المقدّمة الخامسة : حول توهّمات فی مبنیٰ مسألة الاجتماع والامتناع
وهی کثیرة :
التوهّم الأوّل :
قد یتوهّم أنّ النزاع موقوف علی القول: بأنّ الأوامر والنواهی تعلّقت بالطبائع، وأمّا إذا کانت متعلّقة بالأفراد، فلابدّ من الالتزام بالامتناع، وحیث إنّ التحقیق تعلّق النهی بالأفراد وإن کان الأمر متعلّقاً بالطبیعة ـ لما تقرّر من أنّ النهی المتعلّق بالطبیعة، ینحلّ إلی النواهی لا یحکم العقلاء بتعدّد الامتثال والعصیان، وهو لا یعقل مع وحدة النهی، ولا یعقل تعدّد النهی مع وحده المتعلّق، فلابدّ وأن تنحلّ الطبیعة إلی الأفراد، وتکون مرآةً لها، فیسقط نزاع الامتناع والاجتماع.
فبالجملة: مع الالتزام بتعلّقهما بالطبائع، یمکن النزاع فی أنّ الطبائع المتّحدة وجوداً المختلفة وجوهاً، هل یعقل أن تکون مورد الأمر والنهی؛ لاختلاف الوجوه والعناوین، أم لا؟.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 158 ومع الالتزام بتعلّقهما بالأفراد، أو تعلّق أحدهما بها کالنهی مثلاً، لا معنیٰ للنزاع؛ ضرورة أنّ معنیٰ تعلّق الأمر بالأفراد، لیس هو أنّ متعلّق الأمر عنوان الفرد؛ لأنّه لأجل ما یری من أنّ الطبیعة لیست قابلة لتعلّق شیء بها؛ لعدم کونها مطلوبةً ولا مبغوضةً توهّم تعلّقهما بالأفراد، فلو کان مرامه تعلّقه بعناوین الأفراد، فیلزم علیه ما کان یفرّ منه بوجه أسوأ، کما هو الظاهر.
ولا أنّ الأوامر والنواهی تتعلّق بالخارج بالحمل الشائع، حتّیٰ یقال: إنّه ظرف السقوط، لا الثبوت والتعلّق.
بل القائل بتلک المقالة، یرید أنّ متعلّقهما الطبائع المقارنة مع المشخّصات وأمارات التشخّص، وما به ظهور آثارها وخواصّها فانیة فی الخارج؛ بمعنیٰ أنّها مرآة لما هو المطلوب بالذات وإن کان مورد الأمر مطلوباً بالعرض، وهکذا مورد النهی مبغوض بالعرض، وما هو مبغوض بالذات هو شرب الخمر خارجاً، فعند ذلک یلزم اتحاد المتعلّق ووحدة مصبّ الأمر والنهی؛ ولو کان من ناحیة واحدة: وهی من جانب النهی لانحلاله، فضلاً عمّا إذا کان من الطرفین، فإنّه عندئذٍ یلزم وحدة المتعلّقین من جانبین.
وهنا تقریب آخر لسقوط النزاع: وهو أنّ قید المندوحة معتبر فی صحّة النزاع، وعلی القول بتعلّقهما بالأفراد لا معنیٰ لاعتبار المندوحة، فیسقط النزاع.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأن قیدیّة المندوحة محلّ المناقشة والمنع، کما سیمرّ علیک تفصیله إن شاء الله تعالیٰ.
أقول: الأصحاب المتأخّرون هنا بین طائفتین، فإنّ السیّد الوالد ـ مدّظلّه أفاد: «أنّه عند ذلک یلزم الخروج عن محلّ النزاع؛ فإنّ ما هو محلّ النزاع هو ما إذا
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 159 کان متعلّق الأمر والنهی کثیراً ومتّحداً مجمعاً» وسائر المشایخ ـ رحمهم الله تعالیٰ أفادوا : أنّ المبنی فاسد؛ ضرورة أنّ الأوامر والنواهی لا تتعلّق إلاّ بالطبائع أو الأفراد الذاتیّة، دون الملازمات واللوازم الخارجیّة.
وأنت خبیر: بأنّ ما أفاده ـ دام ظلّه لیس إشکالاً علیهم، فإنّهم لأجل لزوم توحّد المتعلّق قالوا: بأنّ المسألة مبنیّة علی القول المزبور، فعدم تأتّی النزاع علیٰ مبناهم ـ وهو تعلّقها بالأفراد لا یکون إلاّ لعلّة؛ وهی رجوع الأمر والنهی إلی الواحد فی مرکز الجعل والتقنین. وما أفاده أیضاً لیس إلاّ إنکار الکبری المحرّرة عندهم، فکأنّهم قائلون بصحّة مقالتهم علیٰ مبناهم.
وهنا طائفة اُخریٰ مثل العلاّمة الخراسانیّ وبعض آخر، لم یقفوا علیٰ مبنیٰ تعلّق الأمر والنهی بالأفراد، ولو کانوا واقفین علیٰ مرامهم لما قالوا بکفایة تعدّد الوجه؛ ضرورة أنّ أرباب تلک المقالة اختاروا أنّ جمیع وجوه الشیء تندرج فی مصبّ الأمر والنهی، فلا ینفع تعدّد الوجه شیئاً.
وإن شئت قلت: تعلّق الأمر والنهی بالأفراد ذو وجوه واحتمالات؛ ومنها کون الطبیعة بما لها من الملازمات واللوازم فی وجودها الخارجیّ، مورد الأمر والنهی، فیکون المأمور به والمنهیّ عنه الکلّی المقیّد.
بل لا معنیٰ لتعلّق الأمر والنهی بالأفراد الذاتیّة؛ لأنّ الفرد لا یکون فرداً إلاّ لأجل الضمائم المقولیّة، وجعل إحدی الحیثیّات مورد الأمر أو النهی، معناه کون الطبیعة موردهما.
مثلاً: إذا قال المولیٰ: «أکرم العلماء» فتعلّق الأمر بإکرام زید العالم لا معنیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 160 له؛ لأنّ مع تعلّقه بزید یکون جمیع الضمائم ـ سواء کانت من المشخّصات، أو أمارات التشخصّ موردَ الأمر، ولا یکون العلم حینئذٍ إلاّ حیثیّة تعلیلیّة. وکونها حیثیّة تقیدیّة معناه إنکار کون زید متعلّق الأمر رأساً، ویرجع حینئذٍ إلیٰ أن یکون الموضوع هو العالم مأخوذاً فیه الذات المبهمة؛ بناءً علیٰ أخذ الذات فی المشتقّ، وإلاّ فلا تعلّق له بذات لا مبهمة، ولا مشخّصة.
فعلیٰ هذا، کون الأفراد متعلّقهما لا یرجع إلاّ إلیٰ ما ذکرناه؛ حتّیٰ لا یلزم المفاسد الواضحة علی القول به.
أقول : هنا بحوث :
أوّلها : من الممکن دعویٰ: أنّ قضیّة القول بتعلّقهما بالطبائع، هو الاجتماع من غیر وجه للخلاف؛ ضرورة أنّ کلّ واحد من المأمور به والمنهیّ عنه، غیر معانق فی إحدی المراحل؛ لافی مراحل التصوّر والتصدیق، ولا فی مراحل البعث والزجر والتقنین، ولا فی مراحل الامتثال والخارج.
ولا معنیٰ لترکیبهما الاتحادیّ؛ لأجنبیّة هذه المسألة عن الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ. ولا معنیٰ لسرایة أحدهما إلی الآخر؛ بعد اختلافهما وعدم تعانقهما فی مرحلة من المراحل.
ومقتضی القول بتعلّقهما بالأفراد هو النزاع فی الاجتماع والامتناع؛ فإنّ من الممکن أن یدّعیٰ أنّ معنیٰ تعلّقهما بالأفراد، لیس إلاّ تعلّق الأمر والنهی بحصّة من الکلّی؛ من غیر کون مابه الحصص داخلاً فی المتعلّق، فتکون هذه الحصّة ذات وجوه وعناوین.
ولکنّ الإنصاف: أنّ النزاع باقٍ علیٰ حاله وإن قلنا بتعلّقهما بالطبائع؛ لما عرفت أنّ أساس البحث فی مسألة الاجتماع والامتناع، حول أنّ التحفّظ علی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 161 الإرادتین فی المجمع مع کون المتعلّقین متلازمین فی الخارج من باب الاتفاق، ممکن أم لا، فلاتخلط، ولاتغفل.
ثانیها : أنّ معنیٰ تعلّق الأمر والنهی بالأفراد وإن کان تعلّقهما بالملازمات واللوازم المقارنة مع الکلّی والطبیعة، ولکن لیس یرجع ذلک إلیٰ تعلّقهما بعناوین «الصلاة» و«الغصب» بل یرجع إلیٰ تعلّقهما بمعنونات هذه العناوین التی تنتزع من تلک الطبائع بعد وجودها فی الخارج.
مثلاً: إذا أمر المولیٰ بالصلاة فلا یکون أمر الصلاة مراعی بحال المصلّی؛ فإن صلّیٰ فی الغصب تکون الصلاة الغصبیّة مورد الأمر، وإن صلّیٰ فی المباح تکون الصلاة المباحة مورد الأمر، بل الصلاه مورد الأمر بملازماتها الخارجیّة الاتفاقیّة، ولکن لا بعناوینها الخاصّة، بل بالمعنی الجامع، مثل عنوان الأین، والمتیٰ، والوضع الکلّیات.
مع أنّه یمکن أن یقال: بأنّ الالتزام بتعلّقهما بتلک العناوین الخاصّة فی جانب الأمر، غیر ممکن؛ لأنّه یلزم وجوب استیعاب جمیع الأفراد، وتکون الصلاة الغصبیّة والمباحة واجبة، مع أنّ الواجبة واحدة علی البدل.
نعم، یمکن دعویٰ: أنّ تعلّقهما بالأفراد یلازم العموم البدلیّ فی جانب الأمر، ویکون التخییر شرعیّاً، والعمومَ الاستیعابیّ فی جانب النهی، فلا مانع من تعلّقهما بتلک العناوین بعنوانها، فیلزم وحدة المتعلّق أیضاً، فیسقط النزاع فتأمّل.
ثالثها : أنّ قضیّة تعلّق الأمر والنهی بالأفراد، کون الواجب هی الصلاة المتقیّدة بالعناوین الملازمة، ومنها الغصب، وکون المحرّم هو الغصب الکذائیّ المتقیّد بالعناوین الملازم معها، ومنها عنوان الصلاة، فیکون الواجب الصلاة الغصبیّة، والمحرّم الغصب الصلاتیّ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 162 ولایلازم ذلک وحدة المتعلّق؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المتقیّدة یکون قیدها مورد الأمر الضمنیّ أو الغیریّ، وکلاهما بلا أساس، والنهی المتعلّق بالغصب الصلاتیّ یکون القید مورد النهی الضمنیّ أو الغیریّ، فلا یلزم وحدة المتعلّق، ولا الاندراج فی کبریٰ باب التعارض بالضرورة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: قد فرغنا فیماسلف من أنّ وحدة المتعلّق بما هی وحدة متعلّق الأمر والنهی، لا تکون محالاً، بل بالذات المحالیّة ناشئة من الجهة الاُخریٰ؛ وهی امتناع ترشّح الإرادتین الآمرة والزاجرة مع وحدته، وإذا کانت النسبة بین المتعلّقین التلازم ولو لأجل جزء المتعلّق، فلا یمکن ترشّحها کما هو الواضح.
رابعها : من الممکن أن یدّعی القائل بتعلّقهما بالطبائع؛ أنّ الأوامر والنواهی فی مرحلة الجعل والتقنین متعلّقات بالطبائع، وفی مرحلة الامتثال تسری إلی الملازمات، وتصیر النتیجة سقوط النزاع أیضاً.
ویؤیّد ذلک وجوب إتمام الحجّ بعد الشروع فیه، مع أنّه مستحبّ، وحرمة إبطال الصلاة، فإّنه لولا تعیّن الزمان والمکان بالأمر المتعلّق بالطبیعة، لما کان وجه لحرمة الإبطال ولإیجاب الإتمام علیٰ خلاف التخییر العقلیّ والشرعیّ الثابت بأصل الشرع فی الحجّ، فتأمّل.
فالمحصول ممّا قدّمناه إلیٰ هنا: أنّ فیما فرضناه من تعلّق الأمر والنهی بالأفراد من الأوّل أو فی ظرف الامتثال، لا یلزم وحدة المتعلّق مع لزوم سقوط النزاع.
والذی یسهّل الخطب: أنّ القائل بتعلّقهما بالأفراد لایقول بما سلّمناه؛ للزوم کون التخییر شرعیّاً، مع سائر الدعاوی الباطلة المخالفة للوجدان، ولایلتزم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 163 بالتفکیک بین متعلّق الأمر والنهی فی هذه الجهة؛ وهی سرایة النهی إلی الملازمات دون الأمر، فتدبّر.
التوهّم الثانی :
قد یتوهّم أنّ القول بالاجتماع، منوط بالقول بأنّ الأوامر والنواهی متعلّقة بالطبائع، والقول بالامتناع منوط بتعلّقهما بالأفراد.
وأنت قد أحطت خبراً بخلاف ذلک؛ ضرورة أنّ مع تعلّقهما بالطبائع، وعدم تداخلهما فی جمیع الأوعیة، یمکن القول بالامتناع؛ لما یمکن دعویٰ: أنّ هذه الملازمة الاتفاقیّة، تمنع عن بقاء الإرادتین علیٰ قوّتهما.
نعم، إن کان ملاک النزاع ومناط الخلاف هی السرایة واللاسرایة، أو هو الترکیب الاتحادیّ والانضمامیّ، فلقائل أن یقول: بأنّ القول بتعلّقهما بالطبائع معناه عدم السرایة فی جمیع الأوعیة، ومع السرایة فی وعاء من الأوعیة یکون المتعلّق هو الفرد، ویکون الترکیب اتحادیّاً، ویتعیّن الامتناع، فالاجتماع منوط علی الأوّل، والامتناع علی الثانی، وحیث إنّ المعروف بین أبناء الاُصول ذلک، فلابدّ من تصحیح الدعوی المزبورة، فتأمّل جیّداً.
وبالجملة: لا یذهب إلی الامتناع إلاّ من سلک سبیل الترکیب الاتحادیّ والسرایة، ولا معنیٰ لذلک إلاّ برجوع الأمر بالطبیعة إلی الأفراد فی الخارج الذی هو ظرف السقوط لا الثبوت، فانظر ماذا تریٰ.
ومن العجب ما قیل: «من أنّ التوهّم المزبور بلا وجه رأساً؛ لأنّ الفرق بین کون المتعلّق نفس المقولة أو فرداً منها، لا یورث إشکالاً فی مسألة الاجتماع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 164 والامتناع»!! وأنت قد عرفت: أنّ القائل بالفرد لا یرید الأفراد الذاتیّة والحصص الممتازة، فلاتخلط.
التوهّم الثالث :
ما مرّ فی ذیل البحث الأوّل من توهّم تعیّن القول بالاجتماع، وسقوط النزاع علی القول بتعلّق الأوامر والنواهی بالطبائع، وأمّا النزاع الصحیح فهو مبنیّ علی القول بتعلّقهما بالأفراد.
وقد أحطت خبراً بفساد هذا التوهّم أیضاً؛ لإمکان جریان النزاع علی الأوّل أیضاً، کما أمکن توهّم سقوط النزاع وتعیّن الامتناع وإن قلنا بتعلّقهما بالطبائع؛ لأنّ من الممکن توهّم التفصیل بین مرحلة الجعل والتقنین، ومرحلة الامتثال والخارج من غیر لزوم إشکال عقلیّ: وهو أنّ الخارج ظرف السقوط، فکیف یعقل ذلک؟! وقد مضیٰ کیفیّة تصویره فی المأمور به الذی یکون تدریجیّ الوجود، کالصلاة والحجّ.
التوهّم الرابع :
ربّما یتراءیٰ أنّ قضیّة القول بأصالة الوجود جعلاً صحّة النزاع؛ لإمکان الوجوه المتعدّدة والعناوین الکثیرة مع وحدة المعنون خارجاً المتعدّد حیثیةً، ومقتضی القول بأصالة الماهیّة جعلاً سقوط النزاع، وتعیّن القول بالاجتماع؛ لأجنبیّة الماهیّات بعضها عن بعض وتباینها فیالخارج، فإنّ جامع الماهیّات والمقولات المتعدّدة هو الوجود، وإلاّ فهی بأنفسها متباینات ذهناً وخارجاً، ویتوهّم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 165 اتّحادها عرفاً.
أقول: نعم، إلاّ أنّ ذلک فی مثل ما إذا کان متعلّق الأمر والنهی المقولات الحقیقیّة لا الاعتباریّة المجازیّة، کالصلاة، والتصرّف فی مال الغیر، فإنّ إمکان انتزاع مفهوم «التصرّف فی ملک الغیر» من نفس المقولة المتعلّقة للأمر، یصحّح النزاع، فضلاً عمّا إذا کان منشأ انتزاع مفهوم «التصرّف» ما لا یندرج تحت المقولة، کما نحن فیه، فما یظهر من بعض فی المقام لا یخلو من تأسّف تامّ.
ویؤیّد ذلک: أنّ الجمع بإیجادٍ واحد وجعل فارد یصیر خارجیّاً، ولو کان متعلّق الأمر والنهی من المقولتین، فلابدّ من اختصاص کلٍّ بجعل علیٰ حِدة، وإذن یخرج من محلّ النزاع، کما هو الواضح.
التوهّم الخامس :
لا شبهة فی أنّ من شرائط النزاع فی هذه المسألة، فرض ثبوت الإطلاق لکلّ واحد من الدلیلین، کما یأتی تفصیله فی المقدّمة المتکفّلة لشرائط النزاع.
ومع إنکار الإطلاق لا یبقیٰ محلّ للبحث حول إمکان التحفّظ علی الإرادتین: الآمرة والزاجرة فی المجمع، وعدم إمکانه؛ فإنّ مبنیٰ ذلک هو اقتضاء کلّ من الأمر والنهی مع قطع النظر عن الآخر فی مورد الاجتماع للمأمور به والمنهیّ عنه، وللباعثیّة والزاجریّة بالنسبة إلیٰ متعلّقاتهما. وأمّا إحراز المحبوبیّة والمبغوضیّة بالنسبة إلیٰ خصوص المجمع إحرازاً عامّاً أو خاصّاً، فهو غیر لازم.
نعم، قضیّة الإطلاقین علیٰ تقدیر الاجتماع، إحراز المحبوبیّة والمبغوضیّة فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 166 المجمع إحرازاً ظنّیاً؛ قضاءً لحقّ شمول الدلیل الملازم لوصف المحبوبیّة والمبغوضیّة بناءً علیٰ إمکانه.
فاعتبار إحرازهما مع قطع النظر عن الأمر والنهی وإطلاقهما، غیر صحیح، ولا معنیٰ محصّل له، وهکذا إحراز الملاک والمصلحة والمفسدة، فما نسب إلیٰ ظاهر «الکفایة» وتبعه الآخرون، غیر ملائم لاُفق التحقیق، وغیر مناسب لشأن الباحث الخبیر.
نعم، یترتّب علیٰ ثبوت الإطلاقین علی القول بالاجتماع، إحراز الملاک والمصالح والمفاسد فی المجمع، ولذلک عدّ ذلک من إشکالات القول بالاجتماع؛ وأنّ الشیء الواحد یلزم أن یکون محبوباً ومبغوضاً، وموردَ المصلحة والمفسدة، فجمیع ما أفاده العلاّمة الخراسانیّ رحمه الله فی المقدّمة الثامنة والتاسعة، خالٍ من التحصیل، ولا ینبغی الغور فیه.
وإن شئت قلت: إن کان النزاع حسب المعروف صغرویّاً، فهذه المسألة متکفّلة لإحراز صغریٰ باب التعارض والتزاحم، فإنّه علیٰ الامتناع یلزم العلم بکذب أحدهما، ویقع التعارض بالعرض بین الإطلاقین.
وعلی الاجتماع، فمع إمکان الجمع فلا یکون من باب التزاحم حسب المعروف، خلافاً للتحقیق الذی مضیٰ منّا: وهو أنّ التزاحم لا یتوقّف علیٰ عدم إمکان الجمع فی مقام الامتثال.
ومع عدم إمکان الجمع فهو من التزاحم، ولیس من هذه المسألة إلاّ علی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 167 القول بعدم اعتبار المندوحة فی مسألة الاجتماع والامتناع، وستأتی زیادة توضیح حول هذه الجهة فی بعض البحوث الآتیة إن شاء الله تعالیٰ.
فبالجملة: بناءً علیٰ صغرویّة النزاع، لا معنیٰ لاعتبار إحراز المصالح والمفاسد فی الجانبین؛ ضرورة أنّ النزاع متکفّل لتعیین الصغریٰ من البابین، علیٰ إشکال اُشیر إلیه.
وأمّا إذا کان النزاع کبرویّاً فالأمر أیضاً کذلک، ولعلّ العلاّمة الخراسانیّ رحمه الله أراد هنا ما أسمعناک، والأمر سهل.
وغیر خفیّ: أنّ النزاع لا یلزم أن یکون صحیحاً علیٰ جمیع المذاهب، فإنّ الأشعری ـ بناءً علیٰ قوله بصحّة الجزاف فی الأمر والنهی الإلهیّین لا یفرّ من القول بالامتناع مطلقاً، کمامرّ تفصیله فیما سبق، فلا تکن من الجاهلین.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 168