المبحث الأوّل : حول الأدلّة المستدلّ بها علیٰ وجوب الموصلة
غیر ما مرّ من الدلیل الوحید الفرید:
منها : ما نسب إلیٰ «الفصول»: «من أنّ للآمر أن یصرّح بعدم إرادة غیر الموصلة، وهذا کاشف عن عدم وجود الملاک فی المطلقة، وله أن یصرّح بإرادته الموصلة لاغیر، فیکون فیها الملاک والمناط».
وقد أورد علیه صاحب «الکفایة» : «أنّ فیما أفاده جزافاً صرفاً؛ لعدم جواز تصریحه بذلک بعد کون الملاک هو التمکّن، وهو حاصل فی الموصلة وغیرها».
والحقّ : أنّ ما أورده علیه غیر لائق للصدور منه؛ ضرورة أنّ العقول کلّها
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 210 علیٰ أنّ المطلوب والمحبوب، لیس الأعمّ، فلو کان المعروض أعمّ، فلابدّ وأن یکون لاقتضاء البرهان، لا الوجدان.
ولکن مع ذلک لایتمّ استدلال «الفصول» :
أمّا تصریحه : «بأنّ الواجب هی الموصلة» فلا منع لإمکانه.
وأمّا تصریحه : «بأنّ غیر الموصلة غیر مرادة، وأنّه لایرید المطلقة» فهو لازم أعمّ من أصل إرادة المقدّمة، ومن إرادة المقدّمة الموصلة، ولعلّه إذا صرّح بعدم إرادته غیر الموصلة، فهو لأجل عدم إرادة مطلق المقدّمة؛ موصلة کانت، أو غیر موصلة، فلابدّ من ضمّ أمر آخر إلیه حتّیٰ یتمّ الاستدلال، وهو التصریح بالموصلة، ونفی المطلقة معاً، حتّیٰ یستکشف.
وهذا فی الحقیقة لیس دلیلاً علیٰ حدة؛ لأنّ منشأ صحّة الاستدلال المزبور، ما مرّ من الوجدان والبرهان علی الموصلة.
ومنها : أنّ الوجدان شاهد علیٰ أنّ الإنسان إذا اشتاق إلیٰ شیء، فیشتاق إلیٰ مقدّماته التی توصله إلیٰ ما أراده واشتاق إلیه، فلایشتاق إلی الطبیب إلاّ فی صورة تنتهی إلی التداوی، لا لزیارة البیت ونحوه.
وأورد علیه فی «الکفایة» : «بأنّ الغایة من الإیجاب لیست إلاّ التمکّن، وهو حاصل».
والذی یظهر لی : أنّ أدلّة «الفصول» واهیة؛ لرجوعها إلیٰ أمر واحد، ومناقشات «الکفایة» أوهن منها؛ لرجوعها إلیٰ شیء فارد: وهو أنّ الموصلة لیست
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 211 مقدورة، وما هو المقدور هی المطلقة؛ فإنّ المکلّف بالمقدّمة الاُولیٰ یتمکّن من الثانیة، وبالثانیة من الثالثة، فما هو معروض الوجوب، ما یحصل منه تمکّنه بالنسبة إلیٰ ذی المقدّمة، فلاتکون الموصلة من الأوّل معروض الوجوب، فما هو من الأوّل مورد تعلّق الإرادة الثانیة، هی المقدّمة الاُولیٰ، وهی بوحدتها لیست موصلة، وکان فی ذهنه الشریف ذلک، فناقش فی الوجدانیّات.
وأنت خبیر : بأنّ القدرة علی المکلّف به، موجودة من الأوّل بالقدرة علیٰ مقدّماته الکثیرة، وهذه القدرة هی مصحّحة التکلیف بالنسبة إلی المعلول، من دون علّته وأسبابه وعلله وشرائطه، فإنّها کلّها لیست مورد التکلیف.
مثلاً : إذا علمنا بأنّ الدخول فی دار زید، یلازم الإکراه علیٰ شرب الخمر، فهل یتمکّن عاقل من تجویز ذلک؛ مستدلاًّ: بأنّ ماهو مورد القدرة هی المقدّمة المطلقة، وهی لیست محرّمة، وماهو المحرّم هو الشرب، وهو لیس مقدوراً مثلاً؛ لأنّه مکره علیه، فیکون معذوراً فی الارتکاب؟!
فإذن تبیّن : أنّ ماهو ملاک التکلیف بذی المقدّمة، هی القدرة علی المقدّمة، والقدرة علیها حاصلة. وکان ینبغی أن نذکر ذلک من المحاذیر فی المسألة، ولکنّه لکونه أکثر نفعاً ذکرناه هنا.
ومنها : ما نسب إلی السیّد الیزدیّ صاحب «العروة» قدس سره: «وهو أنّ العقل یرخّص فی تحریم المقدّمة غیر الموصلة، مع أنّه یستحیل تحریم مطلق المقدّمة الأعمّ من الموصلة وغیرها، وهذا دلیل علیٰ أنّ الواجب هی الموصلة لاغیر».
وقد أورد علیه صاحب «الکفایة»: «بأنّ المقدّمات غیر المباحة خارجة من محلّ البحث، فعدم اتصاف المحرّمة بالوجوب الغیریّ؛ لأجل وجود المانع، لا لعدم المقتضی، فتحریم المقدّمة غیر الموصلة، لا یدلّ علیٰ أنّ الموصلة واجبة، بل للشرع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 212 تحریم بعض الموصلات، وهذا دلیل علیٰ أنّ محلّ البحث هی المقدّمات المباحة.
فبالجملة : لایکون عدم اتصاف غیر الموصلة بالوجوب الغیریّ فی المفروض من المسألة؛ لأجل أنّ ملاک الوجوب هو التوصّل، بل ملاک الوجوب هو التمکّن، وفی هذا الفرض لاتوصف بالوجوب الغیریّ؛ لوجود المانع وهی الحرمة .
أقول : هذا غیر وجیه؛ لأنّ معروض الوجوب لیس عین معروض الحرمة، حتّیٰ تمنع الحرمة عن عروض الوجوب؛ ضرورة أنّ ما أوجبه الشرع هو عنوان «الموصلة» مثلاً، وما حرّمه هو عنوان «الدخول فی الأرض المغصوبة» سواء کانت المطلقة، أو الموصلة المنحصرة، أو غیر المنحصرة، فإذا قلنا: بأنّ تعدّد العنوان کافٍ للالتزام بالحکمین المتنافیین، فلایلزم خروج المحرّمة عن محلّ النزاع.
هذا، ولو فرضنا أنّ الشرع حرّم عین العنوان المزبور، فإن قلنا: بأنّ الملازمة المدّعاة هی العقلیّة، فلا فرق عند العقل فی الکشف بین سبق الحرمة وعدمه؛ لأنّ للعقل کشف الوجوب الغیریّ علیٰ وجه یستکشف انتهاء أمد التحریم فی خصوص تلک المقدّمة.
وإن قلنا : بأنّها عقلائـیّة، فلخروج المقدّمات المحرّمة عن حریم النزاع وجه، وقد مرّ بعض الکلام حول هذه المسألة، فراجع.
فعلیٰ هذا، إذا حرّم الشرع المقدّمات غیر الموصلة بحسب الواقع، لاسبیل للعقل إلیٰ أن یکشف الوجوب الغیریّ المزاحم لها، فیعلم منه: أنّ الوجوب الغیریّ منحصر بالموصلة.
وبعبارة اُخریٰ : ما یمکن أن یکون محرّماً إمّا یکون غیر ماهو معروض
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 213 الوجوب الغیریّ عنواناً، فلا تزاحم؛ لما تقرّر فی محلّه من إمکان الاجتماع.
ولو کان عینه؛ بأن یکون المحرّم عین ما هو معروض الوجوب؛ إمّا لأجل اقتضاء لسان الدلیل فی الفرض ذلک، أو لأجل امتناع الاجتماع، فحینئذٍ نقول: إذا کانت الملازمة المدّعاة عقلیّة؛ وأنّ ملاک الوجوب هو التمکّن، أو التوقّف والتوصّل، أو الانتهاء کما جعلناه الملاک، فلا یعقل عدم ترشّح الوجوب إلیٰ ماهو أخصّ منه؛ لأنّه من قبیل تخصیص الحکم العقلیّ، وعند ذلک لابدّ من الالتزام بارتفاع المانع؛ وهی الحرمة، وهذا هو ینکشف بحکم العقل.
وإذا کانت الملازمة المدّعاة عقلائیّة، فلابأس بتخصیص مصبّ العروض؛ وإخراج المقدّمات المحرّمة عن حریم النزاع ، کما لایخفیٰ.
فتحریم الشرع المقدّمات غیر الموصلة، أو تحریمه الموصلة المعیّنة من الموصلات المتعدّدة، مع کون الملاک هو التمکّن أو التوصّل، غیر ممکن عقلاً. ولو صحّ ذلک فهو دلیل علیٰ عدم ثبوت الملازمة رأساً، کما یأتی.
فعلیٰ ما تقرّر انقدح: أنّ ما اشتهر بینهم من خروج المقدّمات المحرّمة عن حریم النزاع، غیر صحیح.
ثمّ بناءً علیٰ هذا، فهل یتمّ استدلال صاحب «العروة»؟ کلاّ؛ ضرورة أنّ ملاک الوجوب إن کان التمکّن، فیکشف عدم الحرمة بالنسبة إلیٰ غیر الموصلة.
وإن کان التوصّل، فیکشف أیضاً عدمها بالنسبة إلیٰ إحدی الموصلات.
وإن کان الانتهاء إلی الواجب؛ وهو التوصّل بالفعل، فیکشف عدم الحرمة فیما کانت محرّمة تلک الموصلة المنحصرة، فإنّ ماهو الموصل بالفعل لیس إلاّ واحداً، ولا یتعدّد. فینقلب النزاع إلیٰ ماهو الملاک، فلایکون ما ذکره وأفاده دلیلاً مستقلاًّ؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 214 لأنّه قدس سره کأنّه أخذ المدّعیٰ فی الدلیل؛ لما قال: «یجوز تحریم غیر الموصلة؛ لأنّ الملاک هو التوصّل» وهذا هو أوّل الکلام، فلاتخلط.
ثمّ إنّ من صاحب «الکفایة» یستظهر إشکال آخر منشأه بعض المحاذیر الآتیة للموصلة، فتفصیله هناک.
ولنا فی تقریب الإشکال الآخر بیان آخر: وهو أنّ تحریم المقدّمات غیر الموصلة، یستلزم عدم وجوب الموصلة؛ وذلک لأنّ الموصلة هی المرکّبة من المطلقة، وتکون المطلقة إحدیٰ أجزائها، فإذا کانت هی محرّمة شرعاً، فیستلزم عجز العبد عن الموصلة، فیسری عجزه إلی الواجب النفسیّ، فإذا سقط الوجوب النفسیّ، فلا وجوب غیریّ حتّیٰ یعرض الموصلة، فمن تحریم المطلقة یکشف عدم عروض الوجوب الغیریّ علی الموصلة.
والجواب : أنّ الجزء الأوّل من أجزاء المقدّمة الموصلة، یشکّ فی تعقّبه بسائر الأجزاء، فیشکّ فی حرمته؛ لأنّه من الشبهة الموضوعیّة للمقدّمة المطلقة، فیجوز أن یبتدر ویبادر إلیه، فإن أتیٰ ببقیّة الأجزاء بحسب الواقع، فقد اتصف بالموصلة، فلایکون محرّماً، وإلاّ فقد انکشف أنّه قد ارتکب المحرّم، ولکنّه معذور، فتحریم المطلقة لایستلزم عدم جواز صرف العبد قدرته فی الموصلة، فافهم واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 215