الأمر الثانی : هل مسألة مقدّمة الواجب من المسائل الاُصولیّة؟
اختلفت کلمات الأعلام فی أنّ هذه المسألة، من مسائل أیّ من العلوم؟ فهل هی مسألة کلامیّة؛ بتوهّم أنّ المتکلّم یبحث عن صحّة العقوبة والمثوبة علی الواجب المقدّمی وعدمها؟ وهذا غیر صحیح؛ لأنّ ذلک بعد الفراغ عن أصل وجوبها، وإلاّ فلا معنی لذلک البحث.
أم هی مسألة تعدّ من مبادئ الأحکام؟ کما اختاره السیّد الاُستاذ البروجردی قدس سره ـ تبعاً للحاجبیّ والبهائیّ، وهو مختار المحشّی المدقّق قدس سرهـ معلِّلاً: «بأنّ القدماء کانوا یبحثون فی فصل عن معاندات الأحکام وملازماتها،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 7 ویسمّونها: المبادئ الأحکامیّة، وهذا منها. ولایکون من مباحث الاُصول؛ لأنّ موضوعه هو الحجّة فی الفقه، ولا معنیٰ للبحث عن الحجّیة هنا، بل البحث عنها بعد الفراغ عن أصل وجودها، وماهو محلّ البحث هی الملازمة بین الوجوبین، فإن کانت الملازمة فالحجیّة أحد المتلازمین علی الآخر واضحة، ولا معنی للبحث، وإن لم تکن ملازمة فلا معنی للحجّیة».
وأنت خبیر بما مرّ منّا فی محلّه: من أنّ المعتبر فی العلوم هی المبادئ التصوّریة، والتصدیقیّة، ولیست مبادئ الأحکام إلاّ راجعة إلیٰ إحداهما.
هذا مع أنّ ما هو محطّ البحث هو حجّیة الملازمة، ولایلزم فی المسائل التی یحمل علیها «الحجّیة» کونها محلّ الخلاف، کحجیّة القطع، فبعد ثبوت الملازمة یبحث عن حجّیتها، فیصیر بحث المقدّمة من المبادئ التصدیقیّة لموضوع هذه المسألة.
أو هی من المسائل الفقهیّة؛ لأنّ البحث حول المقدّمة یرجع إلیٰ أنّه واجب شرعاً، أم لا؟
وفیه : أنّ المنظور فیه هو استکشاف أنّ الملازمة بین الإرادتین ملازمة عرفیّة، فإن ثبتت الملازمة فیحکم بالوجوب.
وبعبارة اُخریٰ : إذا سئل عن الفقیه: «ما الدلیل علیٰ وجوبها؟» فلابدّ وأن یتمسّک بمثل ذلک، فما هو المبحوث عنه هنا لیس بحثاً فقهیّاً، وإن کان ظاهر عنوان القوم یوهم ذلک. ولکنّک عرفت: أنّ عنوان البحث ما ذکرناه: وهو أنّه إذا أوجب الشرع شیئاً، فهل تکون مقدّماته مرادة، أم لا؟ وهذا معناه أنّه هل العقلاء والعرف، یرون الملازمة حتّیٰ یحکموا بوجود اللاّزم، أم لا؟ فلیتدبّر.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 8 أم هی من المسائل الاُصولیّة، کما هو المشهور بین أبناء التحصیل، والمعروف بین أهل النظر؛ معلّلین: «بأنّ میزان المسألة الاُصولیّة منطبق علیها؛ لوقوعها فی طریق استنباط الحکم الکلّی الفرعیّ».
أو هی مسألة فلسفیّة ، وجوه وجهات .
فبالجملة : یدور الأمر بین المسلکین؛ فإن قلنا: بأنّ موضوع العلم هی الحجّة فی الفقه والدلیل علیه، ومسائله متقوّمة بتشخیص تعیّنات تلک الحجّة ومصادیقها، فالبحث عن هذه المسألة یکون من المبادئ التصدیقیّة.
وإن قلنا : بأنّ موضوع العلم ما یمکن أن یقع ... إلیٰ آخره، ومسائله کذا، فالمسألة من مسائل الاُصول، فتکون النتیجة تابعة لبحث آخر.
والذی عرفت منّا : أنّ هذه المسألة من المبادئ ، إلاّ أنّه بعد الفراغ عن الملازمة یقع عنوان الملازمة من مصادیق الحجّة وتعیّناتها؛ بمعنیٰ أنّ أحد المتلازمین حجّة علی الآخر، فتدبّر.
ثمّ إنّ الظاهر من کتب القدماء کـ «العدّة» وکتاب أبی الحسین البصریّ: أنّ المسألة لفظیّة. وبناء المتأخّرین علیٰ أنّها عقلیّة صِرفة ومحضة، أو عقلائیّة، غیر دخیل فیها اللفظ.
وما یتمسّک به من الدلالة الالتزامیّة علیٰ وجود تلک الإرادة، غیر واقع فی
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 9 محلّه، کما أوضحه السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه .
وعلیٰ کلّ تقدیر : تختلف الأدلّة القائمة، ولو کان الاستدلال میزان اللفظیّة والعقلیّة، فهی مسألة عقلیّة، وعرفیّة، ولفظیّة، فتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 10