الجهة الخامسة : فی إشکالات الطهارات الثلاث
قد أشکل الأمر فی الطهارات الثلاث من نواحٍ ثلاث :
الناحیة الاُولیٰ : فی أنّها کیف تکون ذوات مثوبات، مع أنّها واجبات غیریّة، وقد تقرّر: أنّ الوجوب الغیریّ لایثاب علیه، ولایعاقب علیٰ ترکه.
والجواب والحلّ : أنّ من الممکن دعویٰ أنّها ذوات أوامر نفسیّة استحبابیّة، ولاتکون المثوبة إلاّ لأجلها ، لا لأجل الأوامر الغیریّة. هذا أوّلاً.
وثانیاً : قد عرفت أنّ الثواب إذا کان بعنوان الجعالة، کما هو رأی المتشرّعة، فلایلزم کون ما یثاب علیه واجباً نفسیّاً؛ ومورد الأمر أصلاً، بل یمکن جعل الثواب علی التوصّلیات، وعلیٰ بعض الأفعال وإن لم یکن مأموراً به، کما فی مثل جعل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 168 الجعالة فی عقد الجعالة، فإنّ من یردّ عبده الضالّ یستحقّ الأجر من غیر صدور الأمر من قبل الجاعل، کما لایخفیٰ.
وثالثاً : أنّ الثواب ربّما یترتّب علیٰ کیفیّة النیّة، فإذا نوی العبد من الطهارات الثلاث قصد التوصّل إلی المحبوب النفسیّ، فقد أتیٰ بما یکشف عن حسن سریرته، وقیامه بالوظائف، وهذا کافٍ عند العقلاء لاستحقاق المثوبة أو التفضّل علیه. فلو أشکل الأمر فی التیمّم: بأنّه لیس من المستحبّات النفسیّة، فیکون هذا وجه انحلال الإشکال فیه؛ بناءً علیٰ کون مناط الثواب إبراز قصد الإطاعة ولو للأمر المتعلّق بذی المقدّمة.
نعم، یشکل حلّ الإعضال بناءً علیٰ کون الثواب من آثار امتثال الأمر النفسیّ، ومع ذلک یثاب علی الطهارات الثلاث إذا أتیٰ بها المکلّف امتثالاً للأمر الغیریّ؛ بناءً علیٰ ثبوته، وثبوت الملازمة وصحّتها، کما نسب إلی المشهور.
وغایة ما یمکن تخیّله هنا : هو أنّ الأمر النفسیّ متعلّق بالطهارة بما هی هی، والأمر الغیریّ أیضاً متعلّق بما هی مقدّمة بذاتها، لا بعنوان آخر منطبق علیها، فیجتمع الأمر الندبیّ القربیّ، والوجوبیّ التوصّلی، وحیث لایعقل بقاؤهما علیٰ حالهما؛ لامتناع اجتماعهما مع وحدة المتعلّق، فلابدّ من تساقطهما، وثبوت الأمر الواحد القربیّ اللزومیّ، وهذا أمر یحصل من الفعل والانفعال بین الأمرین، کما فی موارد النذر والاستئجار وغیرهما، فیصحّ الوضوء، ویثاب علیه، وتکون الصحّة لأجل امتثال الأمر الغیریّ، فینحلّ الإشکال والإعضال.
وهذا هو الذی یظهر من العلاّمة النائینیّ فی بعض المواقف.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 169 وفیه : بعد الغضّ عمّا فیه من الإشکالات، یلزم کون ثواب الأمر الواجبیّ والمستحبّی واحداً، وهذا خلاف المفروض، بعد الغضّ عن أنّ المفروض ترتّب الثواب علی الأمر الغیریّ، لا النفسیّ القربیّ الوجوبیّ، فلاینحلّ به الإشکال فی مفروض المسألة.
وأمّا الإشکالات التی ترد علیه فهی کثیرة، وإجمالها: أنّ الأمر النفسیّ لایتعلّق بالذات الخالیة عن قید القربة؛ لما تقرّر من إمکان ذلک فی محلّه؛ وأنّ الأمر الغیریّ یتعلّق بما هو الموقوف علیه، لا بما هو الذات، فلایتّحد المتّعلقان حتیٰ یسقط الأمران ولو تعلّق الأمر النفسیّ بعنوان «الوضوء» ولکن الأمر الغیریّ یتعلّق بعنوان «الوضوء القربیّ» لأنّه هو المقدّمة، لا الذات، فلایدعو إلاّ إلیٰ ماهو الشرط.
الناحیة الثانیة : قد اشتهر جواز إتیان الطهارات الثلاث للأمر الغیریّ، مع أنّه قد تقرّر: أنّ الأمر الغیریّ توصّلی، لا تعبّدی، فکیف یمکن تصحیح تلک الطهارات المأتیّ بها لأجل الأوامر الغیریّة المتعلّقة بها؟!
وأمّا ما أتیٰ به «الکفایة»: «من أنّ الأمر الغیریّ یتعلّق بما هی عبادة، ویدعو إلی الإتیان بالطهارات امتثالاً لأمرها» فهو مضافاً إلی الخلف ـ وهو أنّ المشهور قالوا بصحّة الوضوء المأتیّ به للأمر الغیریّ، مع الغفلة عن الأوامر النفسیّة ـ أنّ الأمر الغیریّ إذا تعلّق بالوضوء القربیّ، فإن انبعث المکلّف نحو الوضوء بالأمر النفسیّ، فهو خلف؛ لأنّ المفروض انبعاثه بالأمر الغیریّ.
وإن انبعث بالأمر الغیریّ نحو الوضوء، فلایعقل کون الأمر النفسیّ داعیاً إیّاه
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 170 2نحوه؛ ضرورة أنّ الحرکة التی تحصل فی عضلات العبد، لایمکن أن تکون مستندة إلی الأمر النفسیّ لأجل الأمر الغیریّ، بل هو یتحرّک بالأمر الغیریّ، ویکون الأمر النفسیّ مخطوراً بباله، لا باعثاً إیّاه نحو الوضوء والغسل والتیمّم.
والعجب أنّ الأصحاب المتأخّرین، غفلوا عن هذه النکتة، حتّی الوالد المحقّق ـ مدّظلّه وتوهّم صحّة ما فی «الکفایة»!! مع أنّه واضح الفساد؛ بداهة أنّ المکلّف لو کان ینبعث عن الأمر، فلاینبعث إلاّ عن الأمر الواحد، أو المجموع عرضاً، لا طولاً، وفیما نحن فیه أرادوا إثبات انبعاثه عن الأمرین الطولیّین، وهذا واضح المنع.
وأمّا طولیّة الأمرین فواضحة؛ لأنّ الأمر الغیریّ یدعو إلی الوضوء المأمور به بالأمر الموجود بالحمل الشائع، والأمر النفسیّ یدعو إلی الوضوء المقیّد امتثاله بامتثال الأمر المتعلّق به، ولکنّه أمر بالعنوان المأخوذ فی المتعلّق، لا بالحمل الشائع، فلاینبغی الخلط بین المسألتین : الطولیّة، والعرضیّة.
والذی هو الجواب : أنّ الأمر لایکون تعبّدیاً، ولا توصّلیاً، بل التعبّدیة والتوصلیّة من أوصاف المتعلّقات، کما تحرّر تفصیله هناک. وأمّا مناط التعبّدیة والتوصلیّة، فهو یعلم من الشرع أحیاناً، ومن العرف نوعاً. وقد عرفت منّا: أنّ العابدین للأوثان والأصنام کانوا مشرکین فی العبادة، مع عدم وجود أمر فی البین، وقد نهی الشرع الأقدس عن عبادتهم للأوثان.
فالأفعال التی تصلح للعبودیّة، أو تکون صالحة من قبل الشرع لأن یؤتیٰ بها عبادة، لیست متعلّقة للأمر العبادیّ، بل الأمر یدعو الناس إلی الإتیان بها للتقرّب بها منه تعالیٰ، وتکون الأوامر الشرعیّة کواشف عن تلک الصلاحیة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 171 وفیما نحن فیه استکشفنا صلاحیة الطهارات الثلاث لذلک من الإجماع والأدلّة الخاصّة مثلاً، فإذا انبعث العبد من الأمر الغیریّ نحوها، فلایکون هذا الانبعاث مضرّاً بعبادیّتها، إن لم یکن مؤکّداً لها، وکانبعاث تارک الصلاة من أمر الآمر بالمعروف نحوها، فإنّه لایضرّ بعبادیّتها، وإلاّ یلزم کونه أمراً بالمنکر، لا بالمعروف کما لایخفیٰ.
فلو کانت عبادیّة الطهارات الثلاث بالأوامر الغیریّة، یلزم الإشکال المزبور، وإلاّ فلا إشکال من رأس.
ثمّ إنّ هنا أجوبة اُخریٰ حلاًّ للإعضال السابق، لا خیر فی التعرّض لها، ولکن نشیر إلیها إجمالاً:
الأوّل : ما عرفت من العلاّمة النائینیّ فی الناحیة الاُولیٰ من الفعل والانفعال المتخیّلین بین الأمر النفسیّ والغیریّ، وقد عرفت ما فیه بما لا مزید علیه، مع أنّه لا بأس بالالتزام بسقوط الأمرین: النفسیّ، والغیریّ، وإبقاء المطلوبیّة الذاتیّة الکافیة للعبادیّة.
والثانی : أیضاً منه، وهو من الغرائب؛ ظنّاً أنّ المقدّمات الداخلیّة والخارجیّة، مورد الأوامر الضمنیّة النفسیّة، وقد مرّ ما فیه بناءً ومبنی؛ وأنّ الأوامر الضمنیّة ممّا لا أساس لها حتّیٰ فی الداخلیّة، فضلاً عن الخارجیّة.
والثالث : أنّ الأمر الغیریّ إذا کان باعثاً نحو الشیء، ویکون المکلّف منبعثاً به نحو المقدّمة، یکون عبادیّاً؛ لأنّ المراد من العبادیّة لیست إلاّ الامتثال، فإذن یحصل
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 172 المطلوب؛ وهی صحّة الطهارات الثلاث عبادةً.
وهذا هو الذی ربّما یکون أقوی الأجوبة فی المسألة، بعد عدم وجود برهان علیٰ میزان التعبّدیة والتوصلیّة، حتّیٰ یقال: بقیام الإجماع علیٰ توصلیّة الأوامر الغیریّة، بل المکلّف إذا أتیٰ للأمر الغیریّ ـ بمعنی أنّه انبعث نحوها به ـ فقد أتیٰ بما هو العبادة والتقرّب به إلی الله تعالیٰ.
وبعبارة اُخریٰ : عبادیّة الشیء کما تکون بکشف الشرع المقدّس صلاحیة الفعل للتعبّدیة وإن لم یکن أمر فی البین، یمکن أن تکون لأجل الانبعاث والامتثال، کما هو کذلک عند العرف والعقلاء.
وهنا شقّ ثالث : وهو تطبیق عنوان حسن عقلیّ أو عقلائیّ علیه، والإتیان به، کما فیما نحن فیه إذا أتیٰ بها لأجل المطلوب الأعلیٰ والمحبوب الذاتیّ المتقوّم به، وإن لم یکن هناک أمر غیریّ من رأس.
والرابع : ما أفاده العلاّمة الأراکی رحمه الله: «وهو أنّ الإرادة الغیریّة تنبسط علیٰ ذوات هذه الأفعال، وعلیٰ قید الدعوة، فإذا انبسطت علی المجموع المرکّب من الأمر الذهنیّ والحرکات الخارجیّة یأخذ کلٌّ نصیبه، ویصیر واجباً ضمنیّاً. إلاّ أنّ الإرادة المنحلّة إلی الإرادتین، تکون علی الانحلال الطولیّ، لا العرضیّ؛ وذلک بطولیّة متعلّقهما، حیث إنّ نسبة قصد الدعوة إلی الأجزاء الخارجیّة، نسبة العرض إلی الموضوع، فیکون الانبعاث نحو الخارج من الأمر المتعلّق به، والانبعاث من الانبعاث عن هذا الأمر من الأمر الغیریّ، وماهو مصحّح عبادیّة الذوات الخارجیّة هو الأمر الأوّل، وماهو الموصوف بالوجوب الغیریّ هو المجموع المرکّب».
وأنت بعدما أحطت خبراًبما أسمعناک حول مقالة «الکفایة» من الامتناع العقلیّ
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 173 فی الانبعاث الطولیّ، لا الإرادة الطولیّة، تعرف أنّه لاینحلّ بذلک تلک المعضلة.
وإجماله : أنّ المکلّف بحسب اللبّ والواقع، یکون متحرّکاً نحو الوضوء بالأمر الغیریّ، ویخطر بباله الأمر المتعلّق بذوات الأفعال، ولایکون تحرّکه نحو الأفعال لأجل الأمر الغیریّ، وإلاّ لو کان الأمر الغیریّ محرّکاً إیّاه، لکان یتحرّک من غیر الحاجة إلیٰ تصوّر الأمر الغیریّ.
فبالجملة : لو کان التحرّک أحیاناً مستنداً إلی الأمر، لا إلی المبادئ النفسانیّة، فما هو المحرّک هو الأمر الغیریّ، ولایعقل التحریک إلی التحرّک من التحریک الآخر؛ فإنّ التحرّک الذی یحصل له فی الخارج، لایکون إلاّ واحداً، وهو معلول الأمر الغیریّ، لا النفسیّ الندبیّ.
نعم، لو أمکن کون المکلّف متحرّکاً بتحرکین، کان لما قیل وجه، ولکنّه ممتنع بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 174