التنبیه الثالث : فی أنّ التخییر بدوی أو استمراری
هل التخیـیر بدوی مطلقاً ، أو استمراری کذلک ، أو تفصیل فیـه بین ما إذا کان فی المسألـة الاُصولیّـة فبدوی وبین ما إذا کان فی المسألـة الفقهیّـة فاستمراری ، أو تفصیل فیـه بعد فرض کونـه فی المسألـة الاُصولیّـة بین ما إذا قیل باختصاص الخطابات الواردة فی المسائل الاُصولیّـة بالمجتهد ، فالتخیـیر بدوی ، وبین ما إذا قیل بعدم الاختصاص فاستمراری ؟
وجوه واحتمالات أربعـة ، والمستند هو الأخبار الواردة فی التخیـیر ومع قصورها فالاستصحاب ، وتوضیح الحال : أنّـه أفاد الشیخ قدس سره فی الرسالـة أنّ مستند التخیـیر إن کان هو الأخبار الدالّـة علیـه فالظاهر أنّها مسوقـة لبیان وظیفـة المتحیّر فی ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فیها بالنسبـة إلی حال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما ، انتهی .
ویمکن تقریبـه بأنّ هنا أمران :
أحدهما : وظیفـة المتحیّر عند مجیء الخبرین المتعارضین عنده .
وثانیهما : وظیفتـه بعد الأخذ بأحدهما ، والسؤال عن هذه الوظیفـة إنّما یصحّ مع ثبوت أصل وظیفـة المتحیّر فی ابتداء الأمر ووضوحـه عند السائل . ومن المعلوم کما نراه أنّ الروایات الواردة فی التخیـیر لیس فیها إلاّ سؤال وجواب واحد ، وهو السؤال عن أصل وظیفـة المتحیّر ابتداءً والجواب عنـه ، أو بیان أمر واحد وحکم فارد ، هذا .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 395 ویرد علیـه : أنّـه یمکن أن یستفاد من کثیر من الأخبار الواردة فی التخیـیر کونـه استمراریّاً ، والعمدة من ذلک روایتان :
إحداهما : ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا علیه السلام قلت : یجیئنا الرجلان ـ وکلاهما ثقـة ـ بحدیثین مختلفین ولا نعلم أ یّهما الحقِّ؟
قال علیه السلام : « فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأ یّهما أخـذت » ، فإنّ تعلیق الحکم بالتوسعـة علی مجـرّد الجهل وعـدم العلم خصوصاً مـع إعادتـه فی الجواب مع کونـه مذکوراً فی السؤال یدلّ علی أنّ تمام الموضوع للحکم بالتوسعـة هو مجرّد الجهل بالواقع وعدم العلم والتردّد الناشئ من مجیء الحدیثین المختلفین . ومن الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما ، لأنّ الأخذ بـه لا یوجب العلم بالواقع أو قیام أمارة علیـه التی لابدّ من الأخذ بها .
وقد عرفت أنّ التخیـیر وظیفـة مجعولة فی مقام الشـکّ والـتحیّر ، ولیس مرجعـه إلی کون المأخوذ من الخبرین أمارة تعبّدیـة فی صورة التعارض حتّی یکون قیام الأمارة رافعاً لموضوع الحکم بالتوسعـة تعبّداً ، بل التحقیق أنّـه مع التخیـیر والأخذ بأحد الخبرین لا یرتفع التحیّر والتردّد مـن البین ، والمفروض أنّـه الموضوع الفرید للحکم بالتوسعـة وجواز الأخذ بما شاء من الخبرین .
ثانیتهما : روایـة الحـرث بن المغیرة عـن أبی عبداللّٰه علیه السلام قال علیه السلام : « إذا سمعت من أصحابک الحدیث ـ وکلّهم ثقة ـ فموسّع علیک حتّی تری القائم علیه السلام فتردّ إلیه » .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 396 وهذه الروایـة وإن کان ربّما یناقش فی دلالتها علی التخیـیر فی المتعارضین ، لعدم التعرّض لهما فی الموضوع ، بل موضوع الحکم بالتوسعـة مطلق الحدیث ، إلاّ أنّ التمسّک بها لمکان کونها من أدلّـة التخیـیر عند الشیخ قدس سره القائل بهذه المقالـة ، وهی قصور أدلّـة التخیـیر عن الدلالـة لحال المتحیّر بعد الالتزام بأحدهما ، هذا .
مضافاً إلی أنّـه یمکن أن یستفاد من التعبیر بالتوسعـة المستعملـة فی سائر روایات التخیـیر کون الموضوع هو المتعارضین ، وإلی أنّ إطلاقـه لهما یکفی لنا ، کما لایخفی .
وکیف کان : فدلالتها علی استمرار التخیـیر أوضح من الروایـة السابقـة ، لأنّـه جعل الغایـة للحکم بالتوسعـة هی رؤیـة القائم علیه السلام والردّ إلیـه ، فتدلّ علی بقائـه مع عدم حصول الغایـة ، سواء کان فی ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرین ، کما لایخفی . فانقدح : أنّـه لا مجال لدعوی الإهمال فی جمیع الروایات الواردة فی باب التخیـیر .
وأمّا الاستصحاب فنقول : الشکّ فی الاستمرار قد یکون مع فرض اختصاص التخیـیر بخصوص المسألـة الاُصولیّـة ، وقد یکون لأجل الشکّ فی أنّ التخیـیر فی المسألـة الاُصولیّـة أو فی المسألـة الفرعیّـة ، وقد یکون لأجل الشکّ فی أنّـه مع کون التخیـیر فی المسألـة الاُصولیّـة هل الخطابات الواردة فیها مختصـة بالمجتهد أو تعمّ المقلّد ؟
فعلی الأوّل لابدّ من ملاحظـة ما جعل فی الأخبار موضوعاً للحکم بالتخیـیر ، فنقول : یحتمل فیـه وجوه أربعـة :
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 397 أحدها : أن یکون الموضوع هو شخص المکلّف فیما إذا لم یعلم بما هو الحقّ من الخبرین المتعارضین .
ثانیها : أن یکون الموضوع هو من لم یعلم حقیّـة واحد منهما .
ثالثها : أن یکون الموضوع هو المتحیّر بما هو المتحیّر .
رابعها : أن یکون الموضوع خصوص من لم یختر أحد الخبرین ، کما یظهر من الشیخ قدس سره .
فعلی الأوّلین لا مانع من الاستصحاب ، لبقاء الموضوع المأخوذ فی الدلیل بعد الأخذ أیضاً ، وعلی الأخیرین أیضاً لا مانع منـه ، لأنّـه بعدما صار الشخص الخارجی مورداً للحکم بالتخیـیر نقول : هذا الشخص کان مخیّراً والآن نشکّ فی بقاء تخیـیره ، فهو بعد باق علیـه ، نظیر الاستصحاب الجاری فی الماء المتغیّر بعد زوال تغیّره من قبل نفسـه ، کما أومأنا إلیـه مراراً . وعلی الثانی والثالث یصیر هذا الاستصحاب من أفراد القسم الثانی من الأقسام الثلاثـة من استصحاب الکلّی ، کما لایخفی .
فانقدح من جمیع ما ذکرنا دلالـة الأدلّـة من الأخبار والاستصحاب علی کون التخیـیر استمراریّاً .
ثمّ إنّـه قد یناقش فی جریان الاستصحاب بناءً علی الوجـه الثانی وکذا الثالث ، نظراً إلی ما ذکرناه فی باب الاستصحاب الکلّی من أنّ استصحاب الکلّی إنّما یجری إذا کان ذلک الکلّی مجعولاً شرعیّاً أو موضوعاً لترتّب أثر شرعی .
فیقال حینئذٍ : إنّ التخیـیر الجامع بین البدوی والاستمراری لا یکون أمراً مجعولاً من الشارع ، لأنّ المجعول الشرعی إمّا خصوص التخیـیر البدوی ، وإمّا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 398 خصوص التخیـیر الاستمراری ، والجامع بینهما أمر انتزاعی غیر مجعول أصلاً ، نظیر القدر الجامع بین الوجوب والاستحباب مثلاً ، فلا یجری فی شیء منهما الاستصحاب أصلاً .
إلاّ أن یقال : بأنّ هذا الإشکال إنّما یجری فیما لو اُرید استصحاب التخیـیر الکائن بالکون الناقص ، بأن یکون المستصحب عبارة عن جملـة « کان التخیـیر ثابتاً للمکلّف » وأمّا لو اُرید استصحاب جملـة « کان المکلّف مخیّراً » فلا مانع من جریانـه . أو یقال بالفرق بین المقام وبین المثال المزبور ، وهو القدر الجامع بین الوجوب والاستحباب بأنّـه لا یعقل جعل القدر الجامع هناک ، وأمّا أصل التوسعـة فیمکن تعلّق الجعل بـه بقولـه علیه السلام : « فموسّع علیک » وشبهـه ، فتأمّل .
وکیف کان : فنحن لا نحتاج إلی هذا الاستصحاب حتّی یورد علیـه بما ذکر ، لما عرفت من دلالـة الروایات علی استمرار التخیـیر ، مضافاً إلی أنّ الشکّ فیـه علی تقدیره إنّما هو بعد الفراغ عن ثبوتـه فی خصوص المسألـة الاُصولیّـة وعدم اختصاص الخطابات الواردة فیها بالمجتهد ، وقد عرفت أنّـه علی هذا التقدیر یجری الاستصحاب بلا کلام .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 399