تذنیب آخر : فی تقدّم بعض المرجّحات علی البعض
إذا تزاحم الواجبان، وکان أحدهما مترجّحاً بأحد المرجّحات، والآخر بالاُخریٰ، فهل یکون بین المزایا امتیاز، أم لا فتصیر النتیجة التخییر؟
وقبل الخوض فی مثال ذلک لا بأس بالإشارة إلیٰ نکتة: وهی أنّ أحد المتزاحمین إذا کان مقیّداً بالقدرة الشرعیّة، والآخر بالقدرة العقلیّة، فإن قلنا: بأنّ الوجب الذی له البدل متقیّد بالقدرة الشرعیّة، فلایوجد مثال فی مفروض البحث للکبری المزبورة.
وإن قلنا : بعدم التقیّد المزبور، کما أشرنا إلیه فی مطاوی بحوثنا، فیمکن
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 416 تصویر المثال: وهو ما إذا ابتلی المکلّف بوجوب الحجّ، ولزوم الطهارة عن الحدث، فمقتضیٰ أنّ الطهارة لها البدل یقدّم الحجّ، ومقتضیٰ أنّ الحجّ قدرته شرعیّة تقدّم الطهارة علیه، ولایمکن الجمع بین المقتضیین، وعند ذلک إن قلنا: بأنّ القدرة الشرعیّة موضوع الدلیل، فلاتزاحم عندهم.
وإنّما الإشکال علیٰ مسلکنا: من کون القدرة واسطة فی الثبوت؛ فإنّه عند ذلک یشکل الأمر.
نعم، یندفع وینحلّ بما عرفت بما لا مزید علیه: من عدم تمامیّة الکبری المعروفة؛ وهی «تقدّم ما لا بدل له علیٰ ماله البدل» بل وعدم تمامیّة سائر الکبریات، فعلیه یرجع إلی الأهمّ فی نظر الشرع وإلاّ فتخیّر.
وغیر خفیّ: أنّ مجرّد الأهمّیة غیر کافٍ، بل لابدّ وأن تصل الأهمّیة إلیٰ مرتبة اللزوم، وإلاّ فمن الممکن أهمّیة واجب علیٰ واجب آخر بمقدار لایجب استیفاؤه.
إذا تبیّن ذلک، واتضح المقصود ومثال المسألة إجمالاً، فلابأس بأن نذکر ما هو المثال لتلک الکبریٰ تفصیلاً: وهو ما إذا تزاحم واجبان، وکان أحدهما متقدّماً زماناً، ومقیّداً بالقدرة الشرعیّة، والآخر متأخّراً زماناً، ومتقیّداً بالقدرة العقلیّة، أو کان المتقدّم الزمانیّ ذا بدل، والمتأخّر بلا بدل، فبناءً علیٰ تمامیّة الکبریات المزبورة تقع المعارضة بین المزایا، کما هو الظاهر.
فبالجملة : إذا وقعت المزاحمة بین درک الطهارة المائیّة، ودرک تمام الوقت، فهو من تزاحم المتقدّم زماناً الذی یکون مقیّداً بالقدرة الشرعیّة، والمتأخّر زماناً الذی هو المقیّد عقلاً، فإنّ مقتضیٰ ما تحرّر منّا: أنّ ملاک التقدّم والتأخّر إن تمّ،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 417 فلایفرّق بین السبق واللحوق فی زمان التکلیف، أو فی زمان الامتثال، فیقع التزاحم بین الوجوب الغیریّ للطهارة المائیّة المتقدّم زمان امتثاله، وبین الوجوب الغیریّ للوقت المتأخّر، فلابدّ من تقدیم الطهارة المائیّة علیٰ درک الوقت بتمامه، خلافاً لما توهّمه الفضلاء من العکس.
نعم، حیث أنّ کبری المسألة ـ وهی «اقتضاء السبق الزمانیّ التقدّم فی الامتثال» ـ ممنوعة، فلایصحّ التقدیم المزبور.
ومن الممکن دعویٰ: أنّ هذا المثال ینطبق علیه الغرض الآخر أیضاً؛ ضرورة أنّ المتقدّم زماناً ذو بدل دون المتأخّر، فبما أنّ المتقدّم زماناً ذو بدل لابدّ من تأخیره، فیقع التهافت والتکاذب والتعاند من نواحٍ شتّیٰ، فلو تمّت کبریات المرجّحات فیؤخذ هنا بالمتأخّر؛ لأنّه ذو مزیّتین، دون المتقدّم فإنّه ذو مزیّة واحدة؛ وهی السبق الزمانیّ.
إن قلت : کما للمائیّة بدل، کذلک للوقت اعتبار البدل حسب قاعدة الإدراک، فلایفوته شیء، والابتلاء بوجوب المائیّة یکفی؛ للضرورة المبیحة للتأخیر وإن فات شیء من الوقت. بل تصیر القدرة شرعیّة بالنسبة إلی المتأخّر؛ بناءً علیٰ أنّ کلّ ماله البدل قدرته شرعیّة، فلابدّ من صرف الوقت لتحصیل المائیّة.
قلت : الکلام فی صغریٰ مسألة تعارض المزایا ولو استشکل الأمر فی المثال الأخیر فیکفی المثال الأوّل؛ ضرورة أنّ کلّ واحد من الطهارة والوقت له البدل،
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 418 ومتقیّد بالقدرة الشرعیّة أو العقلیّة.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بتخالفها فی جانب القدرة، ویکون المتأخّر مقیّداً بالعقلیّة.
وأمّا البحث عن کبراها، فالحقّ الذی لاشبهة فیه: أنّ تلک المزایا بین ما لا أساس لها، وبین ما یرجع الترجیح بها إلیٰ إخراج المسألة عن صغریٰ باب التزاحم.
ولو سلّمنا عدم الخروج علی التقریب الذی ذکرناه، کما لیس ببعید، فالتقدیم لحکم العقل فی کلّ مورد کان؛ وذلک لأجل إمکان الإتیان بأحد المتزاحمین، وعدم وقوع المولیٰ فی خلاف مصلحة الآخر ولو بإعدام موضوعه.
وأمّا علیٰ تقدیر کونها المرجّحات واقعاً، فلایمکن الحکم الکلّی، بل لابدّ من لحاظ کلّ واحد مع الآخر. والمسألة تطول مع قلّة فائدتها، فالعدول عنها أولیٰ وأحسن.
وبالجملة : المرجّحات فی باب التزاحم، لاتکون معیّنة إلاّ بأحد وجهین: إمّا بأن یکون عند العقل؛ بحیث لایفوت شیء من المصلحة فی جانب الآخر ولو بإعدام موضوعه، أو یکون الرجحان فی أحد الطرفین أزید بمقدار یجب استیفاؤه، وإلاّ فلاتکون معیّنة، فافهم واغتنم.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 419