تذییل : فی کیفیة دلالة الجُمل الخبریة علی الطلب والوجوب
کثیراً ما یستعمل الجمل الخبریة فی الکتاب والسنّة فی مقام الإنشاء ، کقوله تعالی : «وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أوْلاٰدَهُنّ» ، «والمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» ، وقوله علیه السلام : «یسجد سجدتی السهو» ، أو «یعید صلاته» ، أو «یتوضّأ» ، أو «یغتسل» ، إلیٰ غیر ذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155 ولا إشکال : فی أنّها کهیئة الأمر فی الدلالة علی البعث والإغراء ، وقد أشرنا أنّ تمام الموضوع لحکم العقلاء بلزوم الإطاعة نفس البعث والإغراء ـ بأیّ دالٍّ صدر من المولیٰ ـ من غیر فرق بین هیئة الأمر والإشارة وغیرهما . فحال الجمل الخبریة المستعملة فی مقام البعث والإغراء حال هیئة الأمر وإشارة الأخرس فی إفادة الوجوب . وهذا ممّا لا کلام فیه .
وإنّما الکلام : فی کیفیة دلالتها علی الطلب والوجوب :
فقال المحقّق العراقی قدس سره : إنّه ذکر لتشخیص کیفیة دلالة الجمل الخبریة علی الطلب وجوه :
الأوّل : ما یظهر من کلمات القدماء من أنّها قد استعملت فی الطلب مجازاً .
فردّه : بأنّ الوجدان حاکم بعدم عنایة فی استعمالها حین دلالتها علی الطلب ، بل لا فرق بین نحو استعمالها حین الإخبار بها ونحو استعمالها حین إفادة الطلب بها ، انتهی .
ولکن فیما أفاده نظر ؛ وذلک لأنّ مراد القدماء بالمجاز أنّ هیئة الجملة الخبریة استعملت فی المعنی الإنشائی ؛ بأن یکون معنیٰ «تغتسل» مثلاً «اغتسل» .
فالکلام فیه هو الکلام فی باب المجاز من أنّه لم یکن کذلک . وإن أرادوا : أنّها استعملت فی معناها ، لکن بداعی الإنشاء فلا غبار علیه ، فلاحظ ما ذکرناه فی الاستعمالات المجازیة .
ثمّ ذکر قدس سره الوجه الثانی ، وأشار إلیٰ ضعفه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 156 ثمّ ذکـر وجهاً ثالثاً واختاره ، وحاصلـه : أنّ الجمل الخبـریـة الفعلیة ، کـ «بعت» و«یغتسل» تستعمل دائماً ـ سواء قصد بها حکایتها عن وقـوع شیء فـی الخارج ، أم قصـد بها إنشاء أمرٍ ما ـ فـی إیقاع النسبة بین الفاعل المسند إلیه ذلک الحـدث ، وبین مادّة ذلک الفعل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157 غایة الأمر : الداعی إلی إیقاع النسبـة المذکورة إن کـان هو الکشف عن وقوعها فی الخارج کانت الجملة خبریة محضة ، وإن کان الداعی إلی إیقاع النسبة هو التوسّل والتسبّب إلیٰ وقوعها فی الخارج کانت الجملة خبریة قائمة مقام الجملة الإنشائیة فی إفادتها الطلب ؛ لدلالته بالملازمة علیٰ طلب المخبر للفعل الذی أخبر بوقوعه ، انتهی .
وفیه : أنّ ظاهر کلامه ، بل صریحه یعطی بأنّ الجمل الخبریة لم توضع للإخبار والحکایة ، بل وضعت لإیقاع النسبة بین الفاعل ومادّة الفعل .
مع أنّ الوجدان أصدق حاکم بخلافه ؛ ضرورة أنّه إذا کانت الجملة الخبریة موضوعة لإیقاع النسبة لصحّ أن یقال فی تفسیر «یضرب زید» مثلاً : اُوقعت النسبة بین مادّة «ضرب» و«زید» ، مع أنّه کما تریٰ . بل معناه الإخبار عن وقوع الضرب من زید ؛ ولذا یصحّ التعبیر عنه بالجملة الاسمیة ؛ فیقال : «زید ضارب غداً» .
نعم ، فی الجمل الخبریة المستعملة فی مقام البعث والإغراء توضع النسبة بتلک الجملة ، وکم فرق بین ذلک وبین کون الجملة معناها ذلک ، کما لا یخفیٰ ! هذا أوّلاً .
وثانیاً : سلّمنا کون مفاد تلک الجمل إیقاع النسبة وتلک من دواعیها ، لکن کیف صحّ أن یقال : إنّها خبریة قائمة مقام الجملة الإنشائیة ؟ ! لأنّ داعی کشفها عن وقوعها فی الخارج وداعی التسبّب إلیٰ وقوعها فی الخارج خارجان عن حریم الموضوع له ؛ فوجودهما کعدمهما .
فعلی هذا : لابدّ وأن تکون تلک الجمل لا خبریة ولا إنشائیة ، وهو کما تریٰ .
وثالثاً : أنّ المقام مقام إثبات کیفیـة دلالـة تلک الجمل علی الطلب ، لا أصل استعمالها فیه ؛ ضـرورة أنّ استعمال تلک الجمـل فـی ذلک ـ کما أشـرنا ـ أمـر معلـوم لا سترة فیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158 فإذن : لم یتحصّل من کلامه قدس سره إلاّ أنّ الجمل الخبریة استعملت فی الإنشائیة ، وهو عین الدعویٰ .
والذی ینبغی أن یقال فی الجمل الخبریة المستعملة فی مقام البعث والإغراء ، ویساعده الذوق السلیم والارتکاز العرفی ـ الذی هو الدلیل الوحید فی أمثال هذه الاُمور ـ إنّ هیئة الجملة الخبریة الفعلیة وضعت للحکایة عن وقوع النسبة ولحوقها ، فبعد حکایتها عن ذلک تارة یرید استقرار ذهن السامع علیه ، ولعلّه الغالب فی استعمال تلک الجمل ، فتکون إخباراً عن الواقع .
واُخریٰ یخبر عن الواقع ، ولکن مشفوعاً بادّعاء الوقوع . فعلیٰ هذا استعملت الجملة الخبریة فی معناها الإخباری ، لکن لأجل تحریک المخاطب نحو الواقع .
فإذن : الجمل الخبریة المستعملة فی مقام الإنشاء مجاز بالمعنی الذی ذکرناه فی محلّه ، والطلب بهذا اللسان أبلغ من الطلب بهیئة الأمر ، کما لا یخفیٰ .
ألا تریٰ : أنّک إذا أردت تحریک ابنک إلیٰ إتیان فعل یحفظ مقامک فقلت له : ابنی لا یفعل ذلک ، أو ابنی یحفظ مقام أبیه ، فتریٰ أنّه أبلغ وأوفیٰ من قولک له : افعل کذا .
وبالجملة : قولک لابنک : ابنی یصلّی ـ مثلاً ـ فی مقام البعث والإغراء لا ترید منها إلاّ أمرک ابنک بالصلاة ، لکن بلسان الإخبار عن وقوعها وصدورها منه وعدم قابلیتها للترک ؛ فکأنّک أوکلت إتیانها إلیٰ عقله وتمییزه ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159