المبحث الثانی : فی المحاذیر التی ذکروها لوجوب الموصلة
سواء اُرید منها ماهو الظاهر: منهم من أنّ المقدّمة الموصلة قابلة للتعدّد والتکرّر، ویکون الکلّ معروض الوجوب بعروضه علی العنوان المزبور، أو اُرید منها ماهو المختار: من أنّ الموصلة هی المقدّمة المنحصرة بالواحدة التی تعرف بما مرّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 215 تفصیله، فلایکون معروض الوجوب إلاّ واحدةً، وماهو الموصوف وفی الخارج معروض هذا العنوان أیضاً إلاّ واحداً.
منها : الدور؛ بتقریب أنّ عنوان «الموصلیّة» الذی هو معروض الوجوب، یتوقّف تحقّقه علیٰ تحقّق ذی المقدّمة؛ لأنّه بدونه لایمکن أن یوجد، ولایمکن أن توصف المقدّمة بـ «الموصلة» إلاّ بعد التعقّب بذی المقدّمة، فعلیه یکون ذو المقدّمة من المقدّمات الوجودیّة لوجود المقدّمة، فیترشّح إلیه الوجوب الغیریّ، وتوقّف ذی المقدّمة علی المقدّمة ضروریّ، فیلزم توقّف المقدّمة علیٰ نفسها. وهناک تقاریب اُخر کلّها بلا محصّل.
والذی هو الحلّ : أنّ ذات ذی المقدّمة فی الخارج، تتوقّف علیٰ ذات المقدّمة توقّف المعلول علیٰ علّته، ولکن وصف المقدّمة وهو عنوان «الموصلیّة» متوقّف علیٰ تعقّبه بذی المقدّمة، نظیر أنّ ذات المعلول متوقّفة علیٰ ذات علّته، ولکن وصف «العلّیة» موقوف علیٰ تحقّق ذات المعلول، فإذا تحقّق هو، وتحقّق ذاک عقیبه، یوصفان معاً بـ «العلیّة» و «المعلولیّة» وإن کان توصیف ذات العلّة بـ «العلّیة» لایمکن إلاّ بعد وجود المعلول، فلاینبغی عدّ هذه الاُمور من المحاذیر إنصافاً.
ومنها : یلزم اتصاف ذی المقدّمة بالوجوبین: النفسیّ، والغیریّ، وهو محال؛ للزوم اجتماع المثلین، وذلک لأنّ الحجّ مثلاًواجب نفسیّ، وبما أنّ وصف «الموصلیّة» متوقّف علیٰ تحقّق الحجّ، فالحجّ واجب غیریّ، فیلزم کونه معروض الوجوبین.
وحدیث اندکاک أحدهما فی الآخر، ممّا یضحک الثکلیٰ؛ للزوم کونه واجباً غیریّاً لإمکان اندکاک النفسیّ فی الغیریّ، فیلزم عدم النفسیّ رأساً، وهذا محال؛ لأنّه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 216 خلف. ولإمکان اندکاک الغیریّ فی النفسیّ، فیلزم عدم ترشّح الإرادة بالنسبة إلیه بعد الاندکاک، وهو تخصیص بلا مخصّص، والالتزام بهما جمعاً ممتنع؛ لامتناع کون الواحد معروض الواجبین التأسیسیّین.
والجواب : أنّ مصبّ الوجوب النفسیّ هو الحجّ بذاته، ومصبَّ الوجوب الغیریّ هو عنوان آخر وهو «الموصلیّة» ولا یتجاوز الأمر الغیریّ من متعلّقه إلیٰ شیء آخر، فلایسری إلی الحجّ، بل الحجّ فی هذا اللحاظ لیس إلاّ ما یتوقّف علیه عنوان «الموصلیّة» فمعروض الوجوبین مختلف وهذا الخلط کثیراً ما أوقعهم فی الاشتباه.
وتوهّم إمکان الجمع بینهما؛ لأنّ أحدهما: نفسیّ، والآخر: فی لحاظ آخر غیریّ، کما فی صلاة المغرب والظهر بالنسبة إلی العشاء والعصر، غیر نافع؛ لأنّ معنی اللحاظ الغیریّ: هو أنّ ماهو معروض وجوبه الغیریّ عنوان «التوقّف» و«التمکّن» و«التوصّل» مثلاً لا عنوان «الظهریّة» فلو قلنا بسرایة الأمر إلی المعنون، ولایکفی تعدّد العنوان لتعدّد الأمر، فالشبهة غیر قابلة للاندفاع.
إن قلت : کیف لایمکن، ولنا أن نقول: بأنّ معروض الوجوب النفسیّ هو ذات العمل، وهو فی المثال الحجّ، ومعروض الوجوب الغیریّ لیس عنوان «الموصل» ولا قیدیّة للإیصال فی العنوان المزبور، بل معروض الوجوب هی السلسلة من المقدّمات الملازمة لوجود ذی المقدّمة، دون المفارقة؟!
قلت : قد عرفت هذا فی کلام سیّدنا البروجردیّ رحمه الله إشکالاً علی الموصلة: بعدم الفرق بینها وبین القائل: بأنّ معروض الوجوب هی المقدّمة السببیّة، لا المفارقة ، وجوابَه أیضاً: من أنّ القائل بالموصلة، یرید إثبات أنّ معروض الوجوب
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 217 هو عنوان «الموصلة» لا الذات الخارجیّة.
هذا مع أنّ للوجوب الغیریّ العارض علی العلّة الملازمة ملاکاً، ولابدّ وأن تکون هی معروضه؛ لما تقرّر، فلا نکرّر، فلاینبغی الخلط بین الأحکام الشرعیّة المستکشفة بالعقل، وبین ما جعلها الشارع وتصدّیٰ تشریعه نفس الشریعة، فإنّ موضوعها فی الأوّل ملاکها، وفی الثانی ما جعله الشرع موضوعاً لها.
فبالجملة : الأمر الغیریّ والنفسیّ فیما نحن فیه، إمّا یمکن إبقاؤهما علیٰ حالهما؛ لأنّ ملاک الأوّل غیر الثانی وإن کان الموضوع واحداً، فلایکون الاجتماع محذوراً.
وإمّا یکون موضوع أحدهما غیر الآخر، فلایلزم محذور أیضاً.
وأمّا حدیث الاندکاک، فهو ـ کحدیث الاجتماع مع وحدة الملاک ـ ممّا لایمکن الالتزام به، فلیتدبّر. والأمثلة السابقة لاتفید أکثر من ذلک، فلامحذور فی کون معروض الوجوب هی الموصلة.
وربّما یخطر بالبال دعویٰ : أنّ فی معروضیّة الموصلة لو کان محذور لعروض الوجوب، یلزم کون غیر الموصلة المأخوذة بشرط لا عن الإیصال معروضةً، فهل یمکن الالتزام بذلک؟
بیان الاستلزام : أنّ القائل بالمطلقة یقول بالموصلة، ولا یقول: بأنّ العنوان الأعمّ بما هو أعمّ الملحوظ فیه اللاوصول والوصول معروضه، فیقول: بأنّ المعروض یکون الموصلة والمطلقة، وهذه المطلقة تقابل الموصلة، فیکون هو المأخوذ بشرط لا حتّیٰ تقابلها، فینحصر المعروض بالمقدّمة التی لاتوصل، فتأمّل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 218 ومنها : أنّه یلزم من وجوب الموصلة، کون ذی المقدّمة مورد الوجوب الغیریّ بعنوانه.
وهذا محذورآخر؛ لماعرفت من لزوم تعدّد المعروضین فیما نحن فیه لاعتبار الغیریّة والتعدّد ـ ولو فی عالم العنوانیّة ـ بین ذی المقدّمة والمقدّمة، فلو کان بین ذی المقدّمة والمقدّمة وحدة عنوانیّة، یلزم کون الشیء مقدّمة لنفسه، ولایعقل هذا.
بیان الاستلزام : أنّ الحجّ الواجب النفسیّ، یستلزم الأمر الغیریّ المتعلّق بالموصلة، وبما أنّ وصف «الموصلیّة» متوقّف علیٰ تحقّق الحجّ، فلابدّ من ترشّح الأمر الغیریّ الآخر إلی الحجّ بملاک التوصّل، فیکون الحجّ مقدّمة وذا المقدّمة، ولایکون بینهما تغایر، مع اعتبار التغایر بینهما بالضرورة.
وتوهّم : أنّ الأمر الغیریّ الأوّل المترشّح من أمر الحجّ، متعلّق بعنوان «الموصلة» وهو غیر عنوان «الحجّ» والأمر الغیریّ الثانی المتعلّق بالحجّ، مترشّح من الأمر الغیریّ المتعلّق بالموصلة، وهما أیضاً متغایران، فیحصل الشرط؛ وهی الغیریّة فی مصبّ الأمرین.
غیر صحیح؛ لما عرفت فی بعض المقدّمات السابقة: أنّ الأمر الغیریّ المترشّح من الأمر النفسیّ، مورد الکلام والنزاع فی باب الملازمة إذا کانت عقلیّة، فلایکون الأمر الغیریّ المتعلّق بالمقدّمة، منشأً لترشّح الأمر الغیریّ الآخر بمقدّمة المقدّمة وهکذا. بل جمیع المقدّمات مصبّ الأوامر الترشّحیة من ذی المقدّمة وإن کان بینها التقدّم والتأخّر والعلّیة والمعلولیّة، فالأمر الغیریّ المتعلّق بالحجّ، مترشّح من الأمر بالحجّ وإن توسّط بینهما الأمر الغیریّ الآخر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 219 أقول : هذا محذور یتوجّه إلی القول: بأنّ معروض الوجوب قدیکون موصلة، وقدیکون مطلقة، فإنّه عند ذلک یلزم ترشّح الإرادة الغیریّة إلی الموصلة، ویکون الحجّ خارجاً؛ لأنّه مقوّم عنوان «الموصلة» ومحقّقه، لا موصوفه ومعروضه، فإنّ معروضه هی المقدّمات، لا ذی المقدّمة، فعلیه لابدّ من أمر آخر ترشّح إلیه من النفسیّ.
وأمّا إذا قلنا : بأنّ الموصلة معروض الوجوب مطلقاً، فلابدّ من کون مورد النزاع أعمّ من الواجب الغیریّ والنفسیّ؛ أی أنّ البحث فی أنّ مقدّمة الواجب واجبة أم لا، أعمّ من کون الواجب المزبور نفسیّاً، أو غیریّاً، فإذا کان السیر الموصل واجباً غیریّاً، وکان وصف «الموصلیّة» متقوّماً بالحجّ، ویکون الحجّ موصلاً إلیٰ ذلک الوصف، یکون هو أیضاً معروض الوجوب، ولکن بوصف «الموصلیّة» وتحت هذا العنوان، فافهم واغتنم، وکن من الشاکرین.
ولاتتوهّم : أنّ هذه الشبهة عین الشبهة الاُولیٰ؛ ضرورة أنّ من الممکن التزام أحد بإمکان اجتماع الواجبین، ولایمکن لأحد أن یختار عدم اعتبار الغیریّة بین معروض النفسیّ والغیریّ، کما عرفت فیما سبق.
ومن العجیب ما فی تقریرات السیّد الوالد ـ مدّظلّه من توهّمه: «أنّ توقّف وصف الموصلیّة إلی الصلاة، لایستلزم تعلّق الوجوب بها» انتهیٰ!!
ولست أدری وجهه؛ لأنّ ملاک الترشّح والوجوب إذا کان موجوداً، فلا معنیٰ لعدم تعلّقه بها. فالحلّ ما عرفت منّا: من أعمّیة المراد من الواجب فی عنوان المسألة، فلاتغفل.
نعم، إذا قلنا : بأنّ الملازمة المدّعاة هی العقلائیّة، فیمکن دعویٰ عدم عروض
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 220 الوجوب للصلاة والحجّ فیما نحن فیه؛ لعدم قیام الدلیل علیه.
ومنها: التسلسل؛ بتقریب أنّ معروض الوجوب هی الموصلة، والمشتقّات مرکّبة من الذات والوصف، وکلّ مرکّب ینحلّ إلی الأجزاء، فتکون الأجزاء واجبة بالغیر؛ لدخولها ـ حسبما تقرّر ـ فی محطّ النزاع، وإذا کانت الأجزاء واجبة بالغیر، فلابدّ وأن تکون بقید الإیصال، فکلّ جزء موصل إلی المرکّب الموصل إلی الواجب واجب، فرأس السلسلة أیضاً یشتمل علیٰ عنوان مشتقّ منحلّ إلی الأجزاء وهکذا، فیلزم التسلسل المحال؛ لعدم إمکان توقّف الإرادة الغیریّة إلیٰ حدّ معیّن.
وکان ینبغی أن یجیب المیرزا النائینیّ قدس سره عن هذه الشبهة: بأنّ الأجزاء الداخلیّة خارجة عن محطّ النزاع، کما صرّح به الطائفة الآخرون، فلایتوجّه علیٰ مبناه إشکاله إلیٰ «الفصول».
وتوهّم: أنّ وصف «الموصلیّة» خارج کماعرفت فیماسبق، فاسد لماعرفت.
وأمّا ما أفاده الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : «من أنّ الواجب هی الموصلة إلیٰ ذی المقدّمة، لا الموصلة إلی المقدّمة» فهو أفسد؛ ضرورة أنّ التخصیص غیر جائز بعد وجود الملاک. نعم علی القول بالملازمة العرفیّة، فلابأس به.
والجواب : أنّ أجزاء المرکّب بوصف «الموصلیّة إلی المرکّب» واجبة، ولکن معروض الوجوب فی الموصلة هی المنحصرة بالواحدة، کما عرفت منّا، وعلمت أنّ ما هو الواجب الغیریّ هی المقدّمة المنتهیة إلی الواجب الموصلة بالفعل؛ أی الموصلة عند إرادة إتیان الواجب لا غیر، فلایکون المرکّب ذا أجزاء ومقدّمات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 221 کثیرة موصلة، بل له مقدّمة واحدة موصوفة بـ «الموصلة» هذا أوّلاً.
إذا عرفته فلیعلم : أنّ الأجزاء بأسرها إذا کانت بوصف «الموصلیّة» واجبة، فهی لاتکون شیئاً وراء المرکّب الموصل؛ لأنّ الأجزاء بالأسر هی المرکّب، کما مرّ فی المباحث السابقة.
فتمام الشبهة نشأت من تحلیل المرکّب إلی القید والمقیّد، ومن تکثیر المقدّمة الموصلة، مع أنّ الموصلة بحسب الواقع واحدة، وهی فی المرکّب نفس الأجزاء، فلایلزم التسلسل.
وبعبارة اُخریٰ : إذا کان الحجّ واجباً، فمقدّمته الموصلة واجبة، وإذا حلّلناها إلی الذات والوصف، فلایکون کلّ واحد منها واجباً؛ لعدم کون کلّ واحد ذا ملاک؛ لا وحده، ولا بلحاظ قید الإیصال:
أمّا وحده، فهو واضح.
وأمّا بلحاظ قید الإیصال، فلما عرفت: من أنّ ماهو الموصل إلی المطلوب النفسیّ، لایمکن أن یکون بحسب الواقع متعدّداً وإن کان بحسب الإمکان کثیراً، فإذن ینحصر بأن یکون الواجب شیئاً واحداً؛ وهو عنوان «الموصل إلی الواجب النفسی، والمنتهی إلیه» وهو بحسب الخارج هی الذات، وتصیر متّصفة بالموصلیّة بعد لحوق ذی المقدّمة بها.
وبعبارة ثالثة : الذات الموصوفة بالإیصال لو کان معروضةً للوجوب، فلایکون وصفها أمراً آخر غیر الإیصال الأوّل الذی انحلّ عنوان «الموصلة» إلیه وإلی الذات حتّیٰ یلزم التسلسل؛ وذلک لأنّ کلّ ما کان منتهیاً إلی الواجب النفسیّ، هو معروض الوجوب؛ وهو الذات الموصلة بالفعل، فإذا انحلّت إلی الذات والوصف، وقلنا : إنّ الذات الموصلة إلی الموصلة واجبة، فهی الواجب الأوّل، لا الثانی؛ لأنّ الواجب الأوّل لا لون له إلاّ عنوان «الذات الموصلة» فالتحلیل إلی الکثیر لایستلزم
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 222 تعدّد الأمر، فتدبّر.
ثمّ إنّ الوالد المحقّق ـ مدّظلّه دفعاً لتقریب التسلسل أفاد تقریباً آخر. وإجمال ما أفاده: أنّ انحلال الموصلة إلی الذات والإیصال، وإن کان یقتضی کون الذات بوصف «الإیصال» واجبةً أیضاً، ولکن لایمکن أن یقتضی کون الإیصال أیضاً بوصف الإیصال واجباً، بل الإیصال واجب بذاته، وغیره واجب به، انتهیٰ.
وهذا هو ما قیل: «إنّ کلّ شیء موجود بالوجود، والوجود موجود بذاته، وإلاّ لتسلسل» ولایعقل اعتبار الإیصال العرضیّ والوصفیّ للإیصال، فالإیصال موصل بذاته، وهذا مصداق بسیط للمشتقّ، فلاینحلّ کما تقرّر.
وبعبارة اُخریٰ : الذات تنقسم لما هی مطلقة، وموصلة، فلابدّ وأن یکون معروض الوجوب هی الموصلة، ولکن الإیصال لاینقسم إلی المطلقة والموصلة، بل الإیصال موصل علی الإطلاق، فلاتسلسل.
وهذا جواب متین فی تلک الناحیة، وأمّا المعضلة فهی باقیة فی الناحیة الاُخریٰ، والجواب ما عرفت.
ومنها : أنّ الإیصال إمّا یکون قید الهیئة، فیکون الوجوب مترشّحاً بعد تحقّق المقدّمة وذی المقدّمة، وهذا محال؛ لامتناع الترشّح بعد انتفاء سببه، وهذا هو تحصیل الحاصل.
وتوهّم : أنّه شرط الشبهة بنحو المتأخّر وإن کان ممکناً عقلاً، ولکنّ العقل فی هذا المقام یجد وجود الملازمة من غیر انتظار أمر، فلایکون اتصاف المقدّمة بالوجوب مشروطاً بالمتأخّر؛ بحیث یکون المتأخّر شرط الوجوب.
وإمّا یکون قید المادّة والواجب، وعند ذلک فإن کان السبب المنتهی إلیٰ ذی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 223 المقدّمة من الأسباب التولیدیّة، فهو یمکن اتصافه بـ «الموصلیّة» إلاّ أنّ ما هو الواجب ـ بحسب اللبّ والحقیقة ـ هو السبب، فإنّه تحت الاختیار، فیلزم اجتماع النفسیّ والغیریّ؛ وکون ما هو المقدّمة عین ما هوالواجب النفسیّ، وهذا أیضاً محال.
وإن کان السبب المقدّمات المتسلسلة المنتهیة إلی الوجوب، لا یکون من التولیدیّات، فهو أیضاً لایتّصف بـ «الموصلیّة» فیکون ـ بناءً علیٰ هذا ـ قول «الفصول» و«المعالم» واحداً، بل وقول من یقول بالمقدّمة السببیّة دون غیرها، ولایلتزم به أرباب القول بالموصلة.
أقول : هذا ما یستظهر من العلمین صاحبی «الکفایة» و«التقریرات» وهو فی غایة الضعف؛ ضرورة أنّ وصف «الموصلیّة» ثابت من الأوّل لأوّل الأجزاء، وللمقدّمات التی ـ بحسب الواقع ـ تنتهی إلی الواجب، وإن کان بحسب الإثبات غیر معلوم لنا وللمکلّف. هذا وسیأتی مزید بیان حول ذلک، فانتظر وتأمّل.
وأمّا إرجاع الوجوب المتعلّق بالمسبّب إلی السبب التولیدیّ، فهو من الأمر الواضح فساده، کما مرّ مراراً، وسیأتی فی محلّه مزید توضیح؛ ضرورة أنّ اختیاریّة السبب کافیة لجعل الوجوب علی المسبّب، ولاستحقاق العقاب علیه، کما لایخفیٰ. وفیما مرّ ـ بتقریب منّا ـ فی تقریب الشبهة إشکالات اُخر، ولا حاجة إلیٰ ذکرها.
ومنها : ما مرّ من «الکفایة» بتقریب منّا: وهو أنّ وجه وجوب المقدّمة؛ هو توقّف القدرة علیٰ إتیان الواجب علیها، والقدرة علی الإتیان بالواجب موقوفة علی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 224 المطلقة، لا الموصلة؛ لعدم تخلّل القدرة بین الموصلة وذی المقدّمة، فلابدّ ـ علیٰ هذا ـ أن یکون معروض الوجوب، ما یتخلّل بینه وبین ذی المقدّمة القدرة علیه.
وبعبارة اُخریٰ : لابدّ وأن لایلزم من تحقّق المقدّمة، خروج ذی المقدّمة عن تحت اختیار العبد، وهذا ینحصر بالمطلقة.
والجواب : أنّ تخلّل القدرة لیس شرطاً؛ بمعنی أنّه لایلزم أن یفرغ المکلّف من المقدّمة الواجبة، وفی نفس الوقت لم یأتِ بذی المقدّمة، بل الشرط هی القدرة علیٰ ذی المقدّمة بالقدرة علی المقدّمة، وهو حاصل فی الموصلة، وإلاّ یلزم أن یختصّ الوجوب بغیر الموصلة، لا بالجامع بینها والمطلقة.
وغیر خفیّ : أنّه وإن کان لا یستفاد من کلامه ذلک، إلاّ أنّ مقتضیٰ تقریبه لإیجاب المطلقة ذاک، فلیتدبّر.
ومنها : أنّه لو کانت الموصلة واجبة، للزم کون الإرادة فی نوع الواجبات ـ إلاّ ما شذّ منها ـ موردَ الإیجاب الغیریّ، والالتزام بوجوب الإرادة التزام بالتسلسل، فمن القول بوجوب الموصلة یلزم التسلسل، ولکنّه بتقریب آخر، وفی مورد آخر.
أقول : هذا ما یستظهر من «الکفایة» ولابدّ وأن نقول: لایخرج منه الواجبات التولیدیّة أیضاً، فالاستثناء المزبور غیر صحیح؛ لأنّ الإحراق إذا کان واجباً، فالموصل إلیه هو إرادة الإلقاء ونفس الإلقاء، فیکون فی التولیدیّات أیضاً معروض الوجوب منبسطاً علی الإرادة، ووجوبها یستلزم التسلسل؛ وذلک لأنّ الإرادة الواجبة، تحتاج إلی الإرادة فی تحقّقها، وهکذا الثانیة إلی الثالثة، فیتسلسل.
والجواب أوّلاً علیٰ مبنی القوم: أنّ الإرادة الاُولیٰ داخلة فی معروض الوجوب، دون الثانیة؛ لأنّ الاُولیٰ موصلة إلی الواجب، والثانیة إلی المقدّمة،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 225 فلاتجب. ولکنّه عندنا غیر تامّ کما مرّ.
وثانیاً : قد تقرّر منّا فی مباحث الطلب والإرادة : أنّ الإرادة اختیاریّة، ویتعلّق بها التکلیف، کما فی إرادة إقامة عشرة أیّام، وهی توجد بإرادة ذاتیّة تتصدّیٰ لها النفس، من غیر حاجة إلی الإرادة الفعلیّة، وإن کان فی تسمیتها «إرادة ذاتیّة» إشکال، ولکنّ اختیاریّتها کان علی أقسام.
وغیر خفیّ : أنّ «الکفایة» وأکثر الأصحاب، قائلون: بأنّ مثل الإرادة لیس متعلّق الأمر الغیریّ؛ حتّیٰ فیما کان معروض الوجوب المقدّمة المطلقة؛ لأنّها علّة تامّة أو الجزء الأخیر من العلّة التامّة، والعلل التامّة خارجة ـ عند کثیر منهم ـ عن حریم النزاع فی مبحث وجوب المقدّمة، فلا یتوجّه إلیهم هنا إشکال آخر وراء ما اختاروه من المبنی الفاسد؛ وهو خروج مثلها عن محطّ الکلام فی المقام.
ومنها : ما عن العلاّمة الخراسانیّ رحمه الله أیضاً: «من أنّ الإتیان بالمقدّمة المطلقة إمّا یستلزم سقوط الأمر المقدّمی، فهو المطلوب، أو لایستلزم، ویکون باقیاً، فهو خلاف الوجدان؛ لأنّ المأتیّ به وافق المأمور به».
وأنت خبیر : بأنّ المأتیّ به یوافق المأمور به؛ إذا کانت المطلقة مورد الأمر، لا الموصلة، فدعوی «الکفایة» ترجع إلیٰ أنّ الوجدان حاکم بأنّ المطلقة واجبة، وهذا لیس إشکالاً ومحذوراً فی المسألة، کما لایخفیٰ.
ومنها : وهو آخرها، ولعلّه أصعبها: وهو أنّ ماهو الواجب فیما فرضناه؛ هو عنوان «الموصلة» ولا شبهة فی أنّ «الموصلة» من العناوین المضایفة لعنوان آخر فی التصوّر، کـ «الفوقیّة والتحتیّة، والعلّیة والمعلولیّة» ففی مقام الجعل یتصوّر المولیٰ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 226 واجبه النفسیّ کالحجّ، ویعلّق الوجوب علیه، ثمّ یتصوّر الموصلة إلی الحجّ، ولایمکن أن یتصوّر الموصلة علی الإطلاق، فإذا تصوّر الموصلة إلی الحجّ یعلّق علیها الوجوب الغیریّ، فیکون الواجب عنوان «الموصلة إلی الحجّ» مثلاً، وهذا ممّا لامحذور فیه فی عالم الذهن واللحاظ.
وإنّما المحذور فی عالم التطبیق والخارج؛ وذلک أنّ الخطوة الاُولیٰ بحسب الخارج، لایمکن أن تکون مضافة إلی الحجّ الخارجیّ؛ لعدم وجود للحجّ بعدُ، فلاتوصف بـ «الموصلیّة» فعلاً وإذا تحقّق الحجّ لا بقاء لذات الخطوة حتّیٰ توصف بـ «الموصلیّة» بعد ذلک.
وبعبارة اُخریٰ : وصف «الموصلیّة» متقوّم بالمتقدّم الزمانیّ، والمتأخّر الزمانیّ، ولایعقل اجتماعهما فی زمان واحد، ولایکفی لحاظ المتأخّر فی توصیف الخطوة بـ «الموصلیّة إلی الحجّ» ففیما تحقّقت الخطوة، لا تحقّق للحجّ حتّیٰ یمکن توصیفها بـ «الموصلیّة» وفیما یتحقّق الحجّ لا بقاء للخطوة حتّی یمکن التوصیف؛ لأنّ المعدوم لایوصف بشیء، ولایمکن أن یکون دخیلاً فی توصیف الخطوة بشیء.
فبالجملة : المتضایفان متکافئان قوّة وفعلاً، ولاشبهة فی أنّ بین وصف «الموصلیّة» فی المقدّمة ووصف «المتوصّل إلیه» فی ذی المقدّمة تضایف، وبین ذاتیهما ترتّب زمانیّ خارجیّ، فکیف یعقل اتصاف المتقدّم بالوصف فعلاً مع عدم وجود الطرف المتأخّر فی هذا الزمان؟! وفیما یوجد الطرف ـ وهو الحجّ ـ لا بقاء للمتقدّم.
نعم، لو کانت المقدّمة وذو المقدّمة، من الأسباب والمسبّبات التولیدیّة، فیمکن توهّم الاتصاف بالفعل.
ولکنّک أحطت خبراً : بأنّ إرادة الإلقاء بالنسبة إلی الإحراق، لیست من
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 227 الأسباب التولیدیّة، وهی إن کانت حاصلة فالإلقاء حاصل، وبعده الإحراق، وإن کانت غیر حاصلة، فتکون داخلة فی محطّ الوجوب الغیریّ، فالتصوّر المزبور غیر ممکن تحقّقه خارجاً؛ فإنّ بین الإلقاء والإحراق وإن لم یکن ترتّب وجودیّ؛ لکونهما معاً فی الوجود، ولکن بین إرادة الإلقاء والإحراق ترتّب وجودیّ، وتخالف فی الوجود.
هذا، ولکن قد مضیٰ منّا: أنّ الإلقاء إذا کان فی عالم العنوان غیر الإحراق، یکون محطّ الأمر الغیریّ؛ وداخلاً فی مصبّ النزاع، ویکفی لذلک ترتّبهما العقلیّ، فإنّه صحیح أن یقال: «ألقاه فأحرقه» فلاتغفل.
والذی هو الجواب عن هذه العویصة: هو أنّ مسألة معروض الوجوب الغیریّ، مسألة عقلیّة صرفة، فلابدّ من مداخلة العقل فی ذلک، فیکون حسب إدراکه عنوان «الموصل» عند إرادة الفعل، أوعنوان «المنتهی إلی الواجب» معروضَه، لاغیر.
وأمّا مسألة اتصاف السیر والخطوات بـ «الموصلیّة إلی الواجب بالفعل» من أوّل وجودها؛ إذا کان بحسب الواقع ینتهی العبد بها إلی المطلوب النفسیّ ـ وبعبارة اُخریٰ : مسألة تطبیق معروض الوجوب علی الخارج ـ فهی لیست عقلیّة، بل هی عرفیّة وعقلائیّة؛ لأنّ معروض الوجوب الشرعیّ المستکشف بالعقل، عنوان من العناوین، کسائر العناوین المأخوذة فی التشریعات النفسیّة والغیریّة، فکما هناک متّبع فهم العرف فی اتصاف العمل الخارجیّ بـ «الصلاة، والصوم، والوضوء، والغسل» کذلک الأمر هنا، فاتصاف هذه الخطوة بـ «الموصلیّة» بنظر العرف، وهو بلا شبهة ناهض علیٰ ذلک:
إمّا لما یجد أنّ ذا المقدّمة حاصل.
أو یجد بعد تحقّقه بقاء الخطوة فی نظره العرفیّ، فیصحّ التوصیف.
والشاهد علیٰ هذه المقالة : عدم توجّه أرباب الدقّة والفضل إلیٰ هذه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 228 المعضلة، وما کان ذلک إلاّ لأجل بعده عن الأفهام العلمیّة، فضلاً عن السوقیّة، فلیغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 229