المسلک الخامس ما أبدعه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه
وإجماله التزامه ـ مدّظلّه بالأمرین العقلیّین العرضیّین، مع القدرة الواحدة، من غیر الحاجة إلی الترتّب.
وبعبارة اُخریٰ : المحذور العقلیّ الذی اعتقده أرباب الترتّب وتمسّکوا بذیله، لیس من المحذور؛ لإمکان التکالیف الکثیرة الفعلیّة مع القدرة الواحدة، بل ضدّ العجز المطلق.
وقد أوضح مرامه بذکر مقدّمات، لا مدخلیّة لعبضها فی تحقیق مسلکه، وحیث أنّه من المسالک الراقیة الکثیرة الفائدة فی الفقه من أوّله إلیٰ آخره، وبه تنحلّ المعضلات العلمیّة والغوامض الفهقیّة، فلابدّ من أن نذکره مع ما یخطر ببالی القاصر تشییداً لأرکانه، مع الإشارة إلیٰ ما هو غیر الدخیل فی أساسه وبنیانه.
فنقول : قال ـ مدّظلّه :
«المقدّمة الاُولیٰ: أنّ الأوامرحسب التحقیق، متعلّقة بالطبائع بالضرورة».
قلت : نعم، إلاّ أنّه غیر دخیل فیما هو المهمّ بالمقصود هنا؛ ضرورة أنّ الأوامر
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 426 ولو کانت متعلّقة بالأفراد، یمکن تصویر الأمرین، فیکون مورد الأمر فی الإزالة الفرد منها، وفی الصلاة الفرد منها، کما یأتی ویتّضح جدّاً، ولأجل ذلک لم یحتج فی نتیجة البحث فی حلّ مشکلة متوجّهة إلیه ، إلی التمسّک بذیل هذه المقدّمة.
«والثانیة : أنّ الإطلاق هو رفض القیود؛ بجعل الموضوع المتصوّر مصبّ الحکم، مع إفادة أنّه تمام الموضوع، ولا مدخلیّة لشیء آخر فیه، ولیس هو جمع القیود، ولا لحاظ رفض القیود، کما یتراءیٰ من بعضهم».
أقول : نعم، إلاّ أنّه لم یبیّن وجه دخالة هذه المسألة فی أساس مسلکه.
مع أنّه من الممکن دعویٰ: أنّ الإطلاق سواء کان رفض القیود أو جمعه، یمکن تصویر التکلیفین الفعلیّین؛ وذلک لأنّ ماهو المهمّ، إسقاط شرطیّة القدرة فی توجیه التکلیف وفعلیّته، ضرورة أنّ عند ذلک، یکون کلّ واحد من تکلیف فعل الإزالة والصلاة فعلیّاً، سواء کان إطلاق التکلیف جمع القیود، أو رفضه، فلو قلنا: بأنّ إطلاق تکلیف فعل الإزالة، معناه أنّه واجب سواء کانت الصلاة واجبة أو غیر واجبة، وهکذا إطلاق فعل الصلاة، فإنّه إن لم تکن القدرة دخیلة، یکن کلّ واحد من الوجوبین فعلیّاً، کسائر المواقف.
ویؤیّد ذلک عدم احتیاجه ـ مدّظلّه فی حلّ المشکلة المتوجّهة إلیه، إلی التمسّک بذیل هذه المقدّمة.
نعم، هو کثیر النفع فی المسائل الاُخر، لا فی هذه المسألة.
نعم، قد عرفت فیما سبق الإشکال علیٰ هذه المقالة: بأنّ من شرائط تحقّق
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 427 التزاحم، کون الإطلاق رفض القیود لا جمعه، وإلاّ تکن المسألة من صغریات باب التعارض، فلایتحقّق التزاحم؛ حتّیٰ نحتاج إلیٰ علاجه، وإلیٰ أحکامه، وإلی الترتّب وغیره؛ وذلک لأنّ معنیٰ «صلّ» أی تجب الصلاة الغصبیّة والصلاة غیر الغصبیّة، ومعنیٰ «لاتغصب» أی یحرم الغصب الصلاتیّ والغصب غیر الصلاتیّ، فإذن لایمکن إجراء مبادئ التزاحم؛ لتعارض الدلیلین فی مورد الاجتماع.
وهکذا یکون معنیٰ «أزل النجاسة عن المسجد» أنّ الإزالة المقارنة مع الصلاة واجبة، ومعنیٰ «صلّ» أنّ الصلاة المقارنة مع الإزالة واجبة، فیرجع إلی التکلیف بالجمع، ونعلم حینئذٍ بکذب أحدهما، فیکون التکاذب بینهما بالعرض، کما فی مثل المعارضة بین دلیل صلاة الجمعة والظهر، فتدبّر.
فهذه المقدّمة تکون نافعة لتحقّق موضوع البحث فی هذه المرحلة، لا فی حلّ مشکلة المسألة، کما لایخفیٰ.
«والثالثة : أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع، لا تعرّض لها لأحوال الطبیعة وأفرادها، ومنه یظهر بالأولویّة عدم تعرّضها لحال المزاحمات الواقعة بین الأفراد فی الخارج؛ وفی مقام الامتثال، ویظهر أنّ التزاحم الواقع بینها یکون بالعرض، لا بالذات، وهذا واضح لا غبار علیه.
واتضح بذلک بطلان اشتراط المهمّ بعصیان الأهمّ، الذی یبتنی علیه أساس الترتّب؛ لأنّ المراد من «الشرطیّة» إن کان أنّه شرط شرعاً، فقد عرفت قصور الأدلّة عن التعرّض لحال التزاحم بین الأفراد، المتأخّر عن الطبائع، المتأخّرة عن التقنین والجعل برتبتین.
ولو قلنا: بعدم التأخّر، فلا شبهة فی أنّ الأمر لایکون له إلاّ الهیئة والمادّة، ولایدلّ شیء منهما علیٰ ذلک بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 428 وإن اُریدأنّه شرط شرعیّ استکشف بالعقل، أوشرط عقلیّ، فسیظهربطلانه».
أقول : یتوجّه إلیه :
أوّلاً : أنّ هذه المقدّمة أیّ دخالة لها فی مرامه ومسلکه؟! بل الظاهر منه أنّه أفادها لإبطال مذهب خصمه، فلاینبغی أن تذکر هنا.
وثانیاً : أنّ بطلان مذهب الخصم لایمکن بذلک؛ لأنّه لایقول: بأنّ نفس الأدلّة المتزاحمة متکفّلة لحال العلاج، بل هم قائلون: بأنّ مقتضیٰ إطلاق کلّ واحد من الدلیلین مع المحذور العقلیّ، هو الفرار عن التقیید بالمقدار الممکن، فیکشف أنّ الشرع یرضیٰ بالتقیید المزبور؛ قضاءً لحقّ المحافظة علیٰ مرامه بالمقدار المیسور عقلاً، فافهم وتأمّل جدّاً.
وهذا نظیر سائر الموارد التی یستکشف فیها تقیید الدلیل لبّاً.
نعم ، یتوجّه إلیهم الإشکالات الکثیرة الآتی بیانها، ولکن لیس هنا مقام توجیه الإشکال إلیهم، فلاتخلط.
«والرابعة : قد اعتبروا للحکم مراتب أربع: مرتبة الاقتضاء، ومرتبة الإنشاء، ومرتبة الفعلیّة، ومرتبة التنجّز.
والذی هو من مراتب الحکم هو الإنشاء والفعلیّة، دون الاقتضاء والتنجّز؛ ضرورة أنّ الاقتضاء من المبادئ، وداخل فی العلل السابقة علیه عند الإمامیّة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 429 والمعتزلة، والتنجّزَ حکم عقلیّ غیر مربوط بمراتب الأحکام المجعولة، ویرجع إلیٰ قطع العذر فی المخالفة؛ وإمکان الاعتذار له عند عدمه».
ثمّ أفاد : «أنّ القوم تخیّلوا فی معنی «الإنشائیّة والفعلیّة» ما لا یمکن المساعدة علیه، وفسّروا «الإنشائیّة» بما یشمل الحکم غیر المنجّز، و«الفعلیّة» بما هو المنجّز.
وبعبارة اُخریٰ : تخیّلوا أنّ الحکم یمکن أن یکون إنشائیّاً بالنسبة إلیٰ فرد فی ساعة، وفعلیّاً بالنسبة إلیه فی ساعة اُخریٰ؛ فإن کان عاجزاً فهو شأنیّ، وهکذا لو کان غافلاً وساهیاً، وإن کان قادراً فهو فعلیّ، وهکذا بالنسبة إلی العالم والجاهل.
مع أنّ الضرورة قاضیّة بامتناعه بالنسبة إلیٰ بعض منها» ومراده العالم «وغیر صحیح بالنسبة إلیٰ بعض آخر» ولم یکشف عن ذلک، بل أقام البرهان علی امتناع التفسیر المزبور:
«وهو أنّ هذه المبادلة فی الحکم ترجع إلی المبادلة فی الإرادة، وهی غیر معقولة فی إرادة الشرع، فکیف یعقل أن نلتزم بقبض إرادته بالنسبة إلیٰ شخص حال عجزه، ثمّ بسط إرادته بالنسبة إلیه حال قدرته، وهکذا حال صحوه ولهوه، وحال ذکره ونسیانه، وعلمه وجهله؟!
هذا مع أنّ القوانین العرفیّة، غیر مساعدة علیٰ هذه الطریقة فی قوانینه».
ثمّ شرع فی تفسیر الأحکام الفعلیّة والإنشائیّة، وقال: «الحکم الإنشائیّ؛ هو الحکم المجعول علیٰ نعت القانون الکلّی لعامّة البشر، أو لجماعة منهم؛ بعدما یجد
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 430 الصلاح فی ذلک الإنشاء.
ثمّ إن کان المقنّن ـ سواء کان واحداً أو کثیراً ـ یری المصلحة فی إبلاغه وإجرائه:
فتارة : یبلّغه مع المخصّصات المتّصلة، فیکون هو الحکم الفعلیّ البالغ حدّ الإجـراء.
واُخریٰ : یبلّغه، ولکنّه یصدر المخصّصات تدریجاً، فإنّه حکم فعلیّ بالنسبة إلیٰ غیر موارد التخصیص، وإنشائیّ بالنسبة إلیٰ موارد التخصیص.
ومن الإنشائیّ أیضاً: الأحکام الکلّیة المجعولة غیر البالغ وقت إجرائها وآن تطبیقها، مثل الأحکام المودعة عند صاحب الأمر علیه السلام وعجّل الله تعالیٰ فرجه الشریف.
وإذا تبیّن لک حقیقة الإنشاء والشأنیّة فی الأحکام، ومعنی «الفعلیّة» تجد أنّ التنجّز من الأحکام العقلیّة، ولایختلف الحکم فی مورد التنجّز واللاتنجّز.
وبعبارة اُخریٰ : إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحکم إلی المکلّف وإن کان قاصراً عن إزاحة علّته، أو عروض مانع کالعجز، لایوجب ذلک سقوط الحکم عن الفعلیّة، ورجوعه إلی الإنشائیّة؛ حتّیٰ یلزم الامتناع المزبور».
أقول : البحث معه ـ مدّظلّه یقع فی جهات :
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 431