شبهة قویّة علیٰ إدراج المقدّمة المتأخّرة فی محل البحث
إذا تبیّن لک محطّ البحث؛ وحدود النزاع فی بحث مقدّمة الواجب، فإدراج المقدّمة المتأخّرة فی محلّ البحث مورد الشبهة عقلاً، کما عرفت الشبهات الکثیرة فی إدراج کثیر من المقدّمات فی حریم النزاع، وتلک الشبهة هنا قویّة؛ وذلک لأنّ العقل البدیهیّ حاکم: بأنّ کلّ شیء تکوینیّاً کان أو اعتباریّاً، إذا فرض معلولیّته لشیء آخر، فلابدّ من تمامیّة أجزاء العلّة وشرائطها فی الرتبة السابقة، حتّیٰ یتحقّق المعلول، وإلاّ یلزم الخلف، ویقع التناقض فی الاعتبار، فإنّه کیف یمکن القول: بأنّ صوم المستحاضة قبل مجیء الأغسال اللیلیّة، صحیح بالفعل، وقد سقط أمره کسائر المرکّبات الاعتباریّة، ومع ذلک مشروط بشرط مستقبل؛ وهی تلک الأغسال؟!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 36 أو کیف یمکن دعویٰ: أنّ عقد الفضولیّ قبل لحوق الإجازة، أثّر أثره، وانتقل الملک إلیٰ صاحبه واقعاً وثبوتاً، ومع ذلک تکون الإجازة شرطاً دخیلاً فی ذلک؟!
فإذا لایعقل ذلک، لایعقل ترشّح الإرادة الغیریّة إلیها، ولذلک أصبحت الأصحاب ـ رضوان الله علیهم ـ صرعیٰ وحیاریٰ، وکلّ أخذ مهرباً.
فمنهم : من أنکر أصل الشرطیّة .
ومنهم : من تصرّف فی معنی «الشرط».
ومنهم : من خرج عن أصل الشبهة غفلة واشتباهاً.
ومنهم : من تصرّف فیما هو الشرط.
ومن بینهم من تصدّی لحلّ هذه المعضلة، ونشیر إلیها إجمالاً:
فأمّا من أنکر أصل الشرطیّة، فهو فی راحة، وجوابه فی الفقه.
وأمّا من خرج عن الخصوصیّة فی المسألة، فهو العلاّمة النائینیّ، فإنّه قدس سره اعتبر المتأخّر شرطاً، لا الشرط متأخّراً، فقال: «هذا المتأخّر الذی هو الشرط کأجزاء المرکّب الداخلیّة، فکما تکون صحّة الرکعة الاُولیٰ مشروطة بالأخیرة، وبإتیانها یصحّ الکلّ، کذلک الأمر هنا».
وأنت خبیر : بأنّ الإعضال فی المقام، ناشئ من القول بالصحّة الفعلیّة للمتقدّم؛ وأنّ صومها صحیح فعلیّ إذا کان الغسل فی ظرفه موجوداً، لا الصحّة التأهّلیة والمراعاتیّة، وأنّ العقد صحیح فعلیّ مؤثّر من الأوّل؛ إذا کان بحسب الثبوت یلحقه الإجازة، لا تأهّلاً، وإلاّ فهو أمر واضح الإمکان، ورائج الوقوع.
وأمّا من تصرّف فی معنی «الشرط» فهو العلاّمة الأراکی رحمه الله وملخّص ما
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 37 أفاده مراراً، وبنیٰ علیه المسائل العلمیّة، وبه انحلّ عنده العویصات والشبهات: أنّ الشرط لیس جزءً دخیلاً فی الأثر، وإن اُطلق علیه فی بعض الأحیان فهو هنا غیر مقصود، بل الشرط هو طرف ما یحدّد المقتضی، وطرف ما یحصل به الخصوصیّة اللاّزمة لتأثیر المقتضی أثره.
وبعبارة اُخریٰ : لا معنیٰ لتأثیر طبیعیّ النار فی طبیعیّ القطن، ولا لطبیعیّ الصلاة فی طبیعیّ القرب، أو فی سقوط الأمر، بل کما فیالتکوین یکون النار بحصّتها الخاصّة مؤثّرة، کذلک الصوم والصلاة بحصّتهما الخاصّة مؤثّران، وکما أنّ تلک الخصوصیّة تحصل للنار من الإضافة إلی القطن، وتحصل المماسّة التی هی شرط التأثیر للمقتضی، ولیس هو من أجزاء العلّة، کذلک تحصل الخصوصیّة التی بها یکون العقد صحیحاً، والصوم صحیحاً بالإضافة، وأمّا هذه الخصوصیّة فکما تحصل من الإضافة إلی المقارن والمتقدّم والمتأخّر فی التکوین، کذلک الأمر فی التشریع.
أقول : قد مرّ منّا ما هو الجواب عن مقالته، وإجماله أوّلاً : أنّه فی التکوین أیضاً، لایعقل حصول الإضافة الفعلیّة من الطرف المعدوم الفعلیّ.
وثانیاً : أنّ الاُمور التکوینیّة الخارجیّة، تکون المؤثّرات فیها والمتأثّرات بها تابعة للوجود، وهو لایکون طبیعیّاً، فلابدّ من الشخصیّة الخارجیّة حتّیٰ یحصل الأثر.
وهذا فی الاعتباریّات التی تکون اُموراً کلّیة ومفاهیم خالیة من الشخصیّة، غیر معقول، بل التحصّص لایعقل أن یحصل إلاّ بالتقیید، فإذا کان قید الکلّی والطبیعیّ فعلیّاً، فما هو منشأ هذا القید لایعقل معدومیّته، بل إذا لاحظنا نسبة القید إلیٰ ماهو منشأه، فهو یکون بالعلیّة، فکیف یمکن تأثیر المعدوم فی الموجود، أو حصول المعلول قبل علّته؟!
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 38 ولعمری ، إنّ ما کان یفیده فی هذه المقالة، غیر ما استفاد منها بعدها، فإنّ ما تفیده هو أنّ التحصّص، لایعتبر أن یکون بالتقیید، کما نریٰ فی التکوین، وإلاّ یلزم تقیّد العلّة بالمعلول فی التأثیر، وهو دور واضح. وهذا صحیح.
وأمّا ما استفاده منها: فهو أنّ هذا التحصّص یحصل بالإضافة إلی المتأخّر والمتقدّم، ویکون هذا جاریاً فی الاعتباریّات. وهذا غیر صحیح جدّاً، کما عرفت تفصیله.
وأمّا من تصرّف فیما هو الشرط فهم جماعة :
أحدهم : الفاضل الخبیر صاحب «الفصول» رحمه الله فقال: «إنّ الشرط هو عنوان التعقّب بالأغسال، أو الإجازة».
وثانیهم : العلاّمة صاحب «الکفایة» رحمه الله فقال: إنّ الشرط هو الإضافة إلی المتأخّر، فإنّ الأشیاء تختلف حسب اختلافات الإضافة فی الحسن والقبح، فلا منع من اتصاف المتقدّم بالحسن إذا اُضیف إلی المتأخّر، فیکون سبب الحسن هی الإضافة إلی المتأخّر، فما هو القرین مع المتقدّم ـ وهو الإضافة ـ شرط. هذا هو ثمرة کلامه، وإن لایخلو عباراته من التأسّف. ولعلّ إلیه یرجع کلام العلاّمة الأراکیّ أیضاً کما لایخفیٰ. کما أنّ هذا مأخوذ أیضاً ممّا سبق من «الفصول» فلاتغفل.
وأنت خبیر : بأنّ الإضافة الفعلیّة لاتحصل مع انعدام الطرف؛ فإنّ المتضایفین متکافئان وجوداً وفعلیّة وقوّة وهکذا. هذا مع أنّ الشرط هو الغسل والإجازة حسب الدلیل.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 39 وتوهّم : أنّ الإضافة تحصل من لحاظ الإجازة المتأخّرة، والتعقّب یوجد بلحاظ الغسل، فهو أفحش؛ لأنّه یرجع إلیٰ إسقاط الشرطیّة، لأنّ لحاظ الغسل المتأخّر، لایستلزم إیجابه ووجوبَ الإتیان.
فبالجملة : لا شبهة فی مدخلیّة المتأخّر فی الجملة ولو للعنوان الفعلیّ المقترن، وهذا بعد کونه معدوماً غیر ممکن.
ولعمری، إنّ هذا الخلط قد وقع فی کلام جملة منهم، زاعمین أنّ الإضافة قلیلة المؤونة، أو غافلین عن أنّ طرف الإضافة لیس أمراً ذهنیّاً، مع أنّ طرفها الآخر خارجیّ؛ وهو الفعل الذی اُتی به. مع أنّ الذهنیّة المحضة لاتکون شرطاً.
نعم، ربّما یخطر بالبال دعویٰ : أنّ مقصودهم أنّ الشرط مقارن، وهو الأمر المعتبر وصفاً للفعل؛ وهو العقد والصوم، وذلک الأمر عنوان «التعقّب» أو غیر ذلک، وهذا العنوان متقوّم بالطرف، ویکفی لذلک کونه أمراً ذهنیّاً، ولکن لا مجرّد الذهنیّة، بل الصورة الذهنیّة الحاکیة عن الخارج التی تصیر صادقة، ویتحقّق محاکاه بعد ذلک.
وأنت خبیر : بأنّ عنوان «التعقّب» لایعقل أن یحصل من الإضافة إلی الطرف المقارن ولو کان ذهنیّاً، بل هو متقوّم بالمتأخّر، فیکون الطرف ما فی الخارج، وهو معدوم. وکلام «الکفایة» صریح فی إفادة أنّ الإضافة إلی المتأخّر، تورث الحسن للمتقدّم، وهذا أیضاً غیر تامّ.
نعم، إن قلنا : بأنّ الشرط هو المقارن مع الصورة الذهنیّة، الذی تعقّبته الأغسال اللیلیّة والإجازة مثلاً، فهذا أقلّ محذوراً ممّا اشتهر فی کلماتهم. ولکنّه خلاف الأدلّة إثباتاً، ویلزم بناءً علیه بطلان صوم المستحاضة إذا کان بناؤها علیٰ عدم الإتیان بالأغسال اللیلیّة، والالتزام بذلک مشکل إلاّ من جهة الإخلال بقصد القربة. وهکذا یلزم بطلان عقد الفضولیّ الصادر من الغاصب البانی علیٰ عدم إلحاق
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 40 الإجازة، فلاحظ وتدبّر جیّداً.
وأمّا من تصدّیٰ لتصویر الشرط المتأخّر من غیر التصرّف فی الشرط، ومن غیر الخروج عن محلّ البحث، مع عدم الذهول عن أنّ الإضافة إلی المتأخّر غیر معقولة، فهو الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فقال:
«إنّ للحقائق المتصرّمة الخارجیّة ـ کالزمان والحرکة، بما أنّها متصرّمة ومتقضّیة الذات ـ أجزاء طولیّةً قهراً، وتکون تلک الأجزاء بعضها متقدّماً علی الآخر، لا بالتقدّم العنوانیّ، ولا بالتقدّم الإضافیّ والاعتباریّ، بل هذا هو المعبّر عنه بـ «واقع التقدّم» فإنّه لایمکن إنکار ذلک وجداناً؛ فإنّ الیوم متقدّم علی الغد، لا بمفهوم «التقدّم» حتّیٰ یلزم انخرام القاعدة العقلیّة: «وهی أنّ المتضایفین متکافئان قوّة وفعلاً» بل الیوم له التقدّم الذاتیّ وبالذات علی الغد؛ سواء لوحظ ذلک، أم لم یلحظ. هذا فی نفس أجزاء المتدرّج الذاتیّ.
وأمّا الحوادث الواقعة فی اُفق الأزمنة، فلها أیضاً هذا النحو من التقدّم والتأخّر بالتبع، وتصیر حینئذٍ الحوادث الواقعة فی هذا الزمان مثلاً متقدّمة بواقع التقدّم ـ لا بمفهومه الإضافیّ ـ علی الحوادث الآتیة.
إذا تبیّن لک ذلک تقدر علیٰ حلّ المعضلة؛ لأنّ هذا المعنی الواقعیّ لایکون موجوداً بواقعیّته التقدّمیة إلاّ إذا لحقه المتأخّر، فإن جاءت الإجازة والأغسال اللیلیّة، یکون العقد والصوم مقدّماً علیهما بواقع التقدّم، وإلاّ فلا یکونان متقدّمین بهذا المعنی من التقدّم؛ من غیر لزوم تأثیر المعدوم المتأخّر فی الموجود المتقدّم، بل هذا أمرحاصل من طبع الزمان والزمانیّ؛ لما فیه من التصرّم الذاتیّ الذی عرفت معناه».
أقول : لو کان التقدّم والتأخّر بالمعنی المزبور ذاتیّین، یلزم کون الشیء الواحد ذا ذاتین متخالفتین؛ فإنّ الیوم ذاتیّه التقدّم علی الغد، وذاتیّه التأخّر عن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 41 الأمس، وقد صرّح بهذا الذاتیّ مراراً. وکیف یمکن أن یقال: بأنّ الحادث فی الیوم له التقدّم الواقعیّ علی الحادث فی الغد، ولیس له التقدّم الواقعیّ علیٰ ما لم یحدث فی الغد، ولایحدث فیه؟! مع أنّ التقدّم لو کان ذاتیّاً فلاتفکیک.
وبالجملة : عنوان «الذاتیّ» هنا اُطلق علی الذاتیّ فی باب البرهان؛ وهو خارج المحمول، وإذا کان التقدّم بواقع التقدّم تقدّماً بالذات، فیعتبر منه هذا العنوان، سواء کان شیء، أو لم یکن. وإذا قطعنا النظر عن عنوان «الذات» و «العرض» ونظرنا إلی الواقعیّات، فلا یکون هناک خارج المحمول وذاتیّ باب البرهان، ولایحکم هنا إلاّ علیٰ شیء متقضّی الذات، ومتصرّم الوجود، ولایکون تقدّم، ولا تأخّر، بل هناک أمر عینیّ؛ وهو الزمان والحرکة.
وما تریٰ فی الکتب العقلیّة: من التعبیر بـ «واقع التقدّم» اُرید منه ماهو الأمر الخارجیّ المتصرّم، وإلاّ فبمجرّد توجیه اللحاظ إلیٰ ما وراء التکوین من العناوین الاُخر، یلزم ما لا یلتزم به الخبیر البصیر.
ثمّ إنّ ما سلکه غیر موافق للفقه؛ لأنّ الظاهر أنّ المتأخّر دخیل فی التأثیر، لا أنّ العقد والصوم المتقدّمین بواقع التقدّم، تمام الموضوع للحکم بالصحّة، فتدبّر.
وأمّا التمسّک بذیل العرف؛ بأنّ هذه العناوین ـ کـ «التقدّم، والتأخّر، والتعقّب» ـ من الانتزاعیّات عن المتدرّجات کالزمان، وعن الزمانیّات بالتبع، فهو لحلّ معضلة انخرام القاعدة العقلیّة: «وهی أنّ المتضایفین متکافئان قوّةً وفعلاً» ممّا لا بأس به، ولکنّه خلاف الظواهر من دخالة التأخّر اعتباراً فی النقل والصحّة، ومن أنّ نفس الإجازة والأغسال اللیلیّة شرط، لا العناوین الانتزاعیّة بالانتزاعات العرفیّة؛ حتّیٰ یسامح عقلاً فی ذلک.
بقی شیء : وهو أنّ من الاُمور الاعتباریّة بید المعتبرین سعةً وضیقاً، وأنّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 42 الملکیّة منها، وأنّ نسبة العقد إلی الملکیّة نسبة الموضوع إلی الحکم، ولا علّیة فی البین، فلا منع من اعتبار الملکیّة عند تحقّق عقد الفضولیّ إذا کان یتعقّب بالإجازة، فلا إطلاق، ولا تقیید، بل هناک التزام بأمرین، أحدهما: حصول الملکیّة من الأوّل بموضوعیّة عقد الفضولیّ، ولکن إذا کان هذا متعقّباً بالإجازة، فلا یقیّد بالمفهوم الإضافیّ حتّیٰ یلزم الإشکال.
وأنت خبیر : بأنّ مثل هذا لایورث انحلال الشبهة فی الصوم؛ فإنّ الصوم الذی أراده المولیٰ إذا کان صحیحاً، فینتهی أمد الإرادة، وهذا أثر تکوینیّ من الصحّة الاعتباریّة، فکیف یعقل تحقّق الأمد، وانتهاء الإرادة قبل حصول الأغسال الدخیلة؟!
مع أنّ انقلاب عنوان الإضافة إلی القضیّة الشرطیّة، یستلزم عدم انخرام قاعدة «أنّ المتضایفین متکافئان» ولا یستلزم عدم انخرام قاعدة «أنّ المتأخّر لایعقل کونه دخیلاً فی صحّة المتقدّم» وهذا فیما نحن فیه معناه ذلک؛ لأنّ العقد المتقدّم إن أثّر أثره، ولا قید له رأساً بنحو السالبة المحصّلة، فلا وجه للزوم لحوق الإجازة. وإن کان هناک حالة انتظاریّة، فیلزم تدخّل المتأخّر فی المتقدّم. وهذا أشد إشکالاً، وأصعب علی المتأخّرین من انخرام القاعدة الاُولیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 43