المقدّمة الاُولیٰ : فی بیان أساس الترتّب وسبب الالتزام به
وقبل الخوض فی تلک التقاریب، لابدّ من الإشارة إلیٰ مقدّمة مشتملة علیٰ ماهو مصبّ الترتّب، وماهوالمقصود منه رأساً:
وهی أنّ مقتضیٰ ما عرفت منّا فیما سلف: أنّ الأدلّة الشرعیّة إذا لم تکن متکاذبة فی مقام الدلالة ، فلا تکون متعارضة فیالاصطلاح، وإذا کانت ملتئمة فی مقام الإنشاء والجعل والقانون، فربّما یتّفق اصطکاکها فی مقام الامتثال کما عرفت، فإذا وقعت المزاحمة بینها فی مقام الامتثال علی الشرائط المعتبرة فی التزاحم بالتفصیل الماضی، فلابدّ من علاج التزاحم.
فقالوا: «إذا کان الدلیلان المتزاحمان متساویین فی الملاک، فمقتضیٰ حکم العقل هو التخییر؛ بأن یکون کلّ واحد من الدلیلین مقیّداً بعدم امتثال الآخر» أو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 470 قالوا: «باستکشاف الحکم الواحد التخییریّ» فیکون التخییر شرعیّاً، لا عقلیّاً.
وإذا کانا أهمّ ومهمّ، فربّما یختلج بالبال سقوط المهمّ، وینحفظ الأهمّ؛ لامتناع الجمع، ویکون سقوطه مطلقاً؛ بحیث لو عصی الأهمّ بترکه، فلا شیء علیه من ناحیة ترک المهمّ، ولایکون مشروعاً فعله إذا کان عبادیّاً، فینحصر تکلیفه بالأهمّ.
ولکنّه مجرّد تخیّل عندهم ؛ لأنّ قضیة إدراک العقل هو الفرار من المحذور العقلیّ ـ وهو امتناع الجمع ـ بالمقدار اللازم، ولا وجه للزائد علیه؛ وذلک لأنّ إطلاق الأهمّ یدعو نحوه علی الإطلاق، وهکذا الإطلاق فی ناحیة المهمّ مع قطع النظر عن المحذور العقلیّ، فإذا لوحظ المحذور العقلیّ فلابدّ من رفع الید عن الإطلاق بالمقدار المعیّن، فکما فیما کانا متساویین یقیّد إطلاق کلّ واحد، ویکون کلّ واحد واجباً عند ترک الآخر، کذلک فیما نحن فیه، یقیّد إطلاق المهمّ بعصیان الأهمّ؛ حتّیٰ لایکون الزمان فارغاً ـ علی سبیل منع الخلوّ ـ عن أحد الأمرین؛ أحدهما: مطلق، والآخر: مشروط.
وإن شئت قلت : القضیّة المتشکّلة هنا هی هکذا: «إمّا یکون العبد فی هذا الظرف والزمان الذی لایسع لهما معاً، مشغولاً بالأهم وفاعلاً للإزالة، أو یجب علیه فعل الصلاة؛ حتّیٰ لایفوت مصلحة المولیٰ عند التمکّن من فعل الصلاة بترک الإزالة».
وبذلک ترتفع غائلة لزوم الجمع بین الضدّین، وتنحفظ مصلحة التکلیف بالمقدار الممکن عقلاً، ویقع التقیید بالمقدار اللازم حسب درکه، لا الزائد علیه.
وأیضاً : بمثله ترتفع شبهة الشیخ البهائیّ قدس سره أیضاً علیٰ ثمرة مسألة الضدّ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: بأنّ الشبهة المزبورة تنقلب حینئذٍ؛ وذلک لأنّ موضوع
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 471 المسألة کان «إنّ الأمر بالشیء هل یقتضی... أم لا؟» وإذا سقط الأمر بالأهمّ فلایبقیٰ محلّ للنهی عن الضدّ؛ لأنّه نهی تبع الأمر بالشیء، فإذا اشتغل المکلّف بالصلاة تکون صحیحة علیٰ أیّ تقدیر؛ لأنّها مورد الأمر، ولا نهی متوجّه إلیهما؛ لعدم الأمر بالإزالة ولو کان مقتضیاً للنهی عن الضدّ، فافهم واغتنم.
وغیر خفیّ: أنّ المسالک المذکورة فی المقام حول هذه الشبهة علیٰ صنفین:
أحدهما : ما یتعرّض لحلّ مشکلة الشیخ رحمه الله بإمکان الاستثمار من بحث الضدّ، وهو مثل ما أفاده الکرکیّ قدس سره. ولایکون جواباً عنها؛ لتقدّم عصره علیٰ عصر الشیخ ، ومثل ما ذکرناه من إمکان الاستثمار فیالمعاملات، وهکذا ما أشرنا إلیه أخیراً.
ثانیهما: ما یکون متکفّلاً لغائلة لزوم الجمع بین الضدّین، ولإنکار هذا الاستلزام المفروغ عنه فی کلامه، وهذا مثل ما سلکناه: من إسقاط الأمر بالأهمّ عند الاشتغال بالمهمّ، لا بالعصیان، مثل ما سلکه الوالد المحقّق ـ مدّظلّه : من إثبات بقاء الأمرین العرضیّین من غیر لزوم المحذور رأساً، ومثل ما یعبّر عنه بـ «الترتّب» من الفرار من کون التکلیفین مطلقین فی المتساویین، ومن إطلاق المهمّ إذا کان الآخر أهمّ، وعند ذلک لایکون تزاحم بینهما بالضرورة.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 3)صفحه 472