اعتبار بالفرح والنشاط الحاصلین من بعض المشروبات المفرّحة ما لم یبلغ مرتبة یزیل العقل عن المتعارف.
وبالجملة الطرب فی الغناء کالسکر فی الشراب، والعلّة فی تحریمه عین العلّة فیه وهو إزالة العقل.
ثمّ تصدّی لبیان عدم الاختلاف فی کلمات علماء اللغة فی ذلک وأنّ مغزی الجمیع واحد وإن اختلف التعبیر.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 301
ثمّ قال: وفذلکة القول أنّ الغناء هو الصوت المتناسب الذی من شأنه بما هو متناسب أن یوجد الطرب أعنی الخفّة بالحدّ الذی مرّ.
فما خرج منه فلیس من الغناء فی شیء وإن کان الصائت رخیم الصوت حسن الأداء وأحسن کلّ الإحسان، ووقع من سامعه أقصی مراتب الاستحسان. کما أ نّه من الغناء الصوت المتناسب وإن کان من أبحّ ردیّ الصوت ولم یطرب بل أوجب عکس الطرب کما قیل:
إذا غنانی القرشی دعوت الله بالطرش
فبین کلّ من الغناءوالصوت المستحسن عموم من وجه، وهومحرّم أیضاً کالغناء الحسن لعموم الأدلّة، إلاّ أن یدّعی انصرافها إلیٰ ما أوجب الطرب الفعلی. ولقد أحسن الشیخ ـ قدس سره ـ فی قوله: ما کان مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص.
وکأ نّه تحاول ما ذکرناه، فإنّ النسب الموسیقیة تنطبق علی النسب الإیقاعیة، و لذلک یطابق أهل اللهو بینهما.
وقد اعترض أستاذ الصناعة علی الرشید بأنّ مغنّیک یغنّی بالثقیل وعوّادک یضرب بالخفیف، فالصوت الخالی عن النسبة لایکون غناءً وإن أوجب الطرب وقصد به اللهو، کما أنّ مجرّد تحریک الأوتار لایقال له ضرب و لایکون محرّماً، وکذلک مجرّد تحریک الأعضاء لایکون رقصاً ما لم یکن علیٰ النسب المعیّنة». انتهی ملخّصاً.
وإنّما نقلناه بتفصیل، أداء لبعض حقوقه و لاشتماله علی تحقیق وفوائد.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 302
المناقشة فی بعض ما ذکره ـ رحمه الله ـ فی الغناء
والإنصاف أنّ ما ذکره وحقّقه أحسن ما قیل فی الباب، وأقرب بإصابة الواقع وإن کان فی بعض ما أفاده مجال المناقشة، کانتهائه حدّ الإطراب بما یکاد أن یزیل بالعقل، وأنّ العلّة فی الغناء عین العلّة فی المسکر، وذلک لعدم الشاهد علیه فی العرف واللّغة.
لصدق الغناء علیٰ ما لم یبلغ الإطراب ذلک الحدّ ولم یکن من شأنه ذلک أیضاً.
فإنّ للغناء أقساماً کثیرة ومراتب کثیرة غایة الکثرة فی الحسن والإطراب:
فربّما بلغ فیه غایته کما لو کان الصوت بذاته فی کمال الرقّة والرخامة وکان الصائت ماهراً فی البحور الموسیقیة، وکان البحر مناسباً له کالبحر الخفیف مثلاً، فحینئذ لایبعد أن یکون مزیلاً للعقل، ومهیجاً للحلیم، وموجباً لصدور أعمال من الشریف الحکیم ما لایصدر من الأنذال والأرذال، وإن کانت القضایا المحکیّة عن بعض أهل الکبائرکبعض خلفاء الأمویّین والعباسیّین لم یثبت کونها لمحض الغناء، فإنّ مجالس تغنّیهم کانت مشحونة بأنواع الملاهی و المعاصی، کشرب الخمور وأنواع آلات اللهو والترقّص وغیرها حتی القضیة المعروفة من ولید ـ لعنه الله ـ مع مغنّیه لم یحرزکونها للغناء محضاً.
وربّما لایکون بتلک المرتبة کما لعلّه کذلک غالباً.
وکلمات اللغویّین أیضاً لایساعده، لعدم تقیید مهرة الفنّ بحصول تلک
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 303
المرتبة، بل هم بین من فسّره بخفّة تعتری الإنسان لشدّة حزن أو سرور أو خفّة لسرور أو حزن.
نعم، فی المنجد: طرب اهتزّ واضطرب فرحاً أو حزناً.ولعلّ مراده الاهتزاز والاضطراب فی الروح، کما عن الغزالی تفسیره بالصوت الموزون المفهم المحرّک للقلب، وأراد بالأوّل الخفّة الحاصلة من السرور، وبالثانی الخفّة الحاصلة من الحزن، فیوافق غیره.
ویرد علیه أیضاً أنّ الظاهر منه فی مقدّمته وتحدیده أنّ السبب الوحید للحسن فی المرکّبات هو التناسب وأنّ الصوت بتناسبه موجب للطرب أوله شأنیّته.
مع أ نّه ـ مضافاً إلیٰ منافاته لما قال: إنّ من الغناء الصوت المتناسب وإن کان من أبحّ ردیّ الصوت ولم یطرب بل أوجب عکس الطرب، ثمّ تمثّل بقول الشاعر، فإنّ صریح کلامه فی الحدّ أنّ الغناء هو ما یکون مطرباً، وصریحه هاهنا أنّ من الغناء ما لم یطرب بل أوجب العکس.
وتوهّم أنّ المراد بالثانی عدم حصوله بالفعل وإن کان له شأنیّته فاسد، لأنّ صوت أبحّ ردیّ الصوت لاشأنیّة له لإیجاد الطرب بالحدّ المذکور غالباً بل دائماً، وأمّا صیرورته أحیاناً موجباً للأضحوکة والفرح، فلایوجب أن یکون مطرباً کالغناء، لأنّ الطرب هو الخفّة والحال الخاصّ الذی یحصل بالتغنّی لامطلق الفرح. مضافاً إلیٰ أ نّه لایعتبر فی الغناء مطلقاً فعلیّة الطرب، وعلی التوهّم المتقدّم یلزم اعتبار الفعلیّة فی نوع منه ـ إنّ کون السبب الوحید فی المرکّبات هو التناسب، ممنوع.
ففی المقام لو لم یکن للصوت رقّة ورخامة ولطف وصفاء ولو فی الجملة
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 304
لایصیر بالتناسب حسناً، کصوت القرشی المنکر الذی یدعو الله السامع بالطرش. وبالجملة، الصوت المنکر الردیّ لایکون غناءً عرفاً وإن کان صائته من مهرة الفنّ وأوجده بکمال التناسب، والظاهر أنّ تسمیة القائل صوت القرشی غناء من باب التهکّم والاستهزاء، کتسمیة البخیل بحاتم، والجبان بالأسد.
بل لو کان صوت من أبحّ ردیّ الصوت مع تناسب یعلم به بعض المطربین والمهرة ویکون موجباً للطرب والخفّة، لایکون غناءً فإنّ بعض المطربین علی ما حکی یکون بکیفیّة صوته مع رداءته موجباً لتفریح الحضّار وحصول الخفّة لهم بالحدّ الذی ذکر أکثر من المغنّی الذی یکون بغناه موجباً له، إلاّ أن یقال: إنّ الطرب الحاصل من الغناء غیر الفرح الحاصل من الصوت المذکور سنخاً کما لایبعد. وکیف کان لیس صوت مثل القرشی غناء سواء حصل منه الطرب أم لا.
وأمّا دعواه بأنّ مرجع جمیع التعاریف إلی ما ذکره، ففیها ما لایخفی بل یمکن أن یقال: إنّ ما ذکره غیر موافق لواحد منها.
نعم، الظاهر أنّ المراد بالسماع أو الصوت هو الاصطلاحی منهما لکنّهما لیسا تعریفاً حقیقة کما لایخفی. ورجوعهما إلی تعریفه محلّ إشکال یظهر ممّا ذکرناه و نذکره.
کما أنّ التوجیه الذی ارتکبه لکلام الشیخ الأنصاری، أی قوله: ما کان مناسباً لبعض آلات اللهو والرقص، فالظاهر بل المعلوم غیر وجیه، لعدم کون مراده من هذا الکلام هو بیان تناسب النسب الموسیقیّة والإیقاعیّة.
تعریف الغناء وحدّه
فالاُولیٰ تعریف الغناء بأ نّه صوت الإنسان الذی له رقّة وحسن ذاتی ولو فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 305
الجملة، وله شأنیّة إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس.
فخرج بقید الرقّة والحسن صوت الأبحّ الردیّ الصوت. وإنّما قلنا له شأنیّة الإطراب، لعدم اعتبار الفعلیّة بلاشبهة، فإنّ حصول الطرب تدریجی قد لایحصل بشعر وشعرین فتلک الماهیّة ولو بتکرار أفرادها لها شأنیّة الإطراب.
وهذا بوجه نظیر ما ورد فی المسکر بأنّ ما کان کثیره مسکراً فقلیله حرام فإنّ الحکم تعلّق بالطبیعة التی من شأنها الإسکار ولاینافی عدم مسکریّة قلیلها. وماهیّة الغناء کذلک، فلاینافی عدم مطربیّة بعض مصادیقه فعلاً.
وقید التناسب لأجل أنّ الصوت الرقیق الرخیم إن لم یکن فیه التناسب الموسیقی لایکون مطرباً ولاغناءً، بل لایتّصف بالحسن حقیقة. فالمدّ الطویل لایکون غناء ولامطرباً ولو کان فی کمال الرقّة والرخامة، ولوقیل إنّه حسن یراد به رقّته ورخامته وصفاؤه الذاتی.
والتقیید بشأنیّة الطرب لمعرفیّة التناسب الخاصّ أی التناسب الذی من واحد من الألحان الموسیقیّة، فهو فی الحقیقة من باب زیادة الحدّ علی المحدود.
وبما ذکرناه تظهر الخدشة فی الحدّ المنتسب إلی المشهور، وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب، فإنّ الغناء لایتقوّم بالمدّ ولا الترجیع، ففی کثیر من أقسامه لایکون مدّ ولاترجیع.
ولعلّ القیدین فی کلماتهم لأجل کون المتعارف من الغناء فی أعصارهم هو ما یکون مشتملاً علیهما، فظنّ أ نّه متقوّم بهما.
کما أنّ المطربیّة الفعلیة غیر معتبرة فیه بما مرّ وأنّ الصوت ما لم یکن فیه رخامة وصفاء لیس بغناء.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 306
ثمّ إنّ ما ذکرناه فی المقام هو تحصیل ماهیّة الغناء من غیر نظرإلی ما کان موضوعاً للحکم الشرعیّ، ولعلّ موضوعه أعمّ أو أخصّ وسیأتی الکلام فیه.
فتحصّل من ذلک أنّ الغناء لیس مساوقاً للصوت اللهوی والباطل، ولا لألحان أهل الفسوق والکبائر، بل کثیر من الألحان اللهویّة وأهل الفسوق والأباطیل خارج عن حدّه، ولایکون فی العرف والعادة غناء، ولکلّ طائفة من أهل اللهو والفسوق والتغنّی شغل خاصّ فی عصرنا، ومحالّ خاصّة معدّة له، ولشغله وصنعته اسم خاصّ یعرفه أهل تلک الفنون.
ثمّ إنّ مقتضی کلمات کلّ من تصدّی لتحدید الغناء أ نّه من کیفیّة الصوت أو الصوت نفسه، ولیست مادّة الکلام دخیلة فیه، ولافرق فی حصوله بین أن یکون الکلام باطلاً أو حقّاً وحکمة أو قرآناً أو رثاءً لمظلوم، وهو واضح لاینبغی التأمّل فیه.
حرمة الغناء وبیان الأخبار الواردة فیه
وأمّا حکمه فقد وردت روایات مستفیضة أو متواترة علی حرمته، وهی علی طوائف:
منها: ما وردت فی تفسیر قوله تعالی: «واجتنبوا قول الزور» بأ نّه الغناء: کصحیحة هشام عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ فی قوله تعالی: «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور»، قال: «الرجس من الأوثان الشطرنج، وقول الزور الغناء».
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 307
وقد فسِّر به فی روایة زید الشحّام وأبی بصیر وعبد الأعلی وغیرهم.
والظاهر المتفاهم من عنوان قول الزور هو القول الباطل باعتبار مدلوله کالکذب وشهادة الباطل والافتراء، والغناء کما عرفت من کیفیّة الصوت، أو الصوت بکیفیّة، وهوعنوان مغایر لعنوان الکلام والقول.
وفسرّت الآیة بقول القائل للمغنّی: أحسنت فی صحیحة حمّاد بن عثمان عن أبی عبدالله ـ علیه السلام ـ، مع أنّ قول أحسنت لیس بنفسه باطلاً وزوراً، وإنّما أطلق علیه باعتبار تحسین الغناء.
فیقع الکلام فی کیفیّة إرادة الکلام الباطل باعتبار مدلوله والغناء الذی صوت أو کیفیّته بکلام واحد، وکذا کیفیّة إرادة قول القائل أحسنت من قول الزور، هل هی من قبیل المجاز اللغویّ المشهور مع استعمال اللفظ فی أکثر من معنی واحد أی فی معنی حقیقیّ ومجازیّ بعلاقة کعلاقة الحالّ والمحلّ.
أو من قبیل الحقیقة الادعائیّة علی ما سلکناه فی المجازات تبعاً لبعض مشایخنا ـ رحمه الله ـ بمعنی استعمال قول الزور فی معناه، وادّعاء أنّ الغناء منه، وکذا قول القائل للمغنّی أحسنت.
أو من قبیل إطلاق قول الزور وإرادة مطلق الباطل بنحو من الادّعاء حتّی یدخل فیه المزامیر والمعازف وغیرهما.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 308
أو أراد من قول الزور القول المشتمل علی الباطل مدلولاً وعلی الغناء جمیعاً، حتی لاتدلّ الآیة ولا الروایات المفسّرة لها علی حرمة الغناء بنفسه.
أو أراد بقول الزور القول المشتمل علی الباطل، إمّا نحو اشتمال الکلام علی مدلوله، أو نحو اشتمال الموصوف علی صفته وإضافة القول إلی الزور لاتّحاده معه اتّحادالصفة مع الموصوف، فالقول زور باعتبار اشتمال مدلوله علی الباطل وزور باعتبارصفته وهو الصوت الخاصّ، فیکون الغناء مستقلاً محکوماً بوجوب الاجتناب، والکلام المشتمل علی الباطل بحسب مدلوله أیضاً محکوم به؟
ولعلّ هذا الاحتمال الأخیر أو ما یرجع إلیه ممّا تقدّم أقرب الاحتمالات إلی ظواهر الأخبار المفسّرة کما اختاره بعض المدقّقین، لأنّ الظاهر منها أنّ قول الزور هو الغناء أو هو من قول الزور، ومع قیام القرینة العقلیّة بأ نّه لیس من مقولة القول یدور الأمر بین رفع الید عن ظاهر جمیع الأخبار المفسّرة الدالّة علی أنّ الغناء الذی هو صوت خاصّ هو قول الزور بتمام مصادیقه، وحملها علی قسم خاصّ متحقّق مع کلام خاصّ مدلوله الباطل والزور کما احتمله الشیخ و اختاره.
وبعبارة اخری إنّ الظاهر من الأخبار هو أنّ الغناء تمام الموضوع لصدق قول الزور علیه ومستعمل فیه، فعلی الاحتمال الذی رجّحه الشیخ لابدّ من رفع الید عن هذا الظاهر مع عدم حفظ ظهور الآیة أیضاً، فإنّ ظاهرها حرمة قول الزور، والحمل علی الغناء بما ذکر، حمل علی غیر مدلولها بحسب فهم العرف. بل هو حملها علی قسم خاصّ منه، تأمّل.
وبین حفظ ظهور الأخبار وحملها علی الغناء بالمعنی الحقیقی المعروف مع
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 309
حفظ ظاهر الآیة من حیث تعمیمها بالنسبة إلی جمیع الأقوال الباطلة.
وإن نعمّمها لأمر آخر لم نعمّمها له لولا الأخبار، وهو إرادة الزور باعتبار الوصف الحاصل له وهو الغناء.
والحاصل أ نّه بناء علی ما رجّحه الشیخ فی معنی الآیة بضمیمة الروایات إنّ الغناء لیس قول الزور ولا هو من قول الزور، وأمّا علی ما ذکرناه فإنّه هو لاتّحادهما خارجاً وصدق أحدهما علی الآخر بالحمل الشائع.
ولو فرضت المناقشة فیما ذکرناه فلا أقلّ من دخول الغناء تعبّداً فیه، ومقتضی إطلاق الأدلّة أ نّه بذاته و بلاقید قول الزور.
نعم، هنا إشکال آخر، وهو أنّ قول الزور إن کان مطلق الباطل المقابل للحقّ، والمراد بالباطل ما لایکون فیه غرض عقلائی وما لادخالة له فی المعاش والمعاد، فلا شبهة فی عدم حرمته بهذا الإطلاق وبهذا العرض العریض.
فیدور الأمر بین حفظ ظهور هیئة الأمر فی قوله: «واجتنبوا قول الزور» فی الوجوب، وتقیید قول الزور بقسم خاصّ وهو المحرّمات الشرعیّة، فتکون الآیة لبیان إجمال ما فصّل فی الشریعة من المحرّمات، کقوله تعالی: «ویحرّم علیهم الخبائث» بناءً علی أنّ المراد بها المحرّمات.
وبین حفظ إطلاق قول الزور وحمل الأمر علی الرجحان المطلق.
ولاترجیح للأوّل إن لم نقل أ نّه للثانی، لشیوع استعمال الأمر فی غیر الوجوب وبعد رفع الید عن الإطلاق.
وعلیه لا دلالة للآیة الکریمة ولا للأخبار الدالّة علی أنّ قول الزور الغناء علی حرمته.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 310
ویمکن أن یجاب عنه بأنّ سیاق الآیة وذکر قوله: «واجتنبوا قول الزور» فی تلو «اجتنبوا الرجس من الأوثان» یوجب قوّة ظهور فی أنّ الأمر للوجوب سیّما مع إشعار مادّة الاجتناب بذلک، فیصیر قرینة علی أنّ المراد من قول الزور لیس مطلق القول الباطل.
مضافاً إلی إمکان أن یقال: إنّ قول الزور لیس مطلق القول الباطل بالمعنی المتقدّم، بل باطل خاصّ عرفاً کالکذب والافتراء والسخریّة ونحوها، فلایقال عرفاً لمطلق القول الذی لادخالة له فی المعاد والمعاش أ نّه قول الزور بل لعلّه لایکون باطلاً.
ویؤیده تفسیر الآیة بالأقوال المحرّمة کالکذب وتلبیة المشرکین لبّیک لاشریک لک إلاّ شریکاً هو لک تملکه وما ملک. وعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلمأ نّه قام خطیباً فقال: «یا أیّها الناس، عدلت شهادة الزور بالشرک بالله» ثمّ قرأ: «فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور»، وهو مؤیّد لما ذکرناه من السیاق.
الغناء بذاته محرّم
فتحصّل من جمیع ما تقدّم أنّ الآیة الکریمة بضمّ الروایات المفسّرة تدلّ علی حرمة الغناء بذاته إذا کان مقروناً بقول، وبإلغاء الخصوصیّة عرفاً یستفاد منها حرمته مطلقاً ولو وجد فی مهمل لایقال له قول أو وجد فی الصوت بلا کلام.
بل یمکن أن یقال: إنّ الغناء المتحقّق فی الکلام لایقوم جیمع قرعاته
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 311
ورجعاته بالکلام بل یقع کثیر منها فی خلاله وقبله وبعده، ولاشبهة فی أنّ الصوت الکذائی بمطلق وجوده غناء، فتدلّ الروایات علی حرمته ولو بتلک القطعات الغیر القائمة بالألفاظ، ولاشبهة فی عدم الفرق بین تلک القطعات المحرّمة والصوت المتحقّق بلا کلام إن کان غناءً.
وممّا ذکرناه یظهر الکلام فی طائفة اُخری من الروایات وهی المفسّرة لقوله تعالی: «ومن الناس من یشتری لهو الحدیث لیضلّ عن سبیل الله بغیر علم ویتّخذها هزواً اولئک لهم عذاب مهین»:
کروایة محمّد بن مسلم عن أبی جعفر ـ علیه السلام ـ ولایبعد أن تکون موثّقة ـ قال: سمعته یقول: «الغناء ممّا وعد الله علیه النار»، وتلا هذه الآیة: «ومن الناس...» وقریب منها روایات اُخر.
ووجه دخوله فی لهو الحدیث هو الوجه فی دخوله فی قول الزور.
نعم، هنا کلام آخر، وهو أنّ الظاهر من الآیة أنّ لهو الحدیث قسمان، والمحرّم منه هو ما یشتری وتکون الغایة به إضلال الناس عن سبیل الله، وغایة ما تدلّ الروایات هو کون الغناء داخلاً فیها، ومقتضاه أن یکون الغناء قسمین: محرّم هو ما یوجب الإضلال ومحلّل هو غیره.
ویمکن أن یقال: إنّ المراد بالإضلال عن سبیل الله لیس خصوص الإضلال عن العقائد، بل جمیع الواجبات فعلاً والمحرّمات ترکاً من سبل الله، وکلّ شیء یوجب ترک واجب أو فعل محرّم یکون صادّاً عن سبیل الله ومضلاًّ عنه. فلو تعلّم أحد أحادیث لهویة لیحدّثها علی قوم یوجب تحدیثها ولو اقتضاءً ترک
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 312
معروف أو فعل منکر، یصدق علیه أ نّه اشتری لهو الحدیث لیضلّ عن سبیل الله.
فحینئذ نقول: لولا الروایات المفسّرة کان ظاهر الآیة حرمة اشتراء لهو الحدیث، أی الأخبار الموجبة بمدلولها لإلهاء الناس وإضلالهم عن سبیل الله، کما ورد فی سبب نزولها أنّ النضر بن الحرث کان یخرج إلی فارس فیشتری أخبار الأعاجم ویحدّث قریشاً ویصرفهم عن استماع القرآن، فلم تکن شاملة للغناء الذی هو من کیفیّات الصوت و لا دخل له بمدلول الحدیث و مضمونه.
لکن بعد تفسیرها به وقلنا بدخوله فیها بالتقریب المتقدّم فی الآیة المتقدّمة یصدق علی من تعلّم الغناء للتغنّی أ نّه اشتری لهو الحدیث لیضلّ عن سبیل الله، إمّا لأ نّه بنفسه حرام وبإیجاده یخرج المغنّی والسامع عن سبیل الله، وإمّا لأ نّه بذاته مع تجریده عن معانی الألفاظ ومع سماعه و عدم فهم المعنی ممّا یترتّب علیه ولو اقتضاءً الصدّ عن سبیل الله والغفلة عن ذکر الله وربّما ینجرّ به إلی فعل الکبائر وترک الواجبات کما عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم: «الغناء رقیّة الزنا».
ومع العلم بأنّ ذلک من مقتضیات ذات الغناء وتعلّمه للتغنّی، یصدق أ نّه تعلّم للإضلال، أی تعلّم ما یترتّب علیه ذلک.
فلایقال: إنّ التغنّی بالمواعظ والقرآن لایترتّب علیه ذلک، لأنّ هذا من مقتضیات نفس الغناء لوجرّد عن مدالیل الألفاظ، والمفروض أنّ الغناء بذاته داخل فی الآیة کما هو مفاد الأخبار.
مع أنّ مقتضیٰ إطلاق الأخبار أنّ مطلق الغناء داخل فی الآیة وأوعد الله
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 313
علیه النار.
مع أ نّه قلّما یتّفق لشخص أن یکون غایة تعلّمه للغناء أو تغنّیه، الإضلال عن سبیل الله والصدّ عنه.
فعلیه یکون عدّ الغناء من الآیة بنحو الإطلاق علی الاحتمال المتقدّم فی الإشکال کحمل المطلق علی الفرد النادر جدّاً. فقوله: «الغناء ممّا وعد الله علیه النار» فی الآیة مع عدم دخوله فیها إلاّما هو نادر کالمعدوم یعدّ مستهجناً قبیحاً.
فلابدّ وأن تحمل اللام علی النتیجة أعمّ من کونها غایة أولا، فلا ینافی ذلک ما ورد فی شأن نزولها، کقوله تعالی: «فالتقطه آل فرعون لیکون لهم عدوّاً وحزناً» وکقول الشاعر: «لدوا للموت وابنوا للخراب».
والإنصاف أنّ دلالة الطائفتین المتقدّمتین علی حرمة الغناء بذاته لاتأمّل فیها.
وأمّا ما دلّت علی دخوله فی قوله: «والذین لایشهدون الزور» کصحیحة ابن مسلم عن أبیعبدالله ـ علیه السلام ـ فی قوله: «والذین لایشهدون الزور» قال: «هو الغناء» ففی دلالتها علی الحرمة تأمّل وإشکال.
ودلّت علی حرمته بذاته أیضاً روایات کثیرة ربّما یدّعی تواترها وسیأتی الکلام فی بعضها:
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 314
کصحیحة ریّان بن الصلت، قال: سألت الرضا ـ علیه السلام ـ یوماً بخراسان عن الغناء وقلت: إنّ العباسی ذکر عنک أ نّک ترخّص فی الغناء، فقال: «کذب الزندیق، ما هکذا قلت له، سألنی عن الغناء، فقلت: إنّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام ـ فسأله عن الغناء، فقال: یا فلان، إذا میّز الله بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حکمت».
والظاهر منها حرمته کما یشهد به نحو التعبیر فیها.
ونحوها فی الدلالة أو أظهر منها روایة عبد الأعلی الموثقة علی الأظهر، قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن الغناء وقلت: إنّهم یزعمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم رخّص فی أن یقال: جئناکم جئناکم حیّونا حیّونا نحییکم، فقال: کذبوا، إنّ الله عزّ وجلّ یقول: «وما خلقنا السماء والأرض وما بینهما لاعبین...».
وکصحیحة علیّ بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر ـ علیهما السلام ـ، قال: سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه؟ قال: لا.
وفی روایة سعد بن محمّد الطاطریّ، عن أبیه، عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ، قال: سأله رجل عن بیع الجواری المغنّیات: فقال: شراؤهنّ وبیعهنّ حرام، وتعلیمهنّ کفر، واستماعهن نفاق.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 315
والروایة إلی سعد موثقة بابن فضّال، وعن الشیخ فی العدّة أنّ الطائفة عملت بما رواه الطاطریّون.
وکصحیحة إبراهیم بن أبی البلاد، قال: قلت لأبی الحسن الأوّل ـ علیه السلام ـ: جعلت فداک، إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنّیات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار، وقد جعل لک ثلثها، فقال: «لاحاجة لی فیها، إنّ ثمن الکلب والمغنّیة سحت».
وسحتیّة ثمنهالأجل صفة التغنّی وکون الغناءحراماً.
وکحسنة نضر بن قابوس، قال: سمعت أباعبد الله ـ علیه السلام ـ یقول: «المغنّیة ملعونة، ملعون من أکل کسبها». إلی غیر ذلک.
ما نسب إلی بعض الأعاظم من إنکار حرمة الغناء بذاته
ثمّ إنّه ربّما نسب إلی المحدّث الکاشانی وصاحب الکفایة الفاضل الخراسانیّ إنکار حرمة الغناء واختصاص الحرمة بلواحقه ومقارناته من دخول الرجال علی النساء واللعب بالملاهی ونحوهما، ثمّ طعنوا علیهما بما لاینبغی.
وهو خلاف ظاهر کلام الأوّل فی الوافی ومحکیّ المفاتیح والمحکیّ عن الثانی، بل الظاهر منهما أنّ الغناء علی قسمین: حقّ وباطل، فالحقّ هو التغنّی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 316
بالأشعار المتضمّنة لذکر الجنّة والنّار والتشویق إلیٰ دار القرار، والباطل ما هو متعارف فی مجالس أهل اللهو کمجالس بنی أمیّة وبنی العباس.
قال فی الوافی ما محصّله: إنّ الظاهر من مجموع الأخبار اختصاص حرمة الغناء وما یتعلّق به من الأجروالتعلیم والاستماع والبیع والشراء کلّها بما کان علی النحو المعهود المتعارف فی زمن بنی أمیّة وبنی العباس من دخول الرجال علیهنّ وتکلّمهنّ بالأباطیل ولعبهنّ بالملاهی من العیدان والقضیب وغیرها، دون ما سوی ذلک کما یشعر به قوله ـ علیه السلام ـ: «لیست بالتی یدخل علیها الرجال».
ثمّ ذکر عبارة الاستبصار فقال: یستفاد من کلامه أنّ تحریم الغناء إنّما هو لاشتماله علیٰ أفعال محرّمة، فإن لم یتضمّن شیئاً من ذلک جاز. وحینئذٍ فلا وجه لتخصیص الجواز بزفّ العرائس ولاسیّما وقد ورد الرخصة به فی غیره، إلاّ أن یقال: إنّ بعض الأفعال لایلیق بذوی المروءات وإن کان مباحاً. فالمیزان حدیث من أصغیٰ إلیٰ ناطق فقد عبده، وقول أبی جعفر ـ علیه السلام ـ: «إذا میّز الله بین الحقّ و الباطل فأین یکون الغناء». وعلیٰ هذا فلابأس بسماع التغنّی بالأشعار المتضمّنة ذکر الجنّة والنار والتشویق إلیٰ دار القرار، إلیٰ أن قال: وبالجملة، لایخفیٰ علیٰ ذوی الحجی بعد سماع هذه الأخبار تمییز حقّ الغناء من باطله، وأنّ أکثر ما یتغنّی المتصوّفة فی محافلهم من قبیل الباطل. انتهیٰ.
وأنت خبیر بأنّ ظاهر هذه العبارة بل صریحهاصدراً وذیلاً أنّ الغناء علیٰ
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 317
قسمین: قسم محرّم وهو ما قارن تلک الخصوصیّات، بمعنی أنّ الغناء المقارن لها حرام، لا أنّ المقارنات حرام فقط، ولهذا حرم أجرهنّ وتعلیمهنّ والاستماع منهنّ، ولولا ذهابه إلی تحریمه ذاتاً لاوجه لتحریم ما ذکر.
وقسم محلّل وهو ما یتغنّی بالمواعظ و نحوها. فقد استثنی من حرمة الغناء قسماً هو التغنیّ بذکر الله ـ تعالی ـ کما استثنی بعضهم التغنّی بالمراثی، وبعضهم التغنّی بالقرآن، وبعضهم الحدی، وبعضهم فی العرائس، وهذا أمر لم یثبت أ نّه خلاف الإجماع أو خلاف المذهب حتّی یستوجب صاحبه الطعن والنسبة إلی الخرافة والأراجیف، وقد اختاره النراقی فی المستند وبعض من تأخّر عنه، کما لایستوجبه من استثنی القرآن وغیره.
فالصواب أن یجاب عنه بالبرهان کما صنع الشیخ الأنصاری.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 318
ما یمکن أن یستدلّ به علی التفصیل فی حرمة الغناء
فالاُولیٰ النظر إلی ما یمکن أن یستدلّ به علی هذا التفصیل:
فمنها: دعوی قصور الأدلّة عن إثبات حرمة مطلق الغناء لعدم الإطلاق فیما تدلّ علی الحرمة، وعدم الدلالة علیها فیما یمکن دعوی الإطلاق فیها کقوله: الغناء شرّ الأصوات، والغناء غش النفاق، ونحوهما.
وفیه أ نّه لاقصور فی إطلاق کثیر من الروایات:
کالروایات المفسّرة لقول الزور بالغناء وقد تقدّم کیفیة دخوله فی الآیة. والقول بمعارضة تلک الأخبار لما فسّره بقول أحسنت للمغنّی، وبما فسّره بشهادة الزور، لأنّ الحمل یقتضی وحدة معناهما وما عرفت یدلّ علی أ نّه غیره، قد عرفت الجواب عنه فی بیان الأخبار المفسّرة لها. مضافاً إلی أنّ الحمل یقتضی الاتّحاد ولو وجوداً، فلو کان الغناء من مصادیقها یصحّ الحمل ویقال: إنّه الغناء أو أنّ الغناء هو، فلا تعارض بین الأدلّة المفسّرة.
ولایجوز رفع الید عن الإطلاق بعد إمکان أن یکون الکلّ مندرجاً فیه ولو لم نعلم وجهه. بل لایجوز الغضّ عن الإطلاق ولو لم یندرج فیه أو لم نعلم اندراجه، لإمکان الإلحاق حکماً. وکالأخبار المفسّرة للهو الحدیث، فإنّها أیضاً مطلقة بلا إشکال.
والقول بأنّ الغناء الخاصّ الذی یشتری لیضل عن سبیل الله ویتّخذها هزواً
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 319
داخل فیها لاغیر، قد عرفت الجواب عنه ولزومه للاستهجان فی الأخبار الدالّة علی أنّ الغناء ممّا أوعد الله علیه النار بقوله: «ومن الناس من یشتری...». فلاینبغی الشبهة فی إطلاقها.
وکالمحکیّ عن الرضا ـ علیه السلام ـ بطرق عدیدة منها ما رواه الصدوق صحیحاً عن الریّان بن الصلت الثقة، قال: سألت الرضا ـ علیه السلام ـ یوماً بخراسان عن الغناء وقلت: إنّ العباسی ذکر عنک أ نّک ترخّص فی الغناء، فقال: کذب الزندیق، ما هکذا قلت له، سألنی عن الغناء فقلت: إنّ رجلاً أتی أبا جعفر ـ علیه السلام ـ فسأله عن الغناء، فقال: یا فلان، إذا میّزالله بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حکمت.
وتقریب الدلالة أنّ الظاهر من إنکار الرضا ـ علیه السلام ـ الترخیص أنّ قول أبی جعفر علیه السلام ـ یدلّ علی حرمته، وإلاّ فلو دلّ مقالته مع السائل بأنّ الغناء من الباطل الجائز الارتکاب ولو مع حزازة، فنقل السائل عنه تجویزه نقلاً بالمعنی، فلم یمکن إنکاره علیه. فالإنکار دلیل علی عدم کون الغناء مرخّصاً فیه فی کلام أبی جعفر ـ علیه السلام ـ، وکان الرضا ـ علیه السلام ـ مستدلاً علیٰ حرمته بقوله، وروی السائل خلافه کذباً علیه. ولاشبهة فی إطلاق الروایة.
ومنه یظهر الجواب عمّا یمکن أن یقال بأنّ التکذیب راجع إلی عدم ترخیص أبی الحسن ـ علیه السلام ـ أو عدم ترخیصه بقول مطلق.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 320
فإنّ المراد بالترخیص لیس نحو قوله: أنت مرخّص فیه، بل ما یستفاد من کلامه، ولاشبهة فی أ نّه لو لم یدلّ کلام أبی جعفر ـ علیه السلام ـ علی التحریم لما قال الرضا ـ علیه السلام ـ: إنّه کذب، و الفرض أنّ کلامه مطلق.
والإنصاف أنّ إنکار دلالتها فی غیر محلّه.
والعجب من النراقی حیث قال: إنّ الباطل لایفید أزید من الکراهة، و مع ذلک قال: إنّ تکذیبه لیس للمنع بل لذکره خلاف الواقع.
وذلک لأنّ ذکر ما یدلّ علی کراهته فی مقام الجواب ترخیص له، فأین خلاف الواقع حتّی یصحّ التکذیب سیّما مع هذا التعبیر الشدید.
ومنها: روایة عبد الأعلی الحسنة الموثّقة ـ فإنّ عبد الأعلی هو ابن أعین، وقد عدّه الشیخ المفید من فقهاء أصحاب الصادقین والأعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال و الحرام والفتیا والأحکام الذین لایطعن علیهم ولاطریق إلی ذمّ واحد منهم، ولا إشکال فی إفادته التوثیق، کما عن المحقّق الداماد الجزم بصحّة روایاته ـ قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن الغناء وقلت: إنّهم یزعمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلمرخّص فی أن یقال: جئناکم جئناکم حیّونا حیّونا نحییکم، فقال: «کذبوا، إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ یقول: «وما خلقنا السماء والأرض وما بینهما لاعبین * لو أردنا أن نتّخذ لهواً لاتّخذناه من لدنّا إن کنّا فاعلین * بل نقذف بالحقّ علی الباطل فیدمغه فإذا هو زاهق ولکم الویل ممّا تصفون». ثم قال ویل لفلان ممّا یصف؛ رجل
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 321
لم یحضر المجلس».
وهی تدلّ علی حرمة الغناء بمثل تلک العبارة الغیر اللهویّة الغیر الباطلة بل الشریفة علی نسخة حیّونا. ولو لم یکن محرّماً کان رخّصه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فلم ینکره أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ ذلک الإنکار مع التمسّک بالآیة الدالّة علی قذف الله رجل غائب کان ینسب إلی رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الترخیص فیه.
فلا شبهة فی دلالتها علی الحرمة ولافی إطلاقها لقول حقّ أو باطل.
ومنها: صحیحة علیّ بن جعفر عن أخیه، قال: سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه، قال: لا. إلی غیر ذلک من الأخبار الکثیرة، فلامجال لإنکار إطلاقها.
ومنها: دعوی انصراف الأدلّة إلی الغناء المتعارف المعهود فی زمن بنی أمیّة وبنی العباس، کما هو من متمسّکات الکاشانی والخراسانی فی جملة من کلامهما.
وفیه ـ مضافاً إلی عدم مجال لهذه الدعوی فی بعض الروایات، کصحیحة علیّ بن جعفر الأخیرة الظاهرة فی المنع عن الجلوس عند من یتغنّی من غیر أن یکون هنا معاص أخر کالمزامیر وغیرها کما هو ظاهرها، وکحسنة عبد الأعلی الدالّة علی أنّ التغنّی بمثل ألفاظ التحیّة أیضاً حرام ومن الباطل، وهی مفسّرة لسائر الروایات أیضاً وشارحة للمقصود من کون الغناء باطلاً بأ نّه بذاته باطل
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 322
ولهو وزور لابملحقاته وبمدلول الکلام المعروض له، بل یدفع بها توهّم الانصراف فی سائر الروایات أیضاً، لحکومتها علی غیرها وتعمیمها لو فرض الانصراف للحکومة، کما لایخفی علی المتأمّل ـ أنّ کون غالب أفراد ما یتعارف فی عصر الخبیثتین من اشتمالها علی محرّمات اُخر ممنوعة. کیف؟ وإنّ التغنّی بالأشعار عند الناس کان متعارفاً فی کلّ عصر، وربّما یتّفق معه سائر المحرّمات. وکون المتعارف عند سلاطین الطائفتین أو الاُمراء فی عصرهم وسائر الأعصار ذلک، لایوجب أن یکون نوع التغنّیات کذلک حتّی یدّعی الانصراف.
مضافاً إلی أنّ کثرة أفراد طبیعة فی قسم لاتوجب الانصراف، فإنّ الإطلاق عبارة عن الحکم علی طبیعة من غیر قید، فلابدّ فی دعوی الانصراف من دعوی کون الکثرة والتعارف وأنس الذهن بوجه تصیر کقید حافّ بالطبیعة، وهو فی المقام ممنوع سیّما فی مثل مقارنات الطبیعة لامصادیقها وأصنافها.
مضافاً إلی أنّ اللازم من دعوی الانصراف إلی أشباه ما تتعارف فی عصر الأمویّین والعباسیّین، الالتزام بتخصیص تحریمه بما یکتنف بجمیع ما یتعارف فی مجالسهم الملعونة من دخول الرجال علی النساء وشرب الخمور وارتکاب الأفعال القبیحة والفواحش وضرب أنواع الملاهی والتلهّی بالأشعار المهیجة المورثة لإثارة الشهوات ورقص الجواری والغلمان إلی غیر ذلک، ومع فقد بعضها یقال بالجواز، فلاوجه لتجویز خصوص ما یکون من قبیل التغنّی بالقرآن والفضائل، لقصور الأدلّة ـ بناء علیه ـ عن إثبات حرمته ولومع الأشعار الملهیة والمهیّجة، لکون المتعارف فی عصرهم أخصّ منه، ولا أظنّ التزامهم به.
فدعوی الانصراف کدعوی عدم الإطلاق فی الضعف.
ومنها: التمسک بروایات عمدتها صحیحة أبی بصیر، قال: قال
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 323
أبو عبدالله ـ علیه السلام ـ: «أجر المغنّیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال».
کذا فی الوسائل عن المشایخ الثلاثة وفی الفقیه، لکن فی مرآة العقول: «لیست» بسقوط الواو.
بدعوی أنّ قوله: «ولیست بالتی...»، مشعر بالعلیّة أو دالّ علیها، فتدلّ علی أنّ المحرّم قسم منه وهو المقارن للمعاصی کدخول الرجال علی النساء.
وفیه أنّ فی الروایة علی نسخة إثبات الواو احتمالات:
کاحتمال أن تکون الجملة حالیة عن فاعل تزفّ، والمعنی أنّ أجر المغنّیة حلال إذا تزفّ العرائس ولم یدخل الرجال علی النساء.
وأن تکون الجملة بمنزلة التعلیل، فتدلّ علی عدم حرمة الغناء بذاته ویحرم أجر المغنّیة لاللغناء، بل لدخول الرجال وسماع صوتها ورؤیة وجهها وسائر حرکاتها الملازمة له.
وأن یکون المراد بها إفادة حرمة قسم من الغناء، وهو المقارن لدخول الرجال علیهنّ.
فعلی الاحتمال الأوّل تدلّ علی استثناء قسم خاصّ منه، وهو الذی فی العرائس مع الشرط المذکور.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 324
وعلی الثانی تکون الروایة معارضة لجمیع الأدلّة الدالّة علی أنّ الغناء حرام ومخالف مضمونها للإجماع.
وعلی الثالث توافق کلام الکاشانی وموافقیه علی إشکال، وهو أنّ الظاهر من قوله: «ولیست بالتی...» کون دخولهم علیهنّ بعنوانه موضوع الحکم، لاعنواناً مشیراً إلی نوع خاصّ من الغناء أو مجالس خاصّة، وهم لایلتزمون بظاهر الروایة، ولاوجه لحملها علی خلاف ظاهرها.
ولاترجیح ظاهر فی أحد الاحتمالات المتقدّمة یمکن الاتکال علیه لو لم نقل بترجیح الأوّل حتّی یلتئم بین الأدلّة، أو الاحتمال الثانی فی نفسه لولا مخالفته لما ذکرناه، لأنّ الظاهر من قوله: «لابأس ولیست بالتی یدخل علیها الرجال» أنّ الفساد مترتّب علیه ولیس فی الغناء بما هو فساد ولعلّ الحرمة فی دخولهم لأجل کونهم أجنبیّاً یحرم التغنّی عندهم لالذات الغناء.
والإنصاف أنّ طرح الأدلّة الظاهرة الدلالة بمثل هذه الروایة المشتبهة المراد مع اختلاف النسخ غیر جائز، سیّما مع مخالفة مضمونها لجمیع الأقوال سواء فی ذلک نسخة إثبات الواو وإسقاطها.
مع احتمال أن تکون هی عین روایة اُخری لأبی بصیر، قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن کسب المغنّیات، فقال: التی یدخل علیها الرجال حرام، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس، وهو قول الله عزّ وجلّ: «ومن الناس من یشتری لهو الحدیث لیضلّ عن سبیل الله»، التی یدّعی دلالتها علی أنّ قسماً منه حرام، وهو المقارن لدخول الرجال علی النساء، والتی تدعی إلی الأعراس
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 325
فعدم حرمته لیس لخصوصیّة فیها بل لعدم دخولهم علیهنّ فیکون الحکم دائراً مداره.
وفیه ـ مضافاً إلی ورود بعض ما تقدّم من الإشکالات علیها أیضاً ککون الظاهر أنّ الحکم دائر مدار عنوان دخول الرجال ومع عدمه یحلّ ولو بکلمات لهویّة ومقارنات محرّمة ولم یلتزم به القائل ـ أنّ الظاهر منها التعرّض لقسمین من الغناء وعدم تعرّضها لسائر الأقسام، ولیس فیها مفهوم وإلاّ لتعارض بین مفهوم الصدر و الذیل.
وجعل الجملة الثانیة کنایة عن عدم دخولهم علیهنّ خلاف الظاهر، فلاتدلّ علی مدّعاهم بوجه.
نعم، فیها إشعار به لایقاوم الروایات الدالّة علی أ نّه بذاته حرام کصحیحة علی بن جعفر المتقدّمة وحسنة عبد الأعلی بل وغیرها بعد تفسیره فی روایة عبد الأعلی.
وقد یقال: إنّ الظاهر من روایة علیّ بن جعفر عن أخیه ـ علیه السلام ـ، قال: سألته عن الغناء هل یصلح فی الفطر والأضحی والفرح؟ قال: «لابأس به ما لم یعص به»
والمروی عن تفسیر الإمام عن النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث طویل ذکرت فیه شجرة طوبی وشجرة الزقّوم والمتعلّقون بأغصان کلّ واحدة منهما، قال: «ومن تغنّی بغناء حرام یبعث فیه علی المعاصی فقد تعلّق بغصن منه» أی من الزقّوم، أنّ الغناء
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 326
علی قسمین: محلّل ومحرّم، فإن کان المراد من محرّمه هو ما یقترن بالمعاصی ثبت عدم حرمته بنحو الإطلاق، وإن کان المراد منه غناء نهی عنه الشارع یکون عنواناً مجملاً فیکون العمومات والإطلاقات مخصّصة ومقیّدة بالمجمل، والعامّ المخصّص والمطلق المقیّدبه لیس حجة.
وفیه بعد تسلیم المقدّمات أنّ ذلک مسلّم لو لم یعلم بأنّ الغناء علی قسمین ولم یتبیّن قسم الحلال من الحرام، وأمّا فی المقام الذی علم أنّ له قسماً محلّلاً هو الغناء فی العرائس کما یأتی فلایوجب قوله فی تفسیر الإمام إجمالاً، هذا بالنسبة إلیها مع ضعفها سنداً ویأتی الکلام فی روایة علیّ بن جعفر.
وأما التشبّث بما اشتملت علی کلمة «مجلس» أو «بیت» ـ کروایة الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ یقول: «الغناء مجلس لاینظر الله إلی أهله...». و صحیحة زید الشحّام، قال: قال أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ: «بیت الغناء لاتؤمن فیه الفجیعة». وروایة إبراهیم بن محمّد عمّن ذکره عنه ـ علیه السلام ـ وفیها: «لاتدخلوا بیوتاً الله معرض عن أهلها»، بعد السؤال عن الغناء ـ لتأیید اختصاص حرمته بنوع خاصّ منه، ففیه ما لایخفی من الوهن، لعدم المفهوم فیها، وعدم دلالتها علی الاختصاص، وعدم دلالتها علی اقترانه بغیره من المحرّمات، نعم فیها إشعار به.
کما أنّ التشبّث بأنّ ظاهر الأدلّة دخول الغناء فی اللهو والباطل ونحوهما وهی غیر محرّمة بنحو الإطلاق فلا دلیل علی حرمته، قد تقدّم الجواب عنه فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 327
خلال ما تقدّم الکلام فی الأدلّة.
فتحصّل من جمیع ذلک حرمة الغناء بذاته، فلابدّ من التماس دلیل علی الاستثناء.
ما یمکن أن یستثنی من أفراد الغناء
ویمکن أن یقال باستثناء أیّام الفرح منه کعید الفطر والأضحی وسائر الأعیاد المذهبیّة والملّیة، لصحیحة علیّ بن جعفر عن أخیه موسی ـ علیهما السلام ـ، قال سألته عن الغناء هل یصلح فی الفطر و الأضحی و الفرح؟ قال: «لابأس به ما لم یزمر به».
والظاهر أ نّها عین الروایة المتقدّمة إلاّ أنّ فیها: «ما لم یعص به». وربّما یحتمل أن یکون مالم یزمر به فی الاُولی مصحّفاً عن مالم یؤزر به، وهو غیر بعید، فیکون إحداهما نقلاً بالمعنی، وفی نسخة یؤمربه، وهی خطأ.
وکیف کان فالظاهرأنّ علیّ بن جعفرکان عالماً بحرمة الغناء لکن لمّا کانت أیّام العید والفرح مناسبة للتلهّی والتفریح فی الجملة صارت موجبة لشبهته. و یحتمل أن یکون وجه حصول الشبهة صحیحة أبی بصیر المرویّة عن أبی عبدالله ـ علیه السلام ـ فی تجویز أجر المغنّیة فی الأعراس، فاحتمل أنّ سائر أیّام الفرح والأعیاد کذلک فسأل عنه فیها، فأجاب ـ علیه السلام ـ بعدم البأس مالم یعص به، أو
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 328
ما لم یزمر به.
وبعد عدم جواز حمل ما لم یعص به علی ظاهره فإنّه من توضیح الواضح فیه احتمالات: أبعدها ما احتمله الشیخ الأنصاری، وهو أنّ المراد بالسؤال الصوت الحسن الأعمّ من الغناء المحرّم، وبالجواب تجویز قسم منه وهو ما لیس بغناء، وتحریم قسم وهوالغناء.
والإنصاف أنّ هذا الحمل یساوق الطرح.
ولعلّ ما دعاه علی هذا الحمل البعید بناؤه علی تعارضها مع الروایات الکثیرة المستفیضة أو المتواترة، فرأی أنّ التصرّف فیها أوهن من رفع الید عنها.
مع أنّ بینها وبین الروایات جمعاً عقلائیّاً وهو حمل المطلقات علیها وتجویز الغناء فی أیّام الأعیاد المقتضیة للسرور والفرح، فقوله: مالم یعص به أی ما لم یکن سبباً لمعصیة، أو ما لم یقترن بها، أو ما لم یتّحد معها، کما لو کان التغنّی بالفحش والکذب ونحوهما من المحرّمات.
وبالجملة، الظاهر المتفاهم منها أنّ الغناء فی الأعیاد وأیّام الفرح لابأس به بذاته مالم یقترن بمعصیة. وهو بوجه نظیر ما ورد فی بعض الروایات من رفع القلم فی بعض الأعیاد، والمراد به أیضاً علی فرض صحّته ما یناسب أیّام العید والسرور کالتغنّی والتلهّی لامطلق المعاصی.
والظاهر أنّ المراد بقوله: مالم یزمر به، ما لم یتغنّ فی المزمار، من زمر أو زمَّر من التفعیل غنّی بالمزمار، فتدلّ علی جواز الغناء فی الأعیاد دون المزامیر مع احتمال أن یکون مالم یؤزر، فتوافق الاُولی.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 329
لکن یشکل العمل بها، لعدم قائل ظاهراً باستثنائه فیها بل عدم نقل احتماله من أحد، مع بعد تجویزه فی العیدین الشریفین المعدَّین لطاعة الله تعالی والصلاة والانقطاع إلیه ـ تعالی ـ کما یظهر من الأدعیة و الأذکار والعبادات الواردة فیهما وفی الأعیاد المذهبیّة بل بعض الأعیاد الملّیة، وضعف الروایة المشتملة علی قوله: «مالم یعص به» بعبد الله بن الحسن المجهول وإن کان کثیر الروایة عن علی بن جعفر، والظاهر إتقان روایاته، وعن الکفایة أ نّه مروی فی قرب الإسناد للحمیری بإسناد لایبعد إلحاقه بالصحاح وإن قال بعض المدقّقین: ما رأیت ذلک فی الکفایة فی باب الغناء والمکاسب، وفی کتاب القضاء والشهادات.
وکیف کان لم یصل الاعتماد علیها بحدّ یمکن تقیید الأدلّة سیّما تلک المطلقات المستفیضة بها.
والروایة الاُخری صحیحة، لکن قوله: «مالم یزمر به» یحتمل وجوهاً: منها ما تقدّم، ومنها ما احتمله الشیخ الأنصاری، أی لم یرجع به ترجیع المزمار، أو لم یتغنّ به علی سبیل اللهو، أو لم یقصد منه قصد المزمار.
ولیس ظهورها فی الأوّل معتدّاً به أمکن معه تقیید المطلقات الکثیرة. فالأحوط بل الأقوی عدم استثناء أیّام العید والفرح.
حکم التغنّی بالمراثی والقراءة بالقرآن
وأمّا المراثی والقراءة بالقرآن فربّما یقال باستثنائهما.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 330
واستدل علیه بعمومات أدلّة الإبکاء والرثاء وقراءة القرآن بدعوی أنّ التعارض بینها وبین أدلّة حرمة الغناء من وجه، ومقتضی القاعدة تساقطهما والرجوع إلی الأصل.
ومقتضی ذلک توسعة الجواز بکلّ مورد ینطبق علیه أو یلازمه عنوان مستحبّ کإکرام الضیف وإدخال السرور فی قلب المؤمن وقضاء حاجته، بل توسعة نطاقه إلی سائر أبواب الفقه فیقال بمعارضة کلّ دلیل فی المستحبّات مع أدلّة المحرّمات إذا کان بینهما عموم من وجه کالمقام، بل یأتی الکلام فی أدلّة المکروهات مع الواجبات والمحرّمات.
وأنت خبیر بأ نّه مستلزم لفقه جدید واختلال فیه، ولم یختلج ذلک التعارض والعلاج فی ذهن فقهاء الشریعة، ولیس مبنی فقه الإسلام علی نحوه، وهو کاف فی فساد هذا التوهّم.
سرّ عدم وقوع التعارض بین أدلّة المستحبّات والمحرّمات
نعم، لابأس ببیان سرّ عدم وقوع التعارض بین أدلّة المستحبّات والمحرّمات:
یظهر من الشیخ الأنصاری فیه وجوه، وإن یتراءی من تعبیراته أ نّه بصدد بیان وجه واحد:
منها: أنّ مرجع أدلة الاستحباب إلی إیجاده بسبب مباح لا المحرّم.
ویحتمل أن یکون مراده منه انصراف أدلّته إلی إیجاده بطریق مباح وکیفیّة
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 331
مباحة، فلاتکون مقدّمته محرّمة، ولاینطبق علیه عنوان محرّم. وهذا التعمیم یظهر من التأمّل فی کلامه.
ویحتمل أن یکون مراده إهمال أدلّته، فلا إطلاق فیها بالنسبة إلی مورد المحرّم.
ومنها: ما ذکره فی مقام بیان السرّ. وحاصله أنّ أدلّة المستحبّات تفید أحکاماً نحو الحکم الحیثی فلاینافی طروّ عنوان آخر من الخارج یوجب لزوم فعله أو ترکه.
وبعبارة اُخری إنّ دلیل المستحب یدلّ علی استحباب شیء لو خلّی ونفسه أی مع خلّوه عمّایوجب لزوم أحد طرفیه.
ومنها: ما ذکره بقوله: والحاصل أنّ جهات الأحکام الثلاثة أعنی الإباحة والاستحباب والکراهة لاتزاحم جهة الحرمة والوجوب، فالحکم لهما مع اجتماع جهتیهما مع إحدی الجهات الثلاث.
وهذه الوجوه لاترجع إلی واحد، لأنّ مبنی تزاحم المقتضیات علی إطلاق الأدلّة وفعلیّتها وهو ینافی الوجهین الأوّلین، ومبنی انصراف الأدلّة أو إهمالها غیر مبنی کون الحکم حیثیّاً غیرفعلی.
فکأ نّه أجاب عن الاستدلال بواحد منها أو بأنّ حال أدلّة المستحبّات لاتخلو من واحد منها.
وفیه أنّ دعوی إهمال جمیع أدلّتها فی غایة البعد بل مخالفة للواقع ولظواهر الأدلّة، کما أنّ دعوی الانصراف فی الجمیع کذلک، ولایمکن إثباتها سیّما بعد کون متعلّق الأحکام فی باب المطلقات نفس الطبائع من غیر نظر إلی أفرادها فضلاً عن مزاحماتها. فالحکم إن تعلّق بطبیعة کالغناء أو الرثاء أو القراءة ولم یقیّد
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 332
الموضوع بقید مع تمامیّة مقدّمات الحکمة یکون مطلقاً أعنی أنّ الطبیعة بلا قید موضوعه، فلا تکون الأفراد بماهی موضوع الحکم فیها، ولاینقدح فی ذهن السامع أفراد نفس الطبیعة ولا أفراد طبیعة اُخری أو عنوانها حتّی یقال: ینصرف الحکم أو الموضوع إلی أفراد خاصّ أو صنف خاصّ من الطبیعة فضلاً عن الأفراد الغیر المزاحمة لخصوص حکم آخر.
نعم، ربّما یتّفق أن تکون الطبیعة مقارنة بحسب الوجود لشیء توجب أنس الذهن أو تکون أفرادها من حیث الکثرة والمعهودیّة بوجه موجب للانصراف، و لکن فی مثل المقام لاوجه معتمد لدعواه.
ویتلوهما فی الضعف دعوی کون الاستحباب حکماً حیثیّاً فی جمیع الموارد، ضرورة أنّ الظاهر من کثیر من الأدلّة فعلیّة الحکم.
وأمّا قضیة تزاحم المقتضیات ففرع عدم سقوط الأدلّة بالتعارض وإلاّ فلا طریق لإثبات المقتضی.
وقد یقال: فی توجیهه بأنّ الحکم الاستحبابی معلّق علی عدم تحقّق اقتضاء الحرام، و أمّا التحریمی فلا تعلیق فیه بالنسبة إلی اقتضاء الاستحباب لعدم مزاحمته معه، فحینئذٍ لایعارض المعلّق المنجّز.
ویرد علیه أ نّه مخالف لأدلّة الاستحباب الظاهرة فی الحکم الفعلی، فإنّ ظهورها فی الفعلیة کاشف عن عدم تحقّق مقتضی التحریم وتحقّق مقتضی الاستحباب، فإطلاق دلیله کاشف عن عدم الحرمة، و اقتضاؤها کالعکس، فلا وجه للحکم بتعلیقیّة أحدهما.
وقد یجاب عنه بأنّ دلیل الحرام قرینة علی هذا التعلیق، فإنّه إذا تحقّق فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 333
أحد المتعارضین احتمال تصرّف مفقود فی الآخر، تعیّن التصرّف فیه وإبقاء الآخر علی ظهوره وهو من الجمع المقبول.
ففی المقام حمل دلیل الاستحباب علی التعلیق ممکن، لأنّ فعلیّة الاستحباب متوقّفة علی عدم تحقّق مقتضی الحرمة، بخلاف دلیل الحرمة، فإنّه غیر قابل للتعلیق علی عدم تحقّق مقتضی الاستحباب، لأنّ مقتضاه لایزاحم مقتضی الحرام، فالفعلیة مع اجتماع المقتضیین للحرمة.
فإذا کان دلیل الاستحباب قابلاً للحمل علی التعلیق دون دلیل الحرمة، تعیّن حمله علیه وإبقاء دلیلها علی ظاهره. انتهی.
وفیه ـ مضافاً إلی أنّ ذلک لیس من الجمع المقبول فإنّه هو الجمع العرفی العقلائی لا العقلیّ الدقیق العلمیّ الذی لاسبیل للعرف إلی نیله کما فیما ذکره، و لادلیل علی أنّ الجمع بأیّ وجه ممکن أولی من الطرح وأولی من عمل التعارض بل المیزان فیه عدم اندراج الدلیلین فی الخبرین المختلفین والمتعارضین الوارد فی أدلّة العلاج بحسب نظر العرف، وبالجملة هذا الوجه لیس موجباً لإخراج الأدلّة عن التعارض علی فرضه ـ أنّ مقتضی الاستحباب یمکن أن یزاحم مقتضی الحرام فی بعض ملاکه فیخرج الحرام عن کونه حراماً. فعلیه یمکن أن یکون التعلیق فی دلیل الحرام أیضاً، ولایتعیّن التصرّف فی دلیل الاستحباب لتحقّق احتمال التصرّف فی کلیهما فیبقی التعارض بحاله.
ویمکن أن یقال فی المقام و نظائره: إنّ الأحکام فی المطلقات لم تتعلّق إلاّ بنفس الطبائع دون أفرادها، ولم تکن ناظرة إلی أحوال الأفراد فضلاً عن کونها ناظرة إلی طبیعة اُخریٰ وأفرادها أو حال المزاحمات بین الأفراد أو المقتضیات فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 334
حال انطباق العناوین علی الموضوعات الخارجیّة.
وعلیه یکون حکم کلّ عنوان علیه فعلیّاً من غیرتعارض بین الدلیلین، فإنّ مصبّ التعارض بین الأدلّة هو مقام الدلالة والمدلول، والفرض أنّ الحکم متعلّق بالطبائع وکلّ طبیعة تغایر الاُخریٰ، فلا مساس بین الدلیلین و لا الحکمین المتعلّقین بالطبیعتین.
فلاتعارض بین قوله: البکاء والإبکاء مثلاً مستحب وبین قوله: الغناء حرام فی مقام الدلالات وتعلّق الأحکام بالموضوعات.
وأمّا مقام انطباق العناوین علی الأفراد الخارجیّة، فخارج عن باب تعارض الأدلّة والدلالات، لعدم کون الأفراد من مدالیل الأدلّة فی المطلقات، فالعناوین التی بینها عموم من وجه بحسب التصادق خارج عن باب التعارض.
فتحصّل من ذلک أنّ حرمة الغناء علی عنوانه باقیة فعلیة، واستحباب قراءة القرآن والرثاء علی أبی عبد الله الحسین ـ علیه السلام ـ کذلک، من غیر تعارض بین الدلیلین أو تزاحم بین المقتضیین.
نعم، العقل فی مقام الامتثال یحکم بلزوم الاحتراز من باب حفظ الغرض الأهمّ، فلو سمّی هذا عدم مزاحمة مقتضی المستحبّات لمقتضی المحرّمات فلابأس به بعد وضوح المراد.
فالترجیح فی مقام الامتثال بحکم العقل غیر مرتبط بمقام جعل الأحکام علی عناوین الموضوعات.
هذا بحسب القواعد، وأمّا لو فرض موردیکون بقاء الاستحباب مخالفاً لارتکاز المتشرعة یکشف ذلک عن قید فی دلیل الاستحباب.
کما لو فرض أنّ إکرام الضیف بالمحرّم لم یکن مستحبّاً بارتکاز المتشرّعة أو
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 335
بدلیل آخر یکشف ذلک عن قید فی دلیل استحبابه.
کما ورد فی صحیحة صفوان بن یحیی عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ: «لاتسخطوا الله برضا أحد من خلقه». تأمّل.
ترجیح أدلّة حرمة الغناءعلی فرض التعارض
ثمّ لو قلنا بتعارض الأدلّة فالترجیح لأدلّة حرمة الغناء بوجوه تأتی الإشارة إلیها قریباً إن شاء الله، بناء علی دخول العامّین من وجه علی فرض تعارضهما فی أدلّة العلاج ولو مناطاً، أو بإلغاء الخصوصیّة أو باستفادته من روایات العلاج.
فتحصّل من جمیع ذلک أنّ التمسّک لجواز التغنّی بالقرآن والمراثی بالأصل بعد تعارض الأدلّة غیر وجیه.
کما أنّ التشبّث بتعارف التغنّی فی المراثی فی بلاد المسلمین من زمن المشایخ إلی زماننا من غیر نکیر وهو یدلّ علی الجواز غالباً کما قال به المحقّق الأردبیلی غیر وجیه.
لأنّ التمسّک إمّا بسماع المشایخ وعدم منعهم وإنکارهم، فلاحجّة فیه بعد اختلاف الاجتهادات، مع ممنوعیّة کون عملهم علیه بل فیهم من منعه أو قام من مجلسه.
ولعلّ کثیراً منهم لایمنعه لاشتباه فی الموضوع والشکّ فی تحقّقه، کما أنّ الأمر کذلک غالباً بل الغالب عدم تحقّقه.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 336
أو یکون باتصال سیرتهم إلی زمن المعصومین ـ علیهم السلام ـ، فهو ممنوع لأنّ تلک المجالس المرسومة فی هذه الأعصار لم تکن معهودة قبل عصر الصفویّة بهذا الرواج، وأمّا فی عصر الأئمّة ـ علیهم السلام ـ وبعده إلی مدّة مدیدة فلاشکّ فی عدم تعارف انعقادها رأساً فضلاً عن التغنّی فیها بمرأی ومنظر من المعصومین ـ علیهم السلام ـ حتّی یکشف عدم الردع عن الجواز أو الاستحباب.
وأمّا ما أیّد به مذهبه من أنّ التحریم للطرب علی الظاهر ولهذا قید بالمطرب و لیس فی المراثی الطرب بل لیس إلاّ الحزن.
ففیه منع کونه للطرب بل الممنوع بمقتضی إطلاق الأدلّة طبیعة الغناء الذی عبارة عن صوت مطرب ولو اقتضاءً، وقد تقدّم أنّ الموادّ غیر دخیلة فی حرمة الغناء وموضوعه.
بل لو لم یحصل الطرب فی المراثی فإنّما هو لمضامین الکلام، وأمّا نفس الصوت بما هو مطرب مع کونه غناء فموضوع المحرّم متحقّق ولو فرض منع موادّ الکلام عن حصول الطرب فعلاً.
مضافاً إلی ممنوعیّة عدم حصول الطرب أحیاناً، فإنّ الغناء قد یکون محزناً، والطرب خفّة ربما تحصل من الحزن أو شدّته.
الأخبار التی تمسّک بها لاستثناء التغنّی بالنوح
بقی الکلام فی الأخبار التی تمسّک بها:
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 337
کموثقة حنّان بن سدیر، قال: کانت امرأة معنا فی الحیّ ولها جاریة نائحة فجاءت إلی أبی فقالت: یا عمّ، أنت تعلم أنّ معیشتی من الله ثمّ من هذه الجاریة، فأحبّ أن تسأل أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن ذلک، فإن کان حلالاً، وإلاّ بعتها وأکلت من ثمنها حتّی یأتی الله بالفرج، فقال لها أبی: والله إنّی لأعظم أبا عبد الله أن أسأله عن هذه المسألة، قال: فلمّا قدمنا علیه أخبرته أنا بذلک، فقال أبوعبدالله ـ علیه السلام ـ: «أتشارط؟» فقلت: والله ما أدری تشارط أم لا، فقال: «قل لها: لاتشارط وتقبل ما أعطیت».
وصحیحة أبی بصیر، قال: قال أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ: «لابأس بأجر النائحة التی تنوح علی المیّت». إلی غیر ذلک.
بدعوی أنّ النوح لایکون إلاّ مع التغنّی، أو أنّ مقتضی الإطلاق شمول الغناء.
وفیه منع عدم کون النوح إلاّ معه، بل الظاهر أنّ عنوان الغناء غیره وهما بحسب الحقیقة مختلفان بل متقابلان، ففی المنجد: ناحت المرأة المیّت وعلی المیّت: بکت علیه بصیاح وعویل وجرع.
ولو فرض أ نّه نفس الصوت الخاص لا البکاء فخصوصیّته مغایرة لخصوصیّة الغناء کما یشهد بها العرف، وتشهد بها روایة دعائم الإسلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، قال: «صوتان ملعونان یبغضهما الله: أعوال عند مصیبة، وصوت عند
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 338
نعمة، یعنی النوح والغناء». وروایة عبدالله بن سنان عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ، قا ل: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر، فإنّه سیجیء من بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء والنوح والرهبانیّة، لایجوز تراقیهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من یعجبه شأنهم». وعن القطب الراوندی فی دعواته عن الحسن بن علیّ ـ علیهما السلام ـ، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وعن جامع الأخبار عن حذیفة الیمان عنه صلی الله علیه و آله وسلم نحوها.
والظاهر من مقابلة ترجیع الغناء والنوح أ نّهما مغایران کما هو کذلک عرفاً وخارجاً، فلاتکون تلک الروایات شاهدة علی مذهبه.
فلو سلّم إطلاقها فلم یسلّم مساوقتهما وملازمتهما، فحینئذٍ یأتی فیها ما تقدّم فی الجواب عن أخبار استحباب الإبکاء والرثاء.
ولو فرضت معارضتهما فلاریب فی ترجیح روایات حرمة الغناء علیها، لموافقتها للمشهور، فإنّ مقتضی إطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم غیر الأعراس والحداء قصره علیهما أو علی أوّلهما کما یأتی الکلام فیه، وإنّما حکی عن بعضهم استثناء مراثی أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ المحقّق الثانی فی محکی جامع
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 339
المقاصد فأخذه عنه بعض من تأخّر.
فالشهرة مع عدم الاستثناء، وهی إمّا مرجّحة أو موهنة للأخبار المخالفة لها.
ومخالفتها للعامّة علی ما حکی عن مذاهبهم أنّ التغنّی من حیث کونه تردید الصوت بالألحان مباح لاشیء فیه ولکن قد یعرض له ما یجعله حراماً أو مکروهاً.
وعن إحیاء الغزالی عن الشافعی: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز کره السماع. و قد حکی حمل بعضهم ما عن أبی حنیفة أ نّه یکره الغناء ویجعل سماعه من الذنوب علی النوح المحرّم.
وموافقتها للکتاب بوجه لایخلو من إشکال.
وربّما یستشهد للجواز بما عن الصادق ـ علیه السلام ـ أ نّه قال لمن أنشد عنده مرثیة: اقرأ کما عندکم، أی بالعراق.
ویتّضح الجواب عنه مماّ تقدّم، مع عدم معلومیّة کیفیّة إنشاده عنده و کیفیّة القراءة بالعراق.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 340
عدم استثناء المراثی وقراءة القران ونحوهما
فالأقوی عدم استثناء المراثی والفضائل والأدعیة، و کذا عدم استثناء قراءة القرآن، کما تدلّ علیه بالخصوص روایات:
منها: روایة عبد الله بن سنان المتقدمة. ویظهر منها أنّ ألحان العرب المأمور بقراءة نحوها غیر ألحان أهل الفسوق والکبائر وغیر الترجیع بالغناء کما أنّ الواقع کذلک وجداناً؛ فإنّ القرّاء فی العراق والحجاز وسائر أقطار العربیة یقرأون القرآن بأصوات حسنة وألحان عربیّة لاتکون من سنخ التغنّی وأصوات أهل الفسوق.
ومنها: ما عن عیون الأخبار بأسانیده عن الرضا ـ علیه السلام ـ عن آبائه عن علیّ ـ علیه السلام ـ، قال: «سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم یقول: إنّی أخاف علیکم استخفافاً بالدین، وبیع الحکم، وقطیعة الرحم، وأن تتّخذوا القرآن مزامیر، وتقدّمون أحدکم ولیس بأفضلکم فی الدین».
ومنها: ما عن تفسیر علیّ بن إبراهیم بسنده، عن عبد الله بن عبّاس، عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث قال: «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات، واتّباع الشهوات، والمیل إلی الأهواء»، إلی أن قال: «فعندها یکون أقوام یتعلّمون القرآن لغیر الله، ویتّخذونه مزامیر، ویکون أقوام یتفقّهون لغیر الله، وتکثر أولاد الزنا، ویتغنّون بالقرآن»، إلی أن قال: «ویستحسنون الکوبة والمعازف»، إلی أن قال: «اُولئک یدعون فی ملکوت السموات الأرجاس الأنجاس».
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 341
والظاهر أنّ المراد باتّخاذ القرآن مزامیر قراءته علی نحو إیقاع المزامیر فإنّ التصویت فیها لیس قرآناً و قراءة.
بیان المراد مّما دلّت علی استحباب القراءة بصوت حسن
ومنها یظهر المراد فی روایات مستفیضة دالّة علی استحباب قراءة القرآن بصوت حسن:
فعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: «حسِّنوا القرآن بأصواتکم، فإنّ الصوت الحسن یزید القرآن حسناً»..
وفی موثقة أبی بصیر، قال: قلت لأبی جعفر ـ علیه السلام ـ: إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتی جاءنی الشیطان فقال: إنّما ترائی بهذا أهلک والناس، فقال: «یا أبا محمّد، اقرأ قراءة ما بین القراءتین تسمع أهلک، ورجِّع بالقران صوتک، فإنّ الله عزّوجلّ یحبّ الصوت الحسن یرجّع فیه ترجیعاً».
وما حکی عن بعض الأئمّة من قراءته بصوت حسن، کما عن علیّ بن الحسین ـ علیه السلام ـ أ نّه أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وکان السقاؤون یمرّون فیقفون ببابه یستمعون قراءته.
فإنّ المراد بالصوت الحسن مقابل اتّخاذ القرآن مزامیر والترجیع به ترجیع الغناء والتغنّی به کما فی الروایات المتقدّمة.
ولیس المراد بالصوت فیها ما هو المصطلح لأرباب السماع والموسیقی، بل
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 342
المراد ما هو المتفاهم منه عرفاً وما هو معناه لغة ولهذا وصفه بالحسن. ولاملازمة بین الصوت الحسن والغناء وإن لم یتّصف الصوت بالحسن إلاّ بتناسب بین قرعاته، لکن لیس کلّ صوت متناسب قرعاته غناء، ضرورة أنّ الألحان العربیّة متناسبة القرعات ومع ذلک لاتکون غناء کما جعلت مقابله فی الروایة المتقدّمة ویشهد به الوجدان.
والمراد بالترجیع فی موثّقة أبی بصیر لیس ترجیع الغناء کما تفسّره الروایة المتقدّمة، ولو حمل علی ترجیع الغناء صارت معارضة لجمیع الروایات الدالّة علی تحریم الغناء بل یصیر مضمونها مخالفاً للإجماع والضرورة، فإنّ الظاهر من التعلیل أنّ الصوت الحسن الذی یرجّع به ترجیعاً محبوب عندالله، فلو کان المراد به الغناء لزم منه أن یکون الغناءکذلک، وهوکماتری.
وحملها علی الغناء فی القرآن بتقییدها بالأدلّة المتقدّمة غیر وجیه، لأ نّه مضافاً إلی منافاته للتعلیل الظاهر فی إلقاء الکبری الکلیّة مستلزم للتقیید الکثیر المستهجن وإن قلنا بجوازه فی العرائس والحداء.
فلاشبهة فی أنّ المراد بترجیع القرآن الصوت الحسن فی مقابل ترجیع الغناء، وهو الذی یحبّه الله تعالی و ورد به ترغیب أکید، وهو الذی حکی عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أ نّه قال: «لم تعط اُمّتی أقلّ من ثلاث: الجمال والصوت الحسن والحفظ». فإنّ الغناء لیس من إعطاء الله تعالی ابتداءً بل لابدّ فیه من التعلّم، والظاهر من الروایة أ نّه کالجمال والحفظ.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 343
وممّا ذکرناه یظهر الجواب عن مرسلة الصدوق، قال: سأل رجل علیّ بن الحسین عن شراء جاریة لها صوت، فقال: «ما علیک لو اشتریتها فذکَّرتک الجنّة. یعنی بقراءة القرآن والزهدوالفضائل التی لیست بغناء فأمّا الغناء فمحظور».
فإنّ التفسیر لو کان للإمام ـ علیه السلام ـ فهی شاهدة جمع بین الأخبار کبعض ما تقدّم، وإن کان من الصدوق کما هو الأقرب، فالصوت فی الروایة محمول علی الصوت الحسن فتصیر کسائر الروایات.
وأمّا الحمل علی الغناء ـ بدعوی أنّ الصوت قد یراد به الغناء کما فسّره به بعض اللغویین، وفی المنجد الصوت معروف؛ کلّ ضرب من الغناء، وفسّره به فی روایة دعائم الإسلام المتقدّمة ـ بعید عن الصواب سیّما مع تنکیره، فإنّ الظاهر منه أنّ لها صوتاً حسناً لا أ نّها تعلم بعض المقامات الموسیقیّة وبحورها، بل الظاهر أنّ هذا الاصطلاح علی فرض ثبوته متأخّر عن زمن السجاد ـ علیه السلام ـ ولعلّه صار مصطلحاً فی عصرالرشید.
استثناء بعض الفقهاء الحداء من الغناء
ثمّ إنّه یظهر من المحقّق فی کتاب الشهادات استثناء الحداء من الغناء حکماً، وهو المحکی عن العلاّمة فی القواعد والشهید فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 344
الدروس والخراسانی، بل عنه دعوی الشهرة علیه، وفی شرح الفقیه للمجلسی الأوّل أنّ ظاهر أکثر الأصحاب استثنا الحداء، وفی الریاض والمستند: اشتهر استثناؤه.
لکن تأمّل صاحب مفتاح الکرامة فی الشهرة، وجزم فی الجواهر بعدمها و احتمل تحقّقها علی الخلاف. ولعلّه لإطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم ذلک ما عدا المحقّق ومن عرفت ممّن هو بعده.
والإنصاف عدم ثبوت الشهرة المعتمدة فی طرفی القضیة.
وقد یستدلّ علی الاستثناء أو یؤیّده بما روی أ نّه صلی الله علیه و آله وسلم قال لعبد الله بن رواحة: حرِّک بالنوق، فاندفع یرتجز. وکان عبد الله جیّد الحداء وکان مع الرجال. وکان أنجشة مع النساء، فلمّا سمعه تبعه، فقال صلی الله علیه و آله وسلم لأنجشة: «رویدک رفقاً بالقواریر، یعنی النساء».
وفیه ـ مضافاً إلی ضعف السند ـ أنّ الظاهر منها أنّ ابن رواحة ارتجز
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 345
لتحریک النوق. والإنشاد ببحر الرجز یخالف الغناء، ولایحصل به الخفّة والطرب الخاصّ بالغناء، بل یحصل منه التهیّج الخاص بالحرب ونحوه.
فیمکن أن یقال: فیها إشعار بعدم جواز الحداء والتغنّی للإبل، فإنّ ترکه والأخذ بالرجز، مع مناسبة الأوّل للسوق، مشعر بممنوعیّته.
وأمّا قوله: وکان عبد الله جیّد الحداء إخبار من الراوی، ولایدلّ علی حَدْوِه بالتغنیّ.
نعم، فی محکی مناقب محمد بن علیّ بن شهر آشوب قال: وکان حادی بعض نسوته صلی الله علیه و آله وسلم خادمه أنجشة فقال لأنجشة: «ارفق بالقواریر» وفی روایة: «لاتکسر القواریر».
وفیه ـ مضافاً إلی أنّ الظاهر أنّ صدره من کلام ابن شهر آشوب لاروایة عن المعصوم ـ أنّ المظنون أ نّه نقل بالمعنی حسب اجتهاده من قطعة من الروایة المتقدّمة مع أنّ فی معنی الحادی کلاماً یأتی عن قریب.
واستدلّ علیه بموثقة السکونی بإسناده، قال: «قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: زادُ المسافر الحداء والشعر ماکان منه لیس فیه خناء». وإسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.
وفی شرح الفقیه للمجلسی، والفقیه المطبوع فی عصرنا سنة 1376،
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 346
وفی الوافی: «الخنا»، وکذا فی مجمع البحرین فی کلمة حداء، وفسّره بالفحش، قال: وفی بعض النسخ: «جفاء»، وذکر الحدیث فی مادة «جفاء» أیضاً، فالمظنون أن یکون الصحیح الخنا بمعنی الفحش.
لکن جعل فی نسخة الوسائل الجفا فی المتن، والخنا فوق السطر مع علامة النسخة، وقال: «وفی نسخة: لیس فیه حنان» ثم قال: «و الحنان من معانیه الطرب» انتهی.
لکن لم أر شاهداً علی ما ذکره. نعم، الحنین من حنّ یحنّ جاء بمعنی الطرب وهو غیر الحنان.
ثمّ إنّ الروایة موثقة لا إشکال فیها سنداً، فإنّ إسماعیل بن أبی زیاد السکونی کثیر الروایة ومتقنها، وعن الشیخ فی مواضع من کتبه أنّ الإمامیة مجمعة علی العمل بروایته، وقد صرّح المحقّق فی محکی المسائل العزّیة بأ نّه من الثقات.
والإجماع علی العمل بروایاته إجماع علی العمل بروایات الحسین بن یزید النوفلی، فإنّ روایة السکونی من غیر طریقه نادرة جدّاً، فیکون المنصرف من روایاته ما هی بطریقه مع أ نّه أیضاً ممدوح بل حسن.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 347
ما هو معنی الحداء؟
إنّما الإشکال فی دلالتها، منشأه الشک فی معنی الحداء؛ هل هو بمعنی سوق الإبل مطلقاً بأیّة وسیلة کان کما هو ظاهر القاموس، قال: حدا الإبل وبها حدواً وحُداء وحِداء: زجرها وساقها. بناء علی أنّ ساقها معنی آخر له مقابل زجرها.
أو سوقها بمطلق الصوت الأعمّ من الغناء، کما یظهر منه فی کلمة «دی دی»، قال: ما کان للناس حداء، فضرب أعرابی غلامه وعضّ أصابعه، فمشی وهو یقول: «دی دی» أراد یا یدی، فسارت الإبل علی صوته، فقال له: ألزمه، وخلع علیه، فهذا أصل الحداء. انتهی. تأمّل.
أو مشترک بین سوق الإبل مطلقاً والتغنّی لها کما هو محتمل الصحاح و المنجد و مجمع البحرین، ففی الأوّل: الحدو سوق الإبل والغناء لها، و قریب منه فی تالییه.
أو هو سوق الإبل بالغناء، کما هو محتمل عبارة الصحاح وبعده و ظاهر الوافی والمسالک وشرح الفقیه للمجلسی والریاض والمستند ومجمع البرهان وغیرها، ففی الأوّل: هو سوق الإبل بالترنّم، وفی المسالک: سوق الإبل بالغناء لها ونحوه غیره. والظاهرمنهم تفسیره مطلقاً لاما هو موضوع الحکم
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 348
الشرعی أو مورد استثناء الفقهاء.
أو هو مباین للغناء، کما هو صریح مفتاح الکرامة تمسّکاً بشهادة العرف، وکأنّه مال إلیه فی الجواهر؟
فإن کان عبارة عن التغنّی للإبل فتکون الروایة أخصّ مطلقاً من أدلّة التحریم ولامانع من تقییدها لها سواء فی ذلک النسخ المختلفة، لأنّ کونه مطرباً من لوازم الغناء، فلایرجع إلیه القید ولو کان الحنان بمعنی الطرب.
إلاّ أن یقال: المأخوذ فی الغناء هو المطربیّة الاقتضائیّة والمراد بالحنان هو المطربیّة الفعلیّة.
لکنّه مع بعده یفید استثناء الغناء إلاّ إذا أثّر الطرب فعلاً.
وکذا لو کان أحد معنییه التغنّی لها والآخر السوق بغیر صوت.
وأمّا لو کان أعمّ من التغنّی بمعنی کونه إمّا مطلق سوق الإبل بصوت أو غیره بالتغنیّ أولا أو بمعنی سوقها بمطلق الصوت، فتصیر الروایة أعمّ من وجه من روایات التحریم، فیأتی فیها ما تقدّم من الکلام. وعلی فرض عمل المعارضة تقدّم علیها روایات التحریم بوجوه.
مضافاً إلی أ نّه علی فرض الأعمیّة تصیر مجملة لاحتمال رجوع القید المجمل إلیه، وإن لایبعد ظهوره فی الرجوع إلی الشعر لتأخّره وکون الضمیر مفرداً وعدم احتمال رجوعه إلی المتقدّم فقط.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 349
وکیف کان فالمتحصّل ممّا ذکرعدم استثناء الحداء من الغناء.
استثناء زفّ العرائس من الغناء فی الجملة
نعم، لاشبهة فی استثناء زفّ العرائس منه فی الجملة، لروایة أبی بصیر المحکیّة بطرق عدیدة صحیحة ومعتمدة:
ففی صحیحته قال: قال أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ: «أجر المغنّیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال».
ولیس فی سندها من یتأمّل فیه غیر أبی بصیر وهو یحیی بن أبی القاسم بقرینة علیّ بن أبی حمزة فی روایته الاُخری، فإنّ الظاهر أنّ الروایات الثلاث عنه روایة واحدة.
وهو ثقة علی الأظهر، فالإشکال علی سندها ضعیف.
وأضف منه الإشکال علی دلالتها. ضرورة أنّ حلّیّة الأجر ملازمة عرفاً لحلّیّة العمل.
وفی روایته الاُخری المعتمدة قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن کسب المغنّیات، فقال: التی یدخل علیها الرجال حرام، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس، و هو قول الله عزّ وجلّ: «ومن الناس من یشتری لهو الحدیث لیضلّ عن سبیل الله».
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 350
وفی روایته الثالثة الضعیفة بحَکم الخیاط عنه ـ علیه السلام ـ قال: «المغنّیة التی تزفّ العرائس لابأس بکسبها». فالحُکم فی الجملة ثابت لا إشکال فیه.
ودعوی أنّ تحریم الغناء بالأدلّة المتواترة، وفیها ما لاتقبل التخصیص کما تقدّم، بل لعلّ قبحه عقلی لکونه موجباً للفجوروالفسوق، فلایمکن تخصیصها سیّما بتلک الروایة الواحدة التی یمکن الخدشة فی سندها و دلالتها، غیر وجیهة لمنع إبائها عن التقیید. ومجرّد انطباق عنوان الباطل والزور علیه لایوجب ذلک سیّما فی زفّ الأعراس الذی یناسب نحو ذلک.
ولیس حرمته أشدّ من الربا، و لالسان أدلّته أشدّ وأغلظ من أدلّته و هی مخصّصة بموارد کالربا بین الوالد والولد والزوج والزوجة وغیرهما.
ولیس ملازماً للدخول فی المحرّمات والفجور والفسوق بل لایتّفق فی مجالس النساء إلاّ نادراً، و لو فرض فی مورد سببیة له لایحکم بالجواز لعدم إطلاق فی دلیل التجویز من هذه الحیثیة.
نعم، الظاهر اختصاص الجواز بالمغنّیة لا المغنّی وبمجلس العرس المختصّ بالنساء لاغیر، بل الأحوط الاقتصار بزفّ العرائس لاغیر، لأ نّه مقتضی الروایة الاُولیٰ والثالثة.
وأمّا الثانیة وإن کان مفادها أعمّ لکن الظاهر عدم کونها روایة مستقلّة، مع أنّ مفهوم غیرها أخصّ من منطوقها فیقیّد به.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 351
والظاهر من التقیید بزفّ العرائس فی مثل المقام الاحتراز عن غیره، فالأحوط الاقتصار علیه بل لایخلو من قوّة، لکن لابذلک التضییق بل لایبعد الجواز فی مقدّمات الزفّ ومؤخّراته المتداولة.
نعم، لایستثنی المجالس الاُخر المستقلّة فی أیّام الأعراس علی الأحوط الأقوی.
کما أنّ الأحوط الاقتصار علی خصوص حضور النساء، وعدم التغنیّ وأخذ الأجر مع حضور الرجال وإن کانت الروایات مشعرة بأنّ المراد بقوله: «لیست یدخل علیها الرجال» المجالس المعهودة التی تغنّت المغنّیات. للرجال مقابل مجالس الأعراس، لکن لایکفی الإشعار لتقیید الروایات، لاحتمال أن یکون المنع لمطلق دخول الأجنبی لکون صوتها بنحو التغنّی عورة وإن لم نقل بأنّ کلامها کذلک.
بل الأحوط عدم دخول المحرم أیضاً، لأنّ إسماع الغناء و استماعه محرّم ولو کان الإسماع لمحرم، وإنّما الخارج زفّ الأعراس مع عدم دخول الرجال، و مع وجود الرجال ولو کانوا من المحارم یکون التغنیّ حراماً وکذا أخذ الأجر علیه.
إلاّ أن یقال إنّ زفّ الأعراس إلی بیت الأزواج وتجویز الغناء لذلک ملازم لسماع الأجانب فضلاً عن بعض المحارم، فالتجویز للزفّ ملازم لتجویز الإسماع. لکن مقدار الملازمة هو الإسماع الاتفاقی للعابر ونحوه، ولایلزم منه جوازه للداخل لتلک الغایة.
أو یقال: إنّ الروایة منصرفة عن المحارم. وهو لیس ببعید وإن کان الأحوط ما ذکر.
کما أنّ الأحوط عدم جواز أخذ الأجر للتغنّی المتّحد خارجاً مع محرّم
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 352
کالتغنیّ بالکذب والفحش.
نعم، لابأس بأخذ الأجر للغناء وإن اقترنت معه المحرّمات الخارجیّة، کما لو کان مقترناً بآلات اللهو. وإن کانت المغنّیة ضاربة لها مع تغنیّها یجوز أخذه فی مقابل تغنّیها لا العمل المحرّم المقارن له.
حکم سائر الأصوات اللهویة
تنبیه: بناء علی ما ذکرناه فی موضوع الغناء من اعتبار الحسن الذاتی والرقّة فی الصوت فی الجملة لایدخل فیه سائر الأصوات اللهویّة کالتصنیفات المصطلحة بالألحان المعهودة عند أهل المعاصی والفسّاق.
فلا تکفی الأدلّة الدالّة علی حرمة الغناء بعنوانه لإثباتها لها لعدم صدقه علیها، بل لاتکون موجبة للخفّة المعهودة المعتبرة فی الغناء وإن یحصل به السرور ونحوه، ولاتصحّ دعوی إلغاء الخصوصیّة عرفاً کما هو ظاهر.
نعم، یمکن دعوی اندراجها فی قول الزور ولهو الحدیث بضمیمة الأخبار المفسّرة لهما بالغناء، بأن یقال: إنّ الظاهر من الروایات المفسّرة أنّ الغناء مندرج تحت عنوانهما.
واحتمال الإلحاق الحکمی أو الموضوعی الراجع إلی الحکمی نتیجة بعید جداً، بل فاسد مخالف للروایات:
کقوله: «قول الزور الغناء»، وقوله فی جواب السؤال عن قول الزور: الغناء.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 353
وکقوله: «الغناء ممّا قال الله عزّ وجلّ: «ومن الناس من یشتری...»». وأوضح منها قوله: «الغناء ممّا أوعد الله علیه النار» وتلا هذه الآیة: «ومن الناس...».
إلی غیر ذلک من الروایات الظاهرة فی اندراجه فی مفادها، ولاشک فی عدم اندراج عنوانه بما هو فیه.
وقد مرّ أنّ الأقرب فی وجه الاندراج أن یقال: إنّ إضافة القول إلی الزور تارة تکون باعتبار بطلان مقوله، واُخری باعتبار بطلان کیفیّة الصوت أو الصوت بالکیفیّة الباطلة.
ولولا قرینیة الروایات لکانت الآیة وکذا الآیة الاُخری ظاهرة فی الاعتبار الأوّل، لکن بعد قیام القرینة یکون مفادهما أعمّ، فیکون معنی الآیة ـ والعلم عنده تعالی ـ یجب الاجتناب عن قول هو زور بمقوله أو بعارضه الذی هو صوت باطل. فاندراج الغناء فیه من قبیل اندراج مصادیق العناوین فیها، فالحکم متعلّق بالصوت الزور والصوت اللهوی فیندرج فیه سائر الأصوات اللهویّة.
ویؤیّده ما أرسل فی مجمع البحرین، قال: «وروی أنّه یدخل فی الزور الغناء وسائر الأقوال الملهیة».
إلاّ أن یناقش فیه بأنّ غایة ما تدلّ الروایات اندراج الغناء فی الآیة، ولم یظهر منها کیفیّته، ولایکون الاندراج بالنحو المذکور للظهور المستند إلی الکلام
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 354
ولو بمؤونة الأخبار، لعدم قرینیتها لکیفیة الاندراج.
فیمکن أن یکون ذلک بنحو من الکنایة أو غیرها من أنحاء الدلالات الخفیّة التی لایعلمها إلاّ المخاطب بالکتاب العزیز وأهل بیته الخاصّ به.
وبالجملة لم یظهر من الروایات أنّ اندراج الغناء فی الآیتین بعنوان اللهو من حیث الصوت حتّی یشمل سائر الأصوات اللهویة.
والحاصل أ نّه لیس نحو الاندراج بما تقدّم إلاّ مظنوناً بالظنّ الخارجی الغیر الحجّة، لا المستند إلی الظهور ولو بقرینة، ولم یقم دلیل علی نحو الاندراج.
ویمکن الاستدلال علی حرمتها بما دلّ علی حرمة مطلق اللهو، کما هی ظاهر جملة من الفقهاء کالمحکیّ عن المبسوط والسرائر والمعتبر والقواعد والمختلف وغیرها، وإن کان ظاهر جمع آخر خلافها، ففی المقنع والهدایة والفقه الرضوی ومحکی الغنیة عطف سفر الصید علی سفر المعصیة بـ «أو» الظاهر فی مغایرتهما. وظاهر الخلاف والنهایة أیضاً عدم کونه محرّماً:
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 355
قال فی الأوّل: «سفر الطاعة واجبة کانت أو مندوباً إلیها مثل الحجّ و العمرة والزیارات وما أشبه ذلک فیه التقصیر بلا خلاف، والمباح عندنا یجری مجراه فی جواز التقصیر، وأمّا اللهو فلا تقصیر فیه عندنا».
ما دلّت علی حرمة اللهو من الآیات والروایات
وکیف کان یمکن أن یستدل علیها بروایة حمّاد بن عثمان، عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ فی قول الله عزّو جلّ: «فمن اضطرّ غیر باغ و لاعاد»، قال: «الباغی: باغی الصید، و العادی: السارق؛ لیس لهما أن یأکلا المیتة إذا اضطرا إلیها، هی حرام علیهما، لیس هی علیهماکما هی علی المسلمین، ولیس لهما أن یقصرا فی الصلاة».
وقریب منها ما روی عن عبد العظیم الحسنی فی أطعمة الجواهر والمستند. وفیها: «والعادی: السارق، و الباغی: الذی یبغی الصید بطراً و لهواً».
بتقریب أنّ المتفاهم عرفاً من تحریم المیتة ونحوها علی من خرج لسفر الصید، لدی الاضطرار حتی عند خوف الموت ـ سواء قلنا بعدم جواز أکله حتی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 356
یموت، أو قلنا بوجوب حفظ نفسه بأکل المیتة وهی محرّمة علیه ویعاقب علی أکلها کالمتوسط فی أرض مغصوبة علی بعض المبانی ـ أنّ حرمة السفر صارت موجبة لذلک، وأنّ الترخیص لدی الاضطرار منّة من المولی علی عبیده، ومع حصول الاضطرار بسبب أمر محرّم وبسبب طغیان العبد علی مولاه منعه عن ذلک التشریف.
فبمناسبة الحکم والموضوع عرفاً أنّ المنع عند الاضطرار وهذا التضییق والتحریج إنّما هو لارتکاب العبد قبیحاً ومحرّماً، ولو کان السفر مباحاً رخّصه الله تعالی و ذهب العبد لترخیصه فلایناسب المنع عنها عند الاضطرار لسد رمقه. و یشهد له مقارنته للسارق.
والظاهر أنّ ذکر الباغی والعادی مثال لمطلق العاصی المتجاوز الطاغی بل عنوانها أعمّ لکلّ ذلک، وأنّ التفسیر لبیان بعض المصادیق.
کما فسّر الباغی بالخارج علی الإمام العادل أیضاً فی مرسلة البزنطی عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ، وفسّر العادی بالمعصیة طریق المحقّین.
وعن تفسیر الإمام بالقوّال بالباطل فی نبوّة من لیس بنبیّ وإمامة من لیس بإمام.
وعن تفسیر العیّاشی: الباغی: الظالم، والعادی: الغاصب.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 357
ویشهد له أنّ الآیة الکریمة نزلت فی البقرة والأنعام والنحل بمضمون واحد، وفی المائدة: «فمن اضطرّ فی مخمصة غیر متجانف لإثم فإنّ الله غفور رحیم».
ومن نظر فی الآیات الأربع لایشکّ فی أ نّها بصدد بیان حکم واحد ویکون المراد من قوله: «غیر باغ ولاعاد» هوالمراد من قوله: «غیر متجانف لإثم» أی غیر متمایل له، وتکون الآیة الاُولیٰ بصدد تفصیل ما أجمل فی الأخیرة أو ذکر مصادیقها.
والظاهر من مجموعها أنّ الترخیص بما أ نّه للامتنان مقصور علی من لم یکن اضطراره بسبب البغی و التمایل إلی الإثم.
والخارج علی الإمام ـ علیه السلام ـ اضطرّه إلیه تمایله إلی الإثم المنتهی إلی تحقّقه، والخارج إلی التصید کذلک.
وحمل قوله: غیر متجانف لإثم، علی المیل إلی أکل المیتة واستحلالها، وحمل الحال علی المؤکّدة بعید عن ظاهر الکلام وعن ظاهر سائر الآیات الموافقة لها فی الحکم.
فتحصّل ممّا ذکرناه حرمة الخروج إلی الصید.
فیضمّ إلی ذلک ما دلّت علی أنّ لیس التقصیر فی سفر الصید لکونه مسیر باطل وکونه لهواً: کروایة ابن بکیر المعتمدة أو الصحیحة، قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن الرجل یتصیّد الیوم والیومین والثلاثة أیقصر الصلاة؟ قال: «لا، إلاّ
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 358
أن یشیّع الرجل أخاه فی الدّین، فإنّ التصیّد مسیر باطل لاتقصر الصلاة فیه». وموثقة زرارة عن أبی جعفر ـ علیه السلام ـ، قال: سألته عمّن یخرج عن أهله بالصقورة والبزاة والکلاب یتنزّه اللیلة واللیلتین والثلاثة هل یقصّر من صلاته أم لا؟ قال: «إنّما خرج فی لهو لایقصِّر. الحدیث».
فینتج أنّ اللهو والباطل محرّم.
وبالجملة، یستفاد من روایة حمّاد بن عثمان المفسِّرة للآیة حرمة سفر الصید بالتقریب المتقدّم، ومن الروایات المعلّلة لعدم التقصیر بأنّ التصیّد مسیر باطل وأ نّه خرج للهو أنّ اللهو محرّم.
لکن إثبات حرمة سفره بروایة حمّاد مشکل لضعفها بمعلی بن محمّد، فإنّه مضطرب الحدیث والمذهب بنصّ النجاشی والعلاّمة، ویعرف حدیثه وینکر عن ابن الغضائری. وقول النجاشی: کُتُبه قریبة، لایوجب الاعتماد علیها. ومجرّد کونه شیخ الإجازة لایکفی فی الاعتماد، إذ لادلیل مقنع علیه مع عدم ثبوت کونه شیخاً.
مضافاً إلی إمکان المناقشة فی بعض ما تقدّم من استفادة الحرمة من الآیات وإمکان إرجاع سائر الآیات إلی الأخیرة، وحملها علی الاحتمال المتقدّم کما حملها علیه المفسّرون.
بل فی الجواهر: الاتفاق ظاهراً علی تفسیر المتجانف للإثم بالمیل إلی أکل
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 359
المیتة استحلالاً أی اقترافاً بالذنب.
وغیر ذلک کإمکان المناقشة فی استفادة حرمة مطلق اللهو بنحو قوله: «إنّه مسیر باطل»، أو «إنّه خرج للهو» لاحتمال دخالة خصوصیّات سفر الصید اللهوی فی الحکم کالخروج مع البزاة والصقورة ونحوهما، فإلغاء الخصوصیّة مشکل، تأمّل.
فإثبات حرمة اللهو مطلقاً بما ذکر مشکل أو ممنوع.
ویمکن الاستدلال علیها بوجه آخر وهو إثبات کون اللهو باطلاً إمّا باندراجه فیه أو مساوقته له، فیجعل صغری لکبری حرمة کلّ باطل، فینتج حرمة مطلق اللهو.
أمّا الصغری فتدلّ علیها روایة عبد الله بن المغیرة ـ رفعها ـ قال: قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فی حدیث: کل لهو المؤمن باطل إلاّ فی ثلاث: فی تأدیبه الفرس، و رمیه عن قوسه، وملاعبته امرأته؛ فإنّهن حقّ.
والمستفاد منها ـ مضافاً إلی أنّ کلّ لهو باطل ما عدی الثلاث ـ أنّ أمثال المستثنی ممّا لها غایة عقلائیّة داخلة فی اللهو، وأنّ اللهو الحق منحصر فی الثلاث.
وموثقة عبد الأعلی، قال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن الغناء وقلت: إنّهم یزعمون أنّ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم رخّص فی أن یقال: جئناکم جئناکم، حیّونا حیّونا نحییکم، فقال: کذبوا، إنّ الله یقول: «وما خلقنا السماء...».
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 360
بتقریب أنّ أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ استدل علی بطلان زعمهم بالآیات الکریمة، ولایتمّ الاستدلال إلاّ باندراج الغناء فی اللهو واندراج اللهو فی الباطل الذی أزهقه الله بالحقّ ودمغه، فلو کان اللهو مرخّصاً فیه وکان حقّاً، أو کان علی قسمین: منها ما رخّص فیه لم ینتج المطلوب، فلابدّ فی تمامیة الاستدلال أن یکون کلّ غناء لهواً وکلّ لهو باطلاً لینتج أنّ کلّ غناء باطل.
ثم جعل النتیجة صغری لکبری هی: کلّ باطل مزهق مدموغ ممنوع، فینتج کلّ غناء ممنوع بحکم الله تعالی فأنتج منه: أ نّه کیف رخّص رسول الله صلی الله علیه و آله وسلمما منعه تعالی.
فتحصّل منه مساوقة اللهو للباطل، أو اندراجه فیه، کما ظهرت کیفیّة دلالتها علی حرمة الباطل أیضاً.
وروایة محمّد بن أبی عبّاد ـ وکان مستهتراً بالسماع ویشرب النبیذ ـ قال: سألت الرضا ـ علیه السلام ـ عن السماع، فقال: لأهل الحجاز فیه رأی وهو فی حیز الباطل واللهو، أمّا سمعت الله یقول: «وإذا مرّوا باللغو مرّوا کراماً».
وظاهرها أنّ السماع منطبق علیه العناوین الثلاثة وإن لم یظهر منها مساوقة العناوین.
نعم، لاتخلو من إشعار علی مساوقة الباطل واللهو، کما تشعر بها الروایات المتقدّمة التی فی بعضها أنّ التصیّد مسیر باطل، وفی بعضها إنّما خرج فی لهو والعمدة فی الباب موثّقة عبد الأعلی.
وأمّا الکبری فتدلّ علیها الموثقة بالتقریب المتقدّم.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 361
وصحیحة الریّان بن الصلت، قال: سألت الرضا ـ علیه السلام ـ یوماً بخراسان وقلت: إنّ العباسی ذکر عنک أ نّک ترخّص فی الغناء، فقال: «کذب الزندیق، ما هکذا قلت له؛ سألنی عن الغناء فقلت إنّ رجلاً أتی أبا جعفر ـ علیه السلام ـ فسأله عن الغناء، فقال: یا فلان، إذا میّز الله بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: قد حکمت».
وقد تقدّم وجه دلالتها علی حرمة الغناء. ویدلّ ذیلها علی أنّ حرمة الباطل کانت مفروغاً عنها، وإنّما ألزم أبو جعفر ـ علیه السلام ـ الرجل السائل بأنّ الغناء من الباطل فیکون حراماً، إذ لاشبهة فی أنّ الرجل کان سؤاله عن جواز الغناء وعدمه، فإنّ جوازه کان معروفاً عند العامة کما تقدّم، فصار موجباً للشبهة، فأجاب بعدمه مستدلاًّ بأ نّه باطل.
وتدلّ علیها أیضاً جملة من الروایات الدالّة علی أنّ الشطرنج وغیره من الباطل:
کموثقة زرارة عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ أ نّه سأل عن الشطرنج، وعن لعبة شبیب التی یقال لها: لعبة الأمیر، وعن لعبة الثلاث، فقال: «أرأیتک إذا میّز الله بین الحقّ والباطل مع أیّهما تکون؟» قال: مع الباطل، قال: «فلا خیر فیه».
ولاریب فی أنّ قوله: فلاخیر فیه یراد به الحرمة لقیام الضرورة علی حرمة الشطرنج و القمار بأقسامه.
ومرسلة یعقوب بن یزید عن أبی عبد الله ـ علیه السلام ـ، قال: «الشطرنج من
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 362
الباطل». ونحوها غیرها.
وظاهر تلک الطائفة أنّ الباطل معلوم الحرمة ولذا کان فی مقام بیان حرمة المذکورات اکتفی باندراجها فیه کما تقدّم فی روایة الریّان من قوله: «قد حکمت». لکن یمکن المناقشة فیما تقدّم بأن یقال: إنّ الاستشهاد با لآیات لایکون من قبیل الاستدلال المنطقی والاستنتاج من صغری وکبری فی مقابل الخصم الغیر المعتقد بإمامته، للزوم کون الاستدلال حینئذٍ بالظاهر المتفاهم عرفاً حتی یجاب به الخصم. ولاریب فی أنّ الظاهر من الآیة الاُولیٰ المستشهد بها فی الروایة أ نّه تعالی لم یخلق شیئاً لعباً بل لغایة بما یلیق بذاته المقدّسة.
ومن الثانیة أ نّه تعالی لم یتّخذ اللهو، وقد فسِّر بالمرأة والولد والصاحب، ولو یراد أعمّ منها یکون المعنی أ نّه لم یتّخذ مطلق اللهو، وبمناسبة السابقة أ نّه تعالی غیر لاه کما أ نّه غیر لاعب.
ومن الثالثة أ نّه تعالی مضافاً إلی تنزّهه عمّا ذکر یجعل الحقّ غالباً وقاهراً علی الباطل بإقامة البیّنة علیه کما فسّرت بها، ومن یکون کذلک لایکون لاهیاً، وهو وجه المناسبة بینهما.
وفی تفسیر البرهان عن یونس بن عبد الرحمن ـ رفعه ـ قال: قال أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ: لیس من باطل یقوم بإزاء الحقّ إلاّ غلب الحقّ الباطل، وذلک قوله تعالی: «بل نقذف بالحقّ علی الباطل فیدمغه فإذا هو زاهق».
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 363
ولایبعد أن تکون الروایة غیر مرفوعة، لأنّ یونس لاقی أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ وإن قال النجاشی: إنّه لم یرو عنه وإن لاقاه، لکن مع ورود ماهو ظاهر فی روایته عنه ـ علیه السلام ـ لاحجّة علی کونها مرفوعة، ولعلّ النجاشی لم یطّلع علی روایته عنه لندرتها، کما أنّ ظاهر النجاشی أ نّه رأی أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ مرة واحدة بین الصفا و المروة مع أ نّه فی روایة العبیدی: سمعت یونس بن عبد الرحمن یقول: رأیت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ یصلّی فی الروضة بین القبر والمنبر ولم یمکننی أن أسأله عن شیء.
ولا دلالة فیها أیضاً أ نّه لم یرو عنه مطلقاً، ولعلّ مستند النجاشی علی عدم روایته قول البرقی فی الروایة المتقدّمة: رفعه.
وفی تفسیر البرهان عن أیّوب بن الحرّ، قال: قال لی أبو عبدالله ـ علیه السلام ـ: «یا أیّوب، ما من أحد إلاّ وقد یرد علیه الحقّ حتّی یصدع قلبه، قبله أم ترکه، وذلک قول الله عزّ وجلّ فی کتابه: «بل نقذف...».
فظهر أنّ الآیات الثلاث إخبار عن تنزّهه تعالی عن اللعب واللهو وأ نّه تعالی یقذف الحقّ والحجج الدالّة علیه علی الباطل فیدمغه، فلایستفاد منها بحسب ظاهرها حرمة الغناء ولا اللهو والباطل.
مضافاً إلی أنّ اللعب واللهو والباطل عناوین مختلفة لعلّ بینها عموماً من وجه و معه لایمکن الاستنتاج القیاسی کما لایخفی.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 364
وعلیه یمکن أن یکون الاستشهاد لمجرّد مناسبة بین تنزیه الله تعالی عن عمل اللهو والباطل وتنزیه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن ترخیص الغناء، فلایصحّ الاستدلال بها علی حرمة مطلق اللهو.
نعم، فیها إشعار علی عدم ترخیصه مطلقه، أو أنّ الغناء غیر مرخّص فیه لکونه لهواً، لکنّه لیس بحیث یمکن الاستناد إلیه علی حرمة مطلقه، لاحتمال أن یراد بها أنّ الّذی یبطل الباطل لایرخّص الغناء وما هو بمنزلته، ولیس کلّ لهو وباطل کذلک.
وأمّا روایة ابن المغیرة الدالّة علی أنّ کلّ لهو المؤمن باطل...، فهی مع الغضّ عن سندها من أدلّ الدلیل علی أنّ مطلق الباطل لیس بحرام، لأ نّها دلّت بواسطة استثناء المذکورات علی أنّ ما یترتّب علیها الأغراض العقلائیّة کتأدیب الفرس لهو باطل ما سوی الثلاثة، والضرورة قائمة بعدم حرمة أمثالها.
ثمّ إنّه لابدّ من حملها علی أنّ کلّ لهو المؤمن باطل حکماً، وإلاّ فماله غایة عقلائیّة لیس بباطل موضوعاً ولایمکن الحکم بالحرمة لما عرفت، فیکشف منها أنّ الباطل منه ما یکون محرّماً، ومنه غیر محرّم بل مکروه.
وأمّا ما ذکرناه من دلالة الروایات علی مفروغیّة حرمة الباطل ولهذا استشهد لحرمة الشطرنج وغیره من أنحاء القماروالغناء بکونها باطلاً، فبعد فرض التسلیم لابدّ من حملها علی معهودیّة حرمة قسم خاصّ من الباطل، وإلاّ فمطلقه لم یکن معهوداً حرمتها بل کثیر منه معهود حلیّته بلاشبهة.
مضافاً إلی احتمال أن تکون الروایات الواردة فی أنّ الشطرنج والسدر
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 365
ونحوهما باطل إشارة إلی انسلاکها فی قوله تعالی: «لاتأکلوا أموالکم بینکم بالباطل»، کما یشعر به قوله: «لاخیر فیه»، وتشهد به جملة من الروایات المفسّرة للآیة الکریمة بالقمار:
کصحیحة زیاد بن عیسی الحذاء، قم ال: سألت أبا عبد الله ـ علیه السلام ـ عن قوله عزّ وجلّ: «ولاتأکلوا أموالکم بینکم بالباطل» فقال: «کانت قریش یقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم الله عزّوجلّ عن ذلک».
وفی روایة اُخریٰ عنه ـ علیه السلام ـ: «یعنی بذلک القمار». وقریب منها غیرها.
وبالجملة لادلالة فی تلک الروایات علی حرمة مطلق الباطل أو اللهو بل تدلّ إمّا علی حرمة أکل المال به، أو علی حرمة نوع خاصّ.
ثمّ لو فرض قیام الدلیل علی حرمة الباطل، لکن کون الغناء والأصوات اللهویة منه عرفاً محلّ إشکال، لأنّ الباطل بمعنی الفاسد الّذی لایترتّب علیه الأثر، والّذی لامصرف له، والّذی لاغرض فیه، وشیء منها لاینطبق علی الغناء ونحوه ممّا هو متعلّق الأغراض العقلائیّة، ولولا منع الشارع الأقدس لما عدّ نحوه فی الباطل والهزل واللغو، فالاستدلال علی حرمته بحرمة تلک العناوین علی فرض ثبوتها غیر وجیه.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 366
واستدلّ علی حرمة مطلق اللهو بجملة من الروایات:
منها: روایة سماعة، قال: قال أبو عبد الله ـ علیه السلام ـ: «لمّا مات آدم ـ علیه السلام ـ شمت به إبلیس وقابیل فاجتمعا فی الأرض فجعل إبلیس وقابیل المعازف والملاهی شماتة بآدم ـ علیه السلام ـ، فکلّ ما کان فی الأرض من هذا الضرب الّذی یتلذّذ به الناس فإنّما هو من ذلک».
ولایخفی ما فیه، فإنّ قوله: «من هذا الضرب» إشارة إلی المعازف والملاهی، فکأ نّه ضروب الملاهی والمعازف الَّتی یتلذّذ بها الناس من ذلک، والملاهی جمع الملهاة، فلاتدلّ علی حرمة مطلق اللهو ولا الغناء.
ومنها: ما عن المجالس للحسن بن محمد الطوسی بسند ضعیف، عن أبی الحسن علی بن موسی ـ علیه السلام ـ، عن آبائه، عن علی ـ علیه السلام ـ، قال: «کلّ ما ألهی عن ذکر الله فهو من المیسر».
وفیه ـ مضافاً إلی بُعد أن یراد بالکلیة جمیع صنوف الملهیات و إلحاقها بالمیسر حکماً، لأنّ الإلحاق الحکمی بلسان الإلحاق الموضوعی غیر مناسب للبلاغة ومجرّد اشتراکها فی الإلهاء لایصحّح الدعوی، فلایبعد أن یکون المراد بالکلیّة صنوف المقامرة کما ورد «کلّ ما قومر علیه فهو میسر» ـ أنّ المراد بالملهی عن ذکر
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 367
الله لیس الغفلة عن التوجّه إلیه تعالی بالضرورة.
فلایبعد أن یکون المراد به ما یوجب الغفلة عنه تعالی بحیث لایبالی بالدخول فی المعاصی کما هو شأن المقامرات واستعمال الملاهی.
أو کان المراد غفلة خاصة تحتاج إلی البیان من قبل الله تعالی.
وبهذا یظهر الکلام فی روایة أعمش عن جعفر بن محمّد ـ علیهما السلام ـ فی حدیث شرائع الدین، حیث عدّ فیها من جملة الکبائر الملاهی وقال: «والملاهی الّتی تصدّ عن ذکر الله عزّ وجلّ مکروهة کالغناء وضرب الأوتار».
وقوله: «مکروهة» یراد بها التحریم، أو تکون بالنصب ویکون المراد أ نّها تصدّ عن ذکر الله کرهاً واستلزاماً بلا إرادة من الفاعل، تأمّل.
وذلک لأنّ التمثیل بالغناء وضرب الأوتار لإفادة سنخ مایکون صادّاً عن ذکر الله تعالی، فإنّ ضرب الأوتار والغناء ونحوه توجب فی النفس حالة غفلة عن الله تعالی، وأحکامه، ویکون الاشتغال بها موجباً للوقوع فی المعاصی کما ورد فی الغناء أ نّه رقیة الزنا، وفی البربط: «من ضرب فی بیته أربعین صباحاً سلّط الله علیه شیطاناً» إلی أن قال: «نزع منه الحیاء ولم یبال ما قال ولاما قیل فیه».
وفی روایة: «فلا یغار بعدها حتّی تؤتی نساؤه فلا یغار».
وقال الله تعالی: «إنّما یرید الشیطان أن یوقع بینکم العداوة والبغضاء فی
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 368
الخمر والمیسر ویصدّکم عن ذکر الله وعن الصلاة». فلا دلالة فیها علی حرمة مطلق اللهو.
ومنها: روایة الفضل بن شاذان المرویّة عن العیون، وهی حسنة أو صحیحة ببعض طرقها، وفیها فی عدّ الکبائر: «والاشتغال بالملاهی».
وفیه أنّ الظاهر منها آلات اللهو لامطلق الملهیات. إلی غیر ذلک ممّا هی دونها فی الدلالة.
فتحصّل من جمیع ذلک عدم قیام دلیل علی حرمة مطلق اللهو ولاعلی مطلق الأصوات اللهویة.
نعم، الأحوط الاجتناب عن بعض صنوف الأصوات اللهویّة کالتصانیف الرائجة بألحان أهل الفسوق، لاحتمال مساواتها مع الغناء فی دخولها فی الباطل الّذی ورد فیه: «إذا میّزالله بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء» فی صحیحة الریان بن الصلت.
واحتمال إلغاء الخصوصیّة من الغناء وإلحاقها به ودخولها فی الّتی تصدّ عن ذکر الله وألهت عنه، وإن کان للمناقشة فیها مجال. والله العالم بالحال.
المکاسب المحرمةج. 1صفحه 369