التنبیه الأوّل محذور اجتماع الأوصاف المتقابلة فی المجمع
لو صحّ اجتماع الأمر والنهی الفعلیّین فی المجمع، للزم کون الشیء الواحد موصوفاً بالأوصاف المتقابلة؛ وهی المحبوبیّة والمبغوضیّة، والمقرّبیة والمبعّدیة، وذات المصلحة والمفسدة، ولاشبهة فی تقابل تلک النعوت، کما لاشبهة فی لزوم ذلک، ولاسیّما علیٰ مذهب العدلیّة.
أقول أوّلاً : ینقض بأنّ من المتقابلات هی العلیّة والمعلولیّة، والمحبّیة والمحبوبیّة، والفوقیّة والتحتّیة، مع أنّ الشیء الواحد یوصف بها قطعاً وبلاشبهة، فلو صحّ الأمر هنا یصحّ فیما ذکر.
وثانیاً : إنّ الأوصاف والنعوت مختلفة؛ فبعض منها ما هی الواقعیّة، ولامدخلیّة للاعتبار والإضافة فیها، کالأبیضیّة والأسودیّة، فإنّها لایمکن اجتماعها، ولایختلف الحکم باختلاف اللحاظ والجهة فیها؛ لأنّها من الصفات غیر ذات الإضافة، ومن المقولات الحقیقیّة.
وبعض منها من الاُمور الواقعیّة التی تکون ذات إضافة، وتکون ذات منشأ مقولیّ حسب المشهور، کالفوقیّة والتحتیّة، فإنّهما من المنتزعات عن المقولة الخارجیّة؛ وهی مقولة الإضافة، وبکونها ذات إضافة یختلف الحکم والتوصیف باختلاف الجهات والإضافات، فیصیر الشیء الواحد فوقاً بالإضافة إلیٰ ما تحته،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 216 وتحتاً بالإضافة إلیٰ ما فوقه، مع أنّ منشأ ذلک فرد من مقولة الإضافة، وهی من الواقعیّات، إلاّ أنّ الواقعیّات ذات الإضافة تکون بهذه المثابة بالطبع.
والقسم الثالث من الأوصاف ما لاخارجیّة لها، ولامنشأ مخصوص بها، ولایحاذیها الحیثیّة الزائدة علیٰ ذات الموضوع، کالعلیّة والمعلولیّة، والعاقلیّة والمعقولیّة، وقد فرغنا من توضیح هذه الاُمور فی «قواعدنا الحکمیّة» وتلک النعوت لیست مندرجة تحت المقولات، وتعدّ من الأوصاف المتضایفة مفهوماً الساریة فی جمیع أنحاء العالم؛ حتّیٰ البسیط الحقیقیّ، ویکون من خارج المحمول لها.
والقسم الرابع من الأوصاف ما هی الاُمور الاعتباریّة التی لاخارجیّة لها إلاّ فی الاعتبار، کالملکیّة والحرّیة والعبدیّة وأمثالها، فیکون الشیء الواحد مملوکاً ومالکاً.
إذا تبیّن ذلک بتفصیل مع إجمال فیه أیضاً فلیعلم: أنّ المحبوبیّة والمبغوضیّة لیستا ممّا لاتجتمعان بحسب اختلاف الإضافة والجهة بالضرورة، بل هما من قبیل وصف المعلومیّة والمجهولیّة، فکما أنّ الشیء الواحد یمکن أن یکون معلوماً بحسب وجوده فی النجف، ویکون مجهولاً بحسب وجوده فی دار فلان، کذلک یکون محبوباً بحسب ما فیه جهة الحسن، ومبغوضاً بحسب ما فیه جهة البغض.
وأیضاً : کما أنّ المعلومیّة والمجهولیّة من الأوصاف العرضیّة للخارج، کذلک المحبوبیّة والمبغوضیّة، فإنّ ما یتعلّق الحبّ به بالنسبة إلینا هی الصورة الذهنیّة أوّلاً وبالذات، ثمّ لمکان انطباق تلک الصورة علیٰ ما فی الخارج یکون الخارج محبوباً بالعرض والمجاز.
وبالجملة: وصف المحبوبیّة والمبغوضیّة أسوأ حالاً من سائر الأوصاف المزبورة؛ لأنّها کلّها توصف بها الأشیاء علی الحقیقة، ویکون من التوصیف بحال
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 217 أنفسها، بخلافهما.
نعم، بالنسبة إلی الحقّ الأوّل ـ عزّوجلّ ـ لیس الأمر کما ذکر.
وأیضاً یعلم: أنّ المقرّبیة والمبعّدیة ممّا لابأس باجتماعهما؛ لإمکان کون الشیء الواحد مقرّباً من جهة، ومبعّداً من اُخریٰ؛ لأنّهما من المفاهیم الإضافیّة الحاصلة من اختلاف الأشیاء فی جهة الحسن والقبح، أفلا تریٰ أنّ من حرّک یده لضرب عبد المولیٰ یستحقّ العقوبة علیٰ أمرین؛ الأوّل: ضربه، الثانی: التصرّف فی ملک الغیر، ومن حرّکها علیٰ وجه التلطیف لیس مثله، وهکذا سائر الأمثلة المذکورة الواضح سبیلها.
ومن هنا ینقدح: أنّ اجتماع المصالح والمفاسد واضح الإمکان وواقع، فإنّ الشیء الواحد یکون بالنسبة إلیٰ شخص ذا مصلحة، وبالنسبة إلی الآخر ذا مفسدة، ولیس ذلک إلاّ لأنّ المصالح والمفاسد، لیست من قبیل القسم الأوّل من الأوصاف المقولیّة، ولامن الثانی، بل هی من الوجوه والاعتبارات العقلائیّة أحیاناً، ولو کانت ترجع إلی الخواصّ والآثار الطبیعیّة فی مورد، فلا مانع من کون الواحد الشخصیّ جامعاً لهما بالضرورة.
فبالجملة: لاوجه لتوهّم الشبهة فی إمکان الاجتماع فی النزاعین: الصغرویّ، والکبرویّ، والمسألة بعد ذلک تکون من الواضحات الغنیّة عن البیان، ودعویٰ بداهة صحّة الاجتماع قریبة جدّاً، وانتساب المخالف إلیٰ عدم تصوّر أطراف المسألة جائز قطعاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 218