الأمر الثالث : فی أنحاء موضوع الوجوب الکفائیّ
یمکن أن یکون موضوع الوجوب الکفائیّ وموضوع الوجوب العینیّ، واحداً بحسب الثبوت، وهکذا یمکن أن یکون عنوان «الواحد من المکلّفین» أو طبیعیّ المکلّف موضوعاً.
وأمّا جواز کون الموضوع صِرف وجود المکلّف، فهو محلّ المناقشة، وسیظهر تحقیقه.
وإجماله: أنّ الصِرْف لیس قابلاً للتکرار عَرْضاً، ولا طولاً، وهذا هنا غیر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 39 متصوّر، وإمکان اعتباره لا یخلو من مناقشة تأتی إن شاء الله تعالیٰ.
وأمّا عنوان «المجموع» أو «الجمیع» أو عنوان آخر شبیه ذلک، فهو غیر ممکن. وهکذا لا یعقل کون الوجوب بنحو المشروط والمعلّق، کما مرّ فی الوجوب التخییریّ.
نعم، یعقل کونه بنحو الواجب التخییریّ؛ بمعنیٰ أن یعتبر وجوب الغسل علیٰ زید، أو علیٰ عمرو، فیلزم ـ بحسب العقل قیام الآحاد لاداء الفریضة؛ حتّیٰ لا یخلّ بمطلوب المولیٰ، وإلاّ فیستحقّ الکلّ العقاب.
فبالجملة: هناک دعاوٍ ثلاث:
الدعویٰ الاُولیٰ: أمّا إمکانها؛ فلأنّ الإیجاب علیٰ الکلّ بنحو العموم الاستغراقیّ تارة: یقع بغرض صدور الطبیعة من کلّ واحد، وهذا محال، مع عدم إمکانه ثبوتاً أو عدم کونه مطلوبه إثباتاً، وهکذا مع فرض مبغوضیّته.
واُخریٰ: یقع لأجل أنّ المولیٰ یریٰ إمکان تخلّف العباد عن مرامه وطلبه، ولأجل مثله یتمکّن من ترشیح الإرادة الجدّیة بالنسبة إلیٰ بعث الناس عموماً. وهذا مع مراجعة الوجدان من الواضحات.
نعم، فیما إذا کان الفرد الثانی مبغوضاً، فلابدّ من إعلام ذلک بإحدی الدلالات الممکنة، ولا یلزم منه کون الإیجاب العمومیّ غیر ممکن، کما تریٰ. فما یظهر من المتأخّرین، حتّیٰ الوالد المحقّق ـ مدّظلّهـ من إنکار إمکان ذلک، غیر موافق للتحصیل جدّاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 40 وبعبارة اُخریٰ: صدور القتل من کلّ واحد مع قطع النظر عن الآخر، ممکن مقدور، وعلیٰ هذا یصحّ إیجابه علیٰ کلّ واحد مع قطع النظر عن الآخر؛ بداعی وصوله إلیٰ مرامه ومطلوبه. ومجرّد إمکان التوصّل إلیٰ مرامه بإیجابه علیٰ الواحد، لا یصحّح امتناع الإیجاب علیٰ العموم استغراقاً، کما هو الظاهر.
وتوهّم: أنّ امتناع صدور القتل مثلاً من کلّ واحد فی عَرْض الآخر، یستلزم امتناع إیجابه عرضاً، فلابدّ من إیجابه علی البدل؛ لإمکانه علیٰ البدل، لا یفید شیئاً؛ لأنّ الصدور من کلّ واحد مع قطع النظر عن الآخر، یصحّح الإیجاب العمومیّ الاستغراقیّ.
نعم، لا یعقل أن یطلب المولیٰ من المجموع التصدّی للقتل؛ بحیث یصدر القتل من کلّ واحد اعتبر فی المجموع، لا بنحو یکون کلّ واحد جزءً من العلّة التامّة. وبالجمله ما نسب إلیٰ المشهور متین جدّاً.
وأمّا إمکانه علیٰ عنوان «الواحد» فهو أیضاً معلوم.
وتوهّم: أنّ العنوان الانتزاعیّ، لا یکون قابلاً للبعث والإیجاب، فی محلّه جدّاً. إلاّ أن یقال: قابلیّة منشأ الانتزاع تکفی لکونه مورد الإنشاء والإیجاب، فتأمّل جدّاً.
وأمّا إمکانه علیٰ عنوان طبیعیّ المکلّف، فهو أیضاً معلوم.
وتوهّم: أنّ ذلک یرجع إلیٰ الاستغراقیّ خالٍ عن التحصیل؛ ضرورة أنّ الطبیعة تتحقّق بأوّل مصداق، وسریانها إذا کان مطلوباً یحتاج إلیٰ اللحاظ الزائد.
الدعویٰ الثانیة: أنّ کون الموضوع عنوان «المجموع» و«الجمیع» لا منع فیه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 41 ذاتاً، إلاّ أنّه لا محصّل له؛ ضرورة أنّه یرجع إلیٰ لزوم اشتراک الکلّ فی الإصدار والإیجاد، وهذا واضح بطلانه فی الکفائیّ، ولا یکون من الکفائیّ رأساً؛ لعدم سقوط التکلیف بفعل البعض، فعدّ مثله من المحتملات ـ کما فی کلماتهم من التخیّل الناشئ عن الغفلة.
الدعویٰ الثالثة: قد مضیٰ أنّ إیجاب شیء مشروطاً بترک الآخر من غیر توقیت، یؤدّی إلیٰ إهمال التکلیف؛ لأنّه لا یتحقّق الشرط.
نعم، إذا کان یکفی الترک آناً ما، یلزم وجوبه الفعلیّ المنجّز علی الکلّ، وهذا واضح المنع؛ لامتناع صدور صِرْف الطبیعة من الکثیر، أو لبمغوضیّة الفرد الآخر وهکذا. اللهمّ إلاّ برجوع المسألة إلیٰ الإیجاب الاستغراقیّ علیٰ الوجه المزبور، وهو صحیح، إلاّ أنّه لا حاجة إلیٰ تبعید المسافة، کما تریٰ.
وهکذا إذا اعتبر بنحو الوجوب المعلّق؛ أی یجب علیٰ زید عند ترک عمرو وهکذا، فلیتأمّل جیّداً.
نعم، یصحّ التخییر الشرعیّ؛ فإنّ الواجب التخییریّ بهذا النحو وإن لا یستدعی التکلیفُ بعثَ المجموع نحو العمل، إلاّ أنّ المکلّف الملتفت إذا توجّه إلیٰ مثله یبادر؛ حتّیٰ لا یلزم الإخلال بالغرض. والإشکال فی الوجوب التخییریّ، مندفع بما مرّ فی الواجب التخییریّ بتفصیل لا مزید علیه.
فبالجملة تحصّل: أنّ تعیین الموضوع للوجوب الکفائیّ، أو أصل الحاجة إلیه فیه، غیر مرضیّ، بل المسألة تدور مدار الأدلّة إثباتاً. نعم لو اقتضیٰ أحیاناً دلیلٌ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 42 بعضَ الصور الممتنعة، فلابدّ من الأخذ بما هو الأقرب إلیه.
فما تریٰ فی کتب القوم؛ من ذهاب بعض إلیٰ أنّ الموضوع «أحد المکلّفین» أو أنّه طبیعیّ المکلّف، أو کذا وکذا، فهو نزاع باطل؛ لإمکان الالتزام بالکلّ ثبوتاً، فلابدّ من المراجعة إلیٰ الأدلّة.
وأمّا توهّم: أنّ الموضوع واحد معیّن عندالله ، ویسقط الفعل بإتیان المتبرّعین، فهو غیر ممنوع ثبوتاً، کما فی قضاء الولیّ عن الوالد، إلاّ أنّه معناه عدم صحّة عقاب الآخرین، وهو خلف؛ ضرورة أنّ المقصود تصویر الوجوب الکفائیّ الملازم للآثار الخاصّة؛ من تعدّد العقاب، وسقوط التکلیف بفعل واحد من المکلّفین.
ولعمری، إنّ من اعتبر أنّ موضوعه هو «الواحد» فإنّه قد أنکر الکفائیّ من غیر استشعار؛ لأنّه مع کون الموضوع عنوان «الواحد» فهو من العینیّ، لا الکفائیّ کما لا یخفیٰ، فتأمّل.
وإن شئت قلت: الکفائیّة حقیقة من خصوصیّات مقام الامتثال، دون الجعل؛ فإنّ العینیّ والکفائیّ بحسب الجعل متّحدان، وبحسب الامتثال مختلفان، وإذا کان مورد التکلیف علیٰ نحو ینعدم موضوعه بإتیان بعض، فیسقط التکلیف قهراً وطبعاً، ویعدّ هذا کفائیّاً، ـ فتأمّل ـ نظیر الإتیان بالتمام فی موضع القصر، فإنّ التکلیف متوجّه بالنسبه إلی القصر واقعاً، ولکن فی مقام الامتثال ینتفی موضوعه بإیجاد التمام فی موضعه .
إعادة وإفادة
قد مرّ فی ابتداء المسألة: أنّ التکلیف إذا کان مورده نفس الطبیعة، فهو یسقط
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 43 عن الکلّ بإتیانها؛ لأنّه مقتضیٰ کون المکلّف به نفس الطبیعة، بخلاف ما إذا کان المکلّف به صدور الطبیعة من کلّ أحد، فإنّه من العموم الاستغراقیّ المستتبع للوجوب العینیّ.
أقول: هذا ما أفاده سیّدنا الاُستاذ البروجردیّ قدس سره ونظره إلیٰ أنّ متعلّق الوجوب إذا کان نفس الطبیعة، فلا بدّ وأن یسقط التکلیف عن الکلّ؛ لما أنّه فی إتیان واحد بها قد حصل تمام ما هو مورد الأمر، ولا یبقی الموضوع حتّیٰ یبقیٰ سائر الأوامر الانحلالیّة.
ویتوجّه إلیه من الإشکالات؛ ما مرّ حلّها فی إمکان توجیه التکلیف العمومیّ الاستغراقیّ، مع کون المأمور به غیر قابل للتکرار طولاً.
والفرق بینه وبین کون المأمور به صرف الوجود؛ یحصل فی مسألة جواز الإتیان بالأفراد الکثیرة عرضاً، فإنّه علی الأوّل یصحّ، وعلی الثانی لایصحّ؛ لأنّ الصِرْف لا یقبل التکرار مطلقاً.
وربّما یشکل تصویر کون الموضوع صِرْف الوجود؛ لأنّه بحسب التکوین قابل للتکرار، وبحسب الاعتبار یکون عنوان صرف الوجود، من الطبیعة القابلة للتکرار عرضاً، کسائر المفاهیم، فما هو لیس بقابل للتکرار، حقیقة خارجیّة تکون صرف الوجود، وأمّا مفهوم صرف الوجود، فهو یصدق علیٰ کلّ واحد من الأفراد العرضیّة؛ لأنّ الفرد الخارجیّ لا یکون صرفاً واقعاً، والصرفیّة الاعتباریّة تجتمع مع کلّ واحد من الأفراد العرضیّة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ هذا المفهوم اُرید منه إفادة هذا المعنی والمقصود؛ وهو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 44 أن یکون الشیء واجباً علی الکلّ، وساقطاً عنهم بأحد من المصادیق من غیر اصطحابه بغیره عرضاً، مقابل الطبیعیّ، فلیتأمّل جیّداً.
إن قلت: جمیع العمومات الواردة تکون متعلّقة بالطبائع، من غیر دالّ فیها علیٰ تکثیر الطبیعة بحسب صدورها من کلّ واحد، فیلزم کون الأصل عند الإطلاق کفائیّاً، مع أنّ المعروف عنهم أنّ الأصل عند الإطلاق هو العینیّ.
قلت: إنّ الأمر کذلک، إلاّ أنّ توجیه الخطاب إلیٰ المکلّف یقتضی صدوره منه.
وبعبارة اُخریٰ: الفرق بین العینیّ والکفائیّ ـ بحسب الثبوت فی کیفیّة لحاظ المتعلّق، وبحسب الإثبات عند الإطلاق ا ءحدی الکیفیّتین؛ وهو العینیّ، لا الکفائیّ.
فذلکة الکلام
إنّ ما تعارف بین المتأخّرین من الخلاف فی موضوع الوجوب الکفائیّ، غیر موافق للتحصیل؛ لأنّ کثیراً من المتصوّرات یمکن کونها موضوعاً له. کما قد مضیٰ إمکان إنکار الموضوع للکفائیّ.
ولکن لابدّ من مراجعة الأدلّة، وما یساعده ظواهرها، ولعلّ ما نسب إلی المشهور: من إیجابه علی الکلّ استغراقاً، أقرب إلیٰ الظواهر؛ لأنّ بناء الشهرة علیٰ الأخذ بظواهر الأدلّة، من غیر الغور والإمعان فی هذه الدقائق الرائجة بین المتأخّرین، والله ولیّ الحمد والتوفیق.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 45 نعم، إیجابه علیٰ الکلّ استغراقاً مع تعدّد الغرض، وسقوط التکلیف بإتیان البعض تسهیلاً علیٰ العباد، أوضح من سائر المحتملات التی مضت فی الأمر الثانی.
وغیر خفیّ: أنّ ثمرة الاختلاف فی کیفیّة الوجوب الکفائیّ، تظهر فی مسألة دوران الأمر بین العینیّة والکفائیّة؛ حسب جریان الاُصول العملیّة. وممّا ذکرناه فی الواجب التخییریّ یظهر الأمر هنا، ویأتی تفصیله فی مباحث البراءة والاشتغال إن شاء الله تعالیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 46