مقتضی الأصل اللفظی فی المقام
ثمّ إنّـه لو دار الأمر بینهما وتردّد بین أن یکون هو الواجب النفسی أو الغیری ولم یکن فی البین ما یدلّ علیٰ أحدهما ، فقد یقال بأنّ مقتضیٰ الإطلاق هو الحمل علی الواجب النفسی ؛ لأنّ غیره یحتاج إلیٰ خصوصیـة زائدة ، وهی کون المقصود منـه التوصّل إلیٰ شیء آخر ، وأمّا النفسیـة فلایزید علیٰ أصل الوجوب ، فالإطلاق یقتضی تعیینـه .
وفیـه ما لایخفیٰ من الضعف ؛ فإنّـه لا إشکال فی أنّ الواجب النفسی والغیری قسمان لطبیعـة الواجب ، ولایعقل أن یکون أحد الأقسام عین المقسم ، بل لابدّ أن یکون لها خصوصیـة زائدة علیٰ أصل المقسم وجودیةً کانت أو عدمیةً .
والذی ینبغی أن یقال : إنّـه حیث کانت الحجّـة من قِبَل المولیٰ تامّةً غیر محتاجـة إلیٰ شیء آخر ، فهی قاطعـة للعذر بالنسبـة إلی العبد ، ویصحّ للمولی الاحتجاج بها علیـه ، فلا محالـة تحتاج إلی الجواب ، کما مرّ نظیره فی مبحث دلالـة صیغـة الأمر علی الوجوب ، فلو قال : ائتنی بالماء ، وشک فی أنّ المقصود هو مجرّد تمکّنـه من الماء أو استعمالـه فی الوضوء فتوضّأ ، فمجرّد احتمال أن یکون المقصود استعمالـه فی الوضوء ، فلم یبق لـه موضوع لفرض التوضّی بماء آخر لایصحّح الاحتجاج بـه علی المولیٰ بعد تمامیـة الحجّـة من قِبَلـه ، بل اللازم تحصیل الماء للمولیٰ . نعم لایثبت بما ذکرنا کون الواجب واجباً نفسیاً حتّیٰ یترتّب
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 60 علیـه ما یترتّب علیٰ هذا العنوان ، کما لایخفیٰ .
ثمّ لایخفیٰ أنّ التقسیم إلی النفسی والغیری لیس تقسیماً للواجب بمعنیٰ کون الوجوب أمراً جامعاً بینهما ، کیف وقد عرفت أنّ الحروف بتمامها یکون الوضع فیها عامّاً والموضوع لـه خاصّاً ، فکیف یمکن أن یکون مدلول الهیئـة أمراً جامعاً بین القسمین ؟ ! بل التقسیم لأجل اختلاف الداعی ، بمعنیٰ أنّ الداعی إلی البعث إلیٰ شیء قد یکون للتوصّل إلیٰ شیء آخر وقد لایکون ، وإلاّ فالبعث أمر واحد لایختلف فی القسمین أصلاً ، کما هو الشأن فی الوجوب والاستحباب ، فإنّهما لیسا من أقسام الطلب والبعث بمعنیٰ أن یکون البعث علیٰ نحوین ، بل البعث الصادر عن إرادة حتمیـة یقال لـه : الوجوب ، کما أنّ البعث الصادر عن إرادة غیر حتمیـة یقال لـه : الاستحباب ، فتأمّل جیّداً .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرین ذکر فیما لو شکّ فی واجب أنّـه نفسی أو غیری ما ملخّصـه بالنسبـة إلی الأصل اللفظی أنّـه لمّا کان الواجب الغیری وجوبـه مترشّحاً عن وجوب الغیر ، کان وجوبـه مشروطاً بوجوب الغیر ، کما أنّ نفس غیر الواجب یکون وجوده مشروطاً بنفس الواجب الغیری ، فیکون وجوب الغیر من المقدّمات الوجوبیـة للواجب الغیری ، ووجود الواجب الغیری من المقدّمات الوجودیـة لنفس ذلک الغیر .
مثلاً : یکون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة ، وتکون نفس الصلاة مشروطةً بوجود الوضوء ، وحینئذٍ یکون مرجع الشکّ فی النفسیة والغیریة إلیٰ شکّین : أحدهما : الشکّ فی تقیید وجوبـه بوجوب الغیر ، وثانیهما : الشک فی تقیید مادّة الغیر بـه .
إذا عرفت ذلک ، فنقول : إنّ هناک إطلاقاً فی کلا طرفی الغیر والواجب الغیری ، کما إذا کان دلیل الصلاة مطلقاً لم یأخذ الوضوء قیداً لها ، ودلیل إیجاب
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61 الوضوء کذلک لم یقیّد وجوبـه بوجوب الصلاة ، فلا إشکال فی صحّـة التمسّک بکلٍّ من الإطلاقین ، وتکون النتیجـة هو الوجوب النفسی ولو کان لأحدهما فقط إطلاق یکفی فی إثبات الوجوب النفسی أیضاً ؛ لأنّ مثبتات الاُصول اللفظیـة حجّـة . انتهیٰ ملخّص ما فی التقریرات المنسوبـة إلیـه .
ولکن هذا الکلام مخدوش من وجوه :
الوجـه الأوّل : أنّک عرفت فیما تقدّم أنّـه لایعقل کون وجوب المقدّمـة مترشّحاً من وجوب ذیها بمعنیٰ أن یکون الثانی علّةً موجدة للأوّل ، کما هو معنیٰ الترشّح ، کما أنّـه لایعقل ترشّح الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمـة من الإرادة المتعلّقـة بذیها ، وهذا واضح جدّاً .
الوجـه الثانی : أنّ ما ذکره من أنّـه حیث کان وجوب المقدّمـة مترشّحاً من وجوب ذیها ، فلا محالـة یکون مشروطاً بـه ، محلّ نظر بل منع ؛ لأنّـه لو سلّم الترشّح والنشو ، فلا نسلّم کونـه مشروطاً بـه ، بل لایعقل ؛ لأنّ معنی الترشّح ـ کما عرفت ـ هو کون المترشّح معلولاً للمترشّح منـه ، وحینئذٍ فاشتراط المعلول بوجود العلّـة إن کان فی حال انتفاء المعلول ، فبطلانـه أظهر من أن یخفیٰ ؛ لأنّ الاشتراط وصف وجودی لایعقل عروضـه للمعدوم أصلاً ، وإن کان فی حال وجوده ، فانتزاع المعلولیـة منـه إنّما هو فی الرتبـة المتأخّرة عن الاشتراط ، ومن المعلوم خلافـه .
الوجـه الثالث : أنّ ما ذکره من أنّـه یکون وجود الغیر مشروطاً بوجود الواجب الغیری بمعنیٰ أنّ المقصود من الغیر هو تحقّقـه مقیّداً بذلک الواجب الغیری ، فلایتمّ علی إطلاقـه وإن کان فی المثال صحیحاً ؛ لأنّـه لو فرض أنّ المولیٰ أمر بنصب السلّم وشکّ فی أنّ وجوبـه هل یکون نفسیاً أو غیریاً ، فإنّـه ولو سلّم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62 أنّـه بناءً علی الغیریـة یکون وجوبـه مترشّحاً من وجوب الکون علی السطح مشروطاً بـه ، ولکن لا نسلّم أنّ المقصود من الأمر بالکون علی السطح هو الکون علیـه مقیّداً بنصب السلّم ، کما کانت الصلاة مشروطةً بالطهارة .
الوجـه الرابع : أنّ ما ذکره من کون مثبتات الاُصول اللفظیـة حجّةً دون الاُصول العملیّـة ، لیس مبرهناً علیـه ، بل یکون محلّ شکّ وریبـة ، وسیجیء إن شاء اللّٰـه تعالیٰ .
هذا کلّـه فیما یتعلّق بما ذکره البعض المتقدّم فیما یقتضیـه الاُصول اللفظیـة التی لا مجال معها للاُصول العملیـة أصلاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 63