التنبیه الثانی : حول بطلان العبادة المنهیة لأجل التشریع
فی موارد التشریع والنهی عن العبادة التشریعیّة هل تکون العبادة باطلة أم لا؟ والکلام هنا یقع فی صورتین :
الصورة الاُولیٰ : فیما إذا کانت العبادة بحسب الواقع مورد الأمر، ولکنّه لایعلم به، فإنّه إن قلنا: بأنّ عبادیّة کلّ عبادة عبارة عن الامتثال والانبعاث المستند إلیٰ أمرها فهی باطلة؛ ضرورة أنّه لیس منبعثاً عنه، وإن قلنا بکفایة اقترانها بالقربة المطلقة فهی صحیحة؛ لأجل اشتمالها علی الشرائط.
اللهمّ إلاّ أن یقال : بأنّ النهی عن العبادة التشریعیّة، یفید اشتراط العبادة بأن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 352 لاتکون مقرونة بالتشریع، کما یفید أن لاتکون حال الحیض وفی وبر ما لا یؤکل.
نعم، إذا کان النهی متعلّقاً بعنوان التشریع من غیر اختصاصها بالعبادة أو المعاملة، فلایلزم منه الفساد؛ لأنّه من قبیل النهی عن الأمر الخارج والعنوان المباین ویندرج فی مسألة الاجتماع والامتناع علیٰ إشکال فیه یأتی فی الآتی إن شاء الله تعالیٰ.
وقال العلاّمة النائینیّ قدس سره : وأمّا فی العبادة فالحرمة التشریعیّة کالحرمة الذاتیّة تقتضی الفساد، کقبح التشریع عقلاً المستتبع بقاعدة الملازمة للحرمة الشرعیّة، انتهیٰ ما هو جوهر مقصوده. وقد أفاد ما لا یخلو من تأسّفات.
والذی هو الحقّ : أنّ القاعدة المزبورة لا أساس لها، وأنّ العقل لایتمکّن من استکشاف الحرمة، ولایعقل کشف الحرمة القائمة بالإرادة التشریعیّة الزاجرة.
نعم، للعقل درک مبغوضیّة شیء عند المولیٰ، وهو أعمّ من الحرمة؛ ضرورة إمکان کون شیء مبغوضاً للمولیٰ، ولکنّه لاینهیٰ عنه؛ لمصالح اُخر مغفولة عنّا راجعة إلیٰ سیاسة المدن، وإدارة النفوس ومصالحها.
ولو کانت القاعدة المزبورة صحیحة، لکان یستکشف حرمة الظلم؛ لقبحه العقلیّ الراجع إلیه قبح کلّ شیء، مع أنّ حرمة الظلم غیر معقولة؛ للزوم کون کلّ محرّم شرعیّ محرّمین: حرمة خاصّة، وحرمة استکشافیّة.
مثلاً : یلزم أن یکون الغصب محرّماً لأجل الغصب مرّة، ولأجل الظلم اُخریٰ، ویؤاخذ المکلّفین عند ذلک مرّتین: مرّة للحرمة الخاصّة، والثانیـة للحرمـة الانکشافّیة الثابتة للموضوع الأعمّ المنطبق علیه، وهذا ممّا یکذبه وجدان جمیع العقلاء والعقول.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 353 هذا مع أنّ قبح التشریع المطلق، لایکفی لفساد العبادة کما لایخفیٰ.
ثمّ إنّک قد عرفت : أنّ الحرمة الذاتیّة قاصرة عن استتباع الفساد والحکم الوضعیّ تکویناً، فلیغتنم.
هذا مع أنّه فی مورد الحرمة الذاتیّة یکون العمل الخارجیّ محرّماً، وأمّا فی مورد الحرمة التشریعیّة، فکون العمل الخارجی ذا نهی حتّیٰ لایجتمع مع الأمر، أو یکون مبغوضاً، أو ذا مفسدة حتّیٰ لایصلح لأن یکون مقرّباً وعبادة، محلّ المناقشة، بل محلّ منع.
قال العلاّمة المحشّی رحمه الله: «قد ذکرنا فی بحث التجرّی أنّ عنوان «التجرّی وهتک الحرمة» من وجوه الفعل وعناوینه، وأنّ العبد بفعل ما أحرز أنّه مبغوض المولیٰ یکون هاتکاً لحرمته، وإلاّ فمجرّد العزم علیه عزم علیٰ هتک حرمته، کذلک البناء علیٰ فعل مالم یعلم أنّه من الدین بعنوان أنّه منه وإن کان فعلاً نفسیّاً وإثماً قلبیّاً، إلاّ أنّه بناءً علی التصرّف فی سلطان المولیٰ، حیث إنّ تشریع الأحکام من شؤون سلطانه، فبفعل مالم یعلم أنّه من الدین بعنوان أنّه منه یکون هاتکاً لحرمة مولاه، ومتصرّفاً فی سلطانه» انتهیٰ.
وهذا وجه آخر لتحریم الفعل التشریعیّ بتطبیق کبریٰ اُخریٰ محرّمة علیه.
وفیه أوّلاً : أنّ هتک الحرمة لیس من المحرّمات الشرعیّة، بل هو من المقبّحات العقلائیّة أو العقلیّة فی محیط خاصّ حسب العادات، ولو کان حراماً شرعاً وقبیحاً عقلاً، لما کان قابلاً للاستثناء والتخصیص.
مثلاً : هتک حرمة المسجد لو کان محرّماً شرعاً ومقبَّحاً عقلاً، لما کان یرخّص الشرع فی موجباته التی لاشبهة فی جوازها، کالنوم، والنخامة، والبصاق فیها، وغیر ذلک من المکروهات.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 354 ومن تدبّر فی هذه المسائل، یجد أنّ هذه التخیّلات نشأت عن النخوة الخاصّة والشؤون التی هتکها الإسلام، ومنع عن نشرها، ولولا مخافة بعض المخالفات، لکشفت النقاب عن بعض البحوث الدخیلة فی الفقه الإسلامیّ الموجبة لانحراف أذهان الفقهاء ـ رضوان الله علیهم فی آرائهم، والمستلزمة لسوء النظر إلیٰ حقیقة الإسلام.
وثانیاً : لو کان محرّماً یلزم تسلسل المحرّمات؛ لأنّ الدخول فی المعصیة من هتک الحرمة، فیکون حراماً، ویلزم منه موضوع محرّم آخر وهتک حرمة اُخریٰ وهکذا، کما لایخفیٰ فتدبّر.
وثالثاً : فی الفعل المتجرّیٰ به والعمل التشریعیّ لایلزم قبح العمل بذاته وبعنوانه الذاتیّ، بل القبیح هو السبب المتسبّب به إلیٰ ذلک القبیح الذی لایتحقّق إلاّـ بذلک الفعل والعمل، وعنوان السبب موجب لانتزاع القبیح، ویکون من الواسطة فی العروض، دون الثبوت، وقد تقرّر أنّ الحیثیّات التعلیلیّة فی الأحکام العقلیّة ترجع إلی الحیثیّات التقییدیّة، وتکون عناوین لموضوعات الإدراکات العقلیّة حقیقة.
فبالجملة تحصّل : أنّ حرمة الفعل التشریعیّ ممنوعة، وماهو المحرّم هو عنوان «الإتیان بالصلاة تشریعاً» لا نفس الطبیعة.
مع أنّه یلزم أن یکون کلّ محرّم تشریعیّ محرّماً ذاتاً؛ لأنّ حقیقة الحرمة التشریعیّة هی حرمة الإسناد قولاً أو فعلاً، وحقیقة الحرمة الذاتیّة هی حرمة الفعل والمسند، ولو کانت حرمة إسناد المشروعیّة مستلزمةً لحرمة المشروع، یلزم کون الإسناد والمسند محرّماً.
نعم، إن قلنا : بأنّه فی مورد الحرمة الذاتیّة، لایمکن إتیان الفعل بداعی القربة والرجاء، بخلاف الحرمة التشریعیّة ، یحصل الفرق بینهما من هذه الناحیة، فتأمّل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 355 ثمّ إنّه یلزم أن یکون الفعل فی هذه الصورة مجمع الأمر والنهی، وهذه معضلة ستمرّ علیک مع حلّها فی التنبیه الثالث إن شاء الله تعالیٰ .
الصورة الثانیة : ما إذا کان الفعل المأتیّ به تشریعاً غیر مأمور به واقعاً، فوجه الصحّة هنا ما اُشیر إلیه فی الصورة الاُولیٰ: وهو أنّ الفعل المأتیّ به تشریعاً مشتمل علیٰ قصد القربة، وإلاّ فلا یکون تشریعاً؛ ضرورة أنّ حقیقة التشریع هی الإسناد مع عدم العلم، الأعمّ من العلم بالعدم، أو الشکّ، أو الظنّ، وعلیٰ هذا وإن لم یعقل الجزم بأنّه من الشرع، إلاّ أنّه یمکن التجزّم بذلک فی مقابل الإتیان به استهزاءً وجزافاً، وهذا المعنیٰ لایحصل إلاّ مقترناً بالقربة، کما فی فعل المرائی، فإنّه یأتی بالعبادة للإرائة، ویعبد الله تعالیٰ ریاءً، فالمشرّع بالعبادة یعبد الله تعالیٰ بما لیس من الدین ناسباً إیّاه إلیه. فعلیٰ هذا تصحّ عبادته؛ لاقترانها بما هو شرطها من غیر لزوم کونها مورد الأمر حسب التحقیق.
وأمّا وجه البطلان ، فالوجوه السابقة الثلاثة غیر ناهضة ، کما عرفت مناشئ ضعفها.
نعم، الوجه الرابع الذی أبدعناه؛ من أنّ النهی عن العبادة تشریعاً یرجع إلیٰ مثل النهی عن العبادة فی الغصب، لا بمعنیٰ أن یکون النهی إرشاداً محضاً، بل کما أنّ النهی عن الصلاة فی الغصب یفید الحرمة التکلیفیّة بالنظر إلیٰ ذات المنهیّ، ویفید اشتراط المأمور به بالأمر بالصلاتیّ؛ بأن لایکون فی الغصب بالنظر إلیٰ وقوعه فی محیط المرکّبات، کذلک النهی عن العبادة تشریعاً یفید الحرمة الذاتیّة المتعلّقة بالتشریع، ویفید اشتراط المأمور به بأن لایکون مقترناً بالتشریع، وأمّا نفس الاقتران به فهو لایفید الفساد، کما لایلزم من اقتران الصلاة بالنظر إلی الأجنبیّة فسادها.
إن قلت : بناءً علیٰ هذا لایبقیٰ للحرمة التشریعیّة معنیً وراء الحرمة الذاتیّة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 356 قلت : نعم، إنّ التشریع من المحرّمات الذاتیّة بلا کلام، وعلیه النصّ والفتویٰ، ویکون مثل شرب الخمر، وأمّا الفعل المأتیّ به تشریعاً فهو مورد الخلاف، وقد أنکرنا حرمته وقبحه الموجب لحرمته.
بل لنا أن نقول : لو کان فی مورد الإتیان بالتشریع الذی هو الأمر الخارجیّ المشتمل علی النسبة إلی الشرع العمل محرّماً، یلزم تعدّد العقاب: عقاب علی العمل المأتیّ به القبیح لأجل التشریع، وعقاب علیٰ نفس التشریع الذی هو المحرّم ذاتاً، وهذا ممّا لایمکن المساعدة علیه بالضرورة.
فبالجملة تحصّل : أنّ فی موارد الحرمة التشریعیّة یکون المحرّم هو إسناد وجوب الصلاة، أو إسناد مندوبیّتها إلیه تعالیٰ، مع عدم العلم بذلک، أو الإتیان بالفعل بعنوان أنّه مشروع فی الشریعة الإسلامیّة متجزّماً به، وأمّا الجزم فهو مع عدم العلم غیرمعقول بالضرورة، وأمّانفس الصلاة فهیخارجة عن مصبّ التحریم بعنوانها الذاتیّ.
وإن شئت قلت : معروض الحرمة التشریعیّة عنوان «الإتیان» دون ذات الصلاة والطبیعة، فلا وجه لبطلانها من حیث هی هی؛ لعدم المفسدة فیها.
بل فی الصورة الاُولیٰ تکون هی المأمور بها، مع أنّه لایعقل اجتماع الأمر والنهی، مثلاً إذا اعتقد المشرّع أنّ صلاة الأعرابیّ لیست من الشرع، فأتیٰ بها تشریعاً، وکانت مورد الأمر مثلاً فی یوم الغدیر، فإنّه تصحّ صلاته وإن کان فی الإتیان بها بالعنوان المزبور آثماً وعاصیاً.
وهکذا فی صورة عدم کونها مورد الأمر، وکانت ذات مصلحة واقعیّة وملاک حسن، فإنّه إذا تبیّن له ذلک صحّت صلاته أیضاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 357 نعم، بناءً علیٰ ما عرفت من أنّ النهی المتعلّق بإتیان الصلاة تشریعاً، یفید التخصیص والتقیید زائداً علیٰ إفادته الحرمة التکلیفیّة ـ کما یکون کذلک فیما إذا تعلّق بالصلاة فی الغصب والنجس ـ تصبح باطلة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ النسبة بین استحباب صلاة الأعرابی وبین حرمة الإتیان بها تشریعاً، عموم من وجه؛ فإنّ الصلاة مستحبّة سواء اُتی بها تشریعاً، أم لا، والتشریعَ فی العبادة محرّم سواء کانت مورد الأمر واقعاً، أم لم تکن، وعند ذلک لا معنیٰ لکونها مخصّصة لإطلاق دلیل الاستحباب، کما فی موارد الغصب.
نعم، بناءً علیٰ ما تحرّر منّا فی التعبّدی والتوصّلی؛ من عدم صحّة الاجتزاء بالمصداق المحرّم أو الملازم له عن المأمور به حسب الفهم العرفیّ، یشکل الصحّة کما فی المجمع، أو یقال بإفادته الشرطیّة ولو کانت النسبة عموماً من وجه فی المقام، فتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 4)صفحه 358