الأمر الخامس : الأصل فی النهی عن العبادة والمعاملة هو الإرشاد
بعدما عرفت : أنّ النزاع حول استتباع النهی لحکم وضعیّ وعدمه، وبعدما علمت : أنّه لا معنیٰ لکون النهی الإرشادیّ ـ الذی فرض أنّه إرشاد إلیٰ جهة وضعیّة مصبَّ التشاحّ والنفی والإثبات، یظهر لزوم البحث هنا حول أنّ الأصل فی النواهی المتعلّقة بالعبادات والمعاملات، هل هو الإرشادیّة، أو التحریمیّة؟ بعد الفراغ عن الأصل المحرّر فی بدو بحوث صیغة النهی؛ وأنّ الأصل هناک هو التحریم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 299 التکلیفیّ وتمامیّة الحجّة الشرعیّة والعرفیّة، وهذا ممّا لابدّ منه حتّیٰ لایکون البحث فرضیّاً. ولایجوز إدخاله فی جوهر البحث فی هذا النزاع، خلافاً لما صنعه الوالد ـ مدّظلّه .
ومن الغریب ما أفاده الاُستاذ العلاّمة البروجردیّ قدس سره من : «أنّ محطّ النزاع فی البحث اللفظیّ هی النواهی الإرشادیّة؛ لاستدلال القوم لإثبات الفساد : بأنّها تدلّ علیه إذا تعلّق بالعبادات والمعاملات، وأمّا فی النواهی التحریمیّة فیکون البحث عقلیّاً؛ لرجوع المسألة إلی الاستدلال بالفساد لأجل توسّط الحرمة الشرعیّة»!!
وقد بالغ فی ذلک حسبما یظهر من التقریرات، وکرّر الأمر حولها، وکأنّه أمر جدیر بالتدبّر.
وأنت خبیر بما فیه أوّلاً : من أنّ النزاع الصحیح هو النزاع فی النواهی التحریمیّة؛ لإمکان کونها مورد الخلاف، بخلاف الإرشادیّة التیهی مورد الاتفاق، ویکون الغرض إرشادها إلی الجهة الوضعیّة. والشاهد علیه: أنّ القوم استدلّوا ـ حسبما أفاده ـ بتلک النواهی الإرشادیّة علیٰ دلالة النهی علی الفساد، وأنّ «الکفایة» قال: «الثالث: ظاهر لفظ «النهی» وإن کان هو النهی التحریمیّ» انتهیٰ.
وثانیاً : قد مضیٰ أنّ مناط لفظیّة البحث والمسألة، کون عنوان المسألة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 300 موضوعاً لفظیّاً، وراجعاً إلیٰ حدود الأوضاع والدلالات، ولو کان من الوضع التعیینیّ الحاصل من کثرة الاستعمالات، أو من الوضع الثانویّ الحاصل للمرکّبات والجمل؛ لکثرة اشتهار إطلاقها وإرادة المعنی الوضعیّ وراء المعنی التکلیفیّ مثلاً، فکن علیٰ بصیرة.
وإن شئت قلت : توسّط الحرمة لایضرّ بلفظیّة البحث؛ لأنّه یرجع إلی الدلالة الالتزامیّة. ولو استشکل فیها: بأنّها لیست لفظیّة، یلزم عدم کون المفروض فی کلامه لفظیّاً من المسألة اللفظیّة أیضاً؛ ضرورة أنّ النهی لو کان یدلّ علی الفساد، فهو بالالتزام لا المطابقة، فتدبّر.
إذا تبیّن ذلک فاعلم : أنّ مقتضی الأصل کما هو التحریم فی صیغة النهی، ومقتضی الأمر کما هو الوجوب فی صیغته، کذلک قضیّة النهی والأمر المتعلّقین بالمرکّبات العرفیّة والشرعیّة، والمخترعات الإسلامیّة وغیر الإسلامیّة ـ من غیر فرق بین تعلّق النهی بالمرکّبات، وتعلّقه بالأجزاء والخصوصیّات بخلاف الأمر ـ هو التحریم والوجوب الوضعیّین؛ والإرشاد إلی الجهة الوضعیّة من الجزئیّة ، أو الشرطیّة، أو المانعیّة والقاطعیّة. وهذا هو الأصل المفروغ عنه فی العبادات، ولاسیّما فی المعاملات.
وإنّما الکلام فی منشأ هذا الأصل الثانویّ، فقد یقال: إنّ وجه الأصل المزبور ـ البالغ إلیٰ حدّ یمکن دعوی الظهور الوضعیّ لتلک الهیئات من الجمل المستعملة فی العبادات والمعاملات وما شابهها ـ هو أنّ العناوین المتعلّقة للنهی مختلفة:
فمنها : ما هو من العناوین الواضحة لغة وعرفاً، کـ «الأکل والشرب».
ومنها : ما یکون غیر واضح، ومحتاجاً إلی التوضیح من قبل الأشخاص
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 301 المعیّنین لما یترتّب علیها من الآثار المقصودة بالذات؛ والمطلوبة حقیقة وغرضاً وغایةً، ومن ذلک عنوان المعاجین الطبّیة، فإنّها ممّا لایطلع علیٰ خصوصیّاتها إلاّ أهلها، فإذا تصدّیٰ أرباب الطبّ وأصحاب الدساتیر للأمر بشیء حول ذلک، والنهی عنه فی زمان خاصّ، وعن شیء خاصّ، وعن کیفیّة خاصّة، فلاتکون تلک الأوامر والنواهی نفسیّة؛ لما لا معنیٰ لها، بل المعنیّ بها والمقصود منها ـ حسب القرائن الکلّیة والجزئیّة ـ إفادة ماهو الموضوع للأثر المرغوب، وإذا کان الآمر والناهی فی هذا الموقف، فلا معنیٰ لحمل أمره ونهیه علی النفسیّة، بل کلّ ذلک أوامر ونواهٍ جزئیّة مترشّحة من المأمور به النفسیّ فی باب الواجبات ومن عدم صلاحیة المنهیّ عنه للتوسّل به إلی السبب المقصود فی باب المعاملات، أو أنّ المنهیّ عنه فاقد للشرط أو الجزء اللاّزم فی ترتّب الأثر المترقّب منه.
وبالجملة : إذا قال: «لاتصلّ فی وبر ما لایؤکل لحمه» أو قال: «صلّ مع الطهور» فلیس ذلک إلاّ من قبیل الأوامر والنواهی المزبورة.
والسرّ کلّ السرّ : أنّ صدور الأوامر والنواهی حول المرکّبات یکون قرینة علیٰ هذا المعنیٰ، وصار ذلک إلی حدّ یمکن دعوی الوضع التعیّنی للجمل المرکّبة کما لایخفیٰ، والأمر ـ بعد معلومیّة الأصل المفروغ عنه ـ واضح.
ومن هنا یظهر : أنّ النهی إذا تعلّق بذات معاملة عرفیّة ـ کالقمار الذی یترتّب علیه الأثر العرفیّ ـ یکون أیضاً إرشاداً، بخلاف الأمر المتعلّق بذات الصلاة والحجّ، فإنّه محمول علی الإیجاب النفسیّ؛ لأنّ الأثر المرغوب فیه والمترقّب منه لیس مورد نظر الآمر حتّیٰ یکون إرشاداً إلی السبب المحصّل وإن کان ذلک الأثر وهو «معراج المؤمن» و «قربان کلّ تقیّ» مقصوداً أعلیٰ وغرضاً أصلیّاً، ولکن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 302 لاینبغی الخلط بین الأسباب والمسبّبات، وبین الموضوعات والآثار الحاصلة منها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 303