الأمر الحادی عشر : فی أنّ الوجوب الغیریّ أصلی وتبعی
لو سلّمنا الملازمة والوجوب الغیریّ، ففیما إذا أظهر المولیٰ إرادته الغیریّة، فهو من الواجب الغیریّ الواضح سبیله، وهکذا إذا ثبت من طریق آخر تلک الإرادة فی نفسه.
وأمّا فیما لو کان غافلاً عن تلک الإرادة، وکان یرید الإرادة الغیریّة إذا توجّه والتفت إلی التوقّف، فهل تکون المقدّمة أیضاً واجبة بالفعل، مع أنّ الوجوب اعتبار متقوّم بالإبراز والإظهار، أو بوجود الإرادة فی النفس، ولایکفی الارتکاز؟
أم لاتکون إلاّ واجبة بالقوّة، وواجبة تقدیریّة ومجازیّة؟
وغیر خفیّ : أنّ الواجب التقدیریّ یجتمع مع الحرمة الفعلیّة؛ لعدم التنافی بعد إمکان غفلة المولیٰ.
ولعمری ، إنّ هذه المسألة أوقعت الباحثین فی اعتبار التقسیم الآخر للواجب: وهو انقسامه إلی الأصلیّ والتبعیّ، وبنوا علیٰ أنّ الواجب الغیریّ قد یکون أصلیّاً، وقد یکون تبعیّاً، بخلاف النفسیّ، فإنّه ـ مطلقاً ـ یکون أصلیّاً. نعم إذا فسّر التبعیّ بوجه آخر، یوصف النفسیّ به أیضاً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 247 فبالجملة : قضیّة التحقیق أنّ الوجوب بمعنی اللزوم، لایتقوّم بالإنشاء والإظهار، وکذا بمعنی الثبوت، فلو کان المولیٰ مریداً للإکرام، واطلع العبد علیه، فیجب علیه تبعیّة إرادته بالضرورة، ویکون الإکرام واجباً وثابتاً علیه.
ولو کان الوجوب معنی اعتباریّاً منتزعاً من الإنشاء وإبراز الإرادة، فلایوصف فی الفرض السابق الإکرام بـ «الوجوب» کما أنّ الحکم کذلک عند المتبادر والمتفاهم البدویّ.
وهنا شقّ ثالث : وهو ما لو اطلع المولیٰ علیه لأراده، سواء کان ذلک فی المطلوب النفسیّ، أو الغیریّ، ففیما إذا أظهر إرادته فی القالب اللفظیّ أو الإشارة، فهو من الواجب الأصلیّ، ومقابله التبعیّ.
وهذا تفسیر غیر صحیح؛ لأنّ معنی «التبعیّة» هو کون الوجوب تبعاً للوجوب الآخر، أو إذا کانت الإرادة فی نفسه موجودة بالفعل، ولکنّها غیر مظهرة بعدُ، فیکون هذا مع سابقه أصلیّاً، والآخر تبعیّاً؛ أی مقابله وهو ما لا تکون الإرادة فی نفسه موجودة، کما فی حال النوم، ولکنّه لو توجّه لأراد، فیکون هذا تبعیّاً، وهذا أیضاً خلاف الظاهر من «التبعیّة».
فجمیع هذه الأنحاء من الواجبات الأصلیّة.
فیبقی التبعیّة : وهو ما کان بحسب الثبوت والإثبات تبعاً، وهو ینحصر فی الوجوب الغیریّ، فإنّ الإرادة فیه تابعة للإرادة الاُخریٰ، لا بمعنی الترشّح، بل بمعنیٰ أنّ من مبادئ وجود الإرادة التبعیّة، وجود الإرادة الأصلیّة بحسب مقام الثبوت، ویستظهر ذلک بعد ظهور الإرادة الأصلیّة من المولیٰ.
فعلیٰ هذا، لایتوجّه الإشکال : بأنّ الوجوب الغیریّ غیرصحیح؛ لأنّ الوجوب معنیٰ متقوّم بالبروز والظهور، والإرادة الغیریّة مخفیّة، ولها شأنیّة الوجود أحیاناً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 248 وممّا ذکرناه یظهر ما فی کلمات القوم فی هذا المقام. مع أنّ المسألة قلیلة الجدویٰ، وکأنّهم لذهولهم عمّا هو مقصود الباحثین من هذا التقسیم، وقعوا فی معرکة تفسیر الأصلیّ والتبعیّ بما هو خارج عن التحقیق.
وبالجملة : لست أقول: إنّ الوجوب التبعیّ هو الوجوب المجازیّ، کالوجود التبعیّ، بل الوجوب التبعیّ هو الوجوب واقعاً؛ وفی مرتکز النفس، ولکنّه تابع لأمر آخر. والدلیل علیٰ وجود هذا المعنی الارتکازیّ : هو الوجوب البارز الظاهر بالفعل.
وإن شئت قلت : الواجب بالوجوب التبعیّ موصوف بـ «الوجوب» مجازاً وتقدیراً بعلاقة الأوْل. هذا بحسب الثبوت. والدلیل علیٰ هذا المجاز: هو الوجوب المستدعی لذلک البارز الظاهر بقالب لفظیّ مثلاً.
والذی یسهّل الخطب : أنّ الغفلة والذهول واللاالتفات، لاتتصوّر فی مقنّن الإسلام ومشرّع هذه الشریعة، فجمیع الواجبات الإسلامیّة ـ نفسیّة کانت، أو غیریّة مورد الالتفات الفعلیّ، فیکون کلّها من الواجبات الأصلیّة؛ لعدم التقدیر فیها.
وممّا ذکرنا یظهر : أنّ تقسیم الواجب إلی الأصلیّ والتبعیّ، لایصحّ بالنسبة إلیٰ حال المقنّن فی الإسلام، ولایحتاج إلیه.
ویظهر : أنّ «الکفایة» ذکر هذه المسألة مستقلّة، ولعلّه کان علیه أن یذکره تحت عنوان «الأمر الخامس» لابتناء دفع الشبهة عن الواجب الغیریّ علیٰ ذلک، ولم یکن ینبغی أن یذکره فی ذیل «الأمر الثالث» لأنّ «الأمر الثالث» انعقد لذکر الواجبات التی تکون مقدّماتها داخلة فی محطّ النزاع، لا مطلق الواجبات. والأمر ـ بعد ذلک کلّه ـ سهل، فافهم واغتنم، وتأمّل جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 249