المسلک السادس : ما اختاره العلاّمة النائینی رحمه الله
وانتهیٰ به إلی التفصیل بین تحصیل المقدّمات المفوّتة، کتحصیل الماء والستر، وبین إعدام المقدّمات الموجودة المفوّتة، کإراقة الماء، وإحراق الستر، فجوّز ترکه فی الأوّل، ومنع الإخلال بالمحافظة فی الثانی.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 82 وملخّص مرامه : أنّ قاعدة الملازمة العقلیّة المستکشفة بها الأحکام الشرعیّة، جاریة فی المقام؛ وذلک لأنّ الملاک قبل الوقت تامّ؛ لعدم تقیّده بالقدرة ، فالمصلحة الملزمة النفسیّة الثابتة لذی المقدّمة، کما تدعو إلی الحکم الشرعیّ؛ وإیجاب الصلاة مثلاً، کذلک تلک المصلحة داعیة إلیٰ إیجاب تلک المقدّمات؛ لتقوّم جلب المصلحة بها. وهذا هو حکم غیریّ لا نفسیّ؛ لأنّه ناشئ من ملاک ذی المقدّمة، ولیس غیریّاً ترشّحیاً؛ لعدم الإرادة الفعلیّة لذی المقدّمة حتّیٰ یعقل ترشّح هذه الإرادة منها.
فهذا قسم آخر یثبت بمتمّم الجعل؛ أی یکون الملاک الواحد داعیاً إلیٰ جعلین: جعل الحکم النفسیّ، وجعل الحکم الغیریّ، فیتوصّل المولیٰ إلیٰ مطلوبه بهذا الجعل المتمّم، کما فی التعبّدی والتوصّلی، إلاّ أنّه فرق بین ما نحن فیه وهناک؛ بالتقدیم والتأخیر، کما لایخفیٰ.
وتوهّم : أنّ هذا الحکم الشرعیّ، ناشئ من الحکم العقلیّ بالأمن من العقاب، فیکون داخلاً فی سلسلة معالیل الأحکام، والقاعدة تجری فی سلسلة علل الأحکام؛ وهی المصالح الکامنة فی متعلّقات الفعل، فی غیر محلّه؛ لما عرفت: أنّ الداعی إلی الجعل الثانی، ملاک ذی المقدّمة.
أقول : قضیّة هذا التقریب ـ بعد فرض إطلاق المصلحة الملزمة؛ وأنّ القدرة مأخوذة عقلاً ـ عدم الفرق بین المقدّمات المفوّتة، وأنّه لابدّ من حفظ القدرة ومن تحصیلها بعد ثبوت القدرة علی القدرة.
نعم، إذا اُخذت القدرة بوجه خاصّ، کان للتفصیل المزبور وجه، ولکنّه خلف.
ثمّ إنّه قدس سره قد اهتمّ بإثبات توصیف الوجوب العقلیّ الإرشادیّ ـ الذی یقول
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 83 به «الکفایة» وغیره ـ بـ «الوجوب الشرعیّ الغیریّ» ولیس هذا طریقاً آخر فی حلّ المشکلة.
وحیث قد عرفت منّا : أنّ کشف المصلحة الملزمة، غیر معقول فی هذه المواقف إلاّ من قبل الهیئات، وأنّها تورث وجود المصلحة الملزمة، وإذا کانت هی قبل الوقت غیر فعلیّة، وهکذا بعده، فلا سبیل إلیٰ تلک المصلحة الملزمة فی الوقت؛ لإمکان قصور المقتضی حین العجز، واتکال المولیٰ علیٰ إدراک العقل فی إفادة هذا القصور، فلیس العجز سبباً للقصور حتّیٰ یقال بالقطع بعدمه، بل القصور من أجل أمر آخر اتفق مع العجز خارجاً، وإذا لم یکن حال العجز تکلیف فعلیّ حتّیٰ یستکشف المصلحة الملزمة، اتکل المولیٰ فی مرامه علیٰ هذا الحکم العقلیّ، فلاتخلط. فموضوع قاعدة الملازمة غیر محرز.
ولو سلّمنا ذلک: فاعلم أنّ قاعدة الملازمة من أکاذیب القواعد؛ وذلک لأنّ العقل أوّلاً: لایحکم بشیء ، بل العقل یدرک لزوم شیء، والملازمة بین إدراک لزوم شیء وحکم الشرع، بلا وجه، بل الشرع أیضاً یدرک لزومه. وهذا غیر الإرادة الباعثة.
وثانیاً : لا وجه لإلجاء الشرع إلی الإرادة الباعثة الغیریّة، بعد قیام العقل بلزوم تلک الإرادة، ولاینبغی الخلط بین الإرادة الفاعلیّة، والإرادة الآمریة، فإنّ الإرادة الفاعلیّة تستلزم الإرادة الغیریّة؛ لأنّها تتعلّق بإصدار الفعل، فإذا کان التوقّف معلوماً، فقهراً تحصل الإرادة الاُخریٰ متوجّهة إلی المقدّمات، بخلاف الإرادة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 84 الآمریّة، فإنّها متعلّقة بالبعث، وتبعث المکلّفین نحو المطلوب، وهذه لاتستلزم تلک الإرادة؛ لعدم بنائه علی المبادرة إلیٰ إیجاد الفعل فی الخارج، حتّیٰ یتوقّف وجوده علیٰ شیء لابدّ من إرادته. وهذه الإرادة تسمّیٰ بـ «الإرادة التشریعیّة».
وأمّا توهّم : أنّ متعلّق الإرادة الآمریة، صدور الفعل عن الفاعل المکلّف عن اختیار، وتکون هی غیر الإرادة الفاعلیّة؛ لإمکان تخلّف المراد عنها دونها، فهو غیر مرضیّ وجداناً وبرهاناً، کما تعرّضنا لذلک فی تنبیهات بحث الطلب والإرادة. ولو کان الأمر کما زعم فالمقصود أظهر؛ لأنّ القیاس مع الفارق الواضح. ومن ابتلی بالقیاس بین الإرادتین، ابتلی بکثیر من الإشکالات والشبهات.
وممّا یعرب عن ذلک: أنّ الآمر والمأمور مختلفان ـ بحسب التشخیص ـ فیما یتوقّف علیه المأمور به والمکلّف به، فربّما یلزم أنّ إرادة الآمر تتعلّق بما یراه مقدّمة، وهو لیس بمقدّمة، ولا شبهة فی لزوم تبعیّة المأمور لتشخیصه، لا تشخیص المولیٰ، فهذا شاهد علیٰ أنّ المولیٰ یتّکل فی ذلک علی العقل، ولا یکون ملجأً فی تلک الإرادة حتّیٰ یثبت بالملازمة.
والذی هو مقصود مرید هذه القاعدة: أنّ مذهب العدلیّة وإدراک العقل علیٰ أنّ الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد، فإذا أدرک العقل شیئاً حسناً، أو قبیحاً، فالشرع بما أنّه عقل محض، ویکون مداره علی المصالح والمفاسد، یصدّق ذلک الإدراک تنجیزاً وتعذیراً، لا أنّه یرید بالإرادة التشریعیّة الآمریة ذلک، وإلاّ یلزم تعدّد العقاب فی جمیع المحرّمات والواجبات، ضرورة أنّ الغصب محرّم شرعاً بعنوانه الذاتیّ، والظلم بإدراک العقل قبیح، فیکون محرّماً شرعاً، فإذا تحقّق الغصب تحقّق الظلم، فیعاقب إمّا مراراً، أوعقاباً شدیداً؛ لتعدّد جهة البغض، فلاتغفل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 85