الأمر الثانی : فی متعلّق الرفع
قد عرفت أنّ ظاهر الحدیث إنّما هو إسناد الرفع إلی نفس تلک العناوین المذکورة فیـه ، ومن الواضح أنّ ذلک یحتاج إلی تقدیر ؛ صوناً لکلام الحکیم من اللغویـة ؛ إذ لایمکن الحمل علی ظاهره . وحینئذٍ فنقول : إنّـه قد وقع البحث فی تعیین ما هو المقدّر ، فقیل : هی المؤاخذة ، وقیل : هو أظهر الآثار ، وقیل : هو جمیع الآثار .
هذا ، وذکر المحقّق النائینی ـ علی ما فی التقریرات ـ أنّـه لا حاجـة إلی التقدیر أصلاً ، فإنّ التقدیر إنّما یحتاج إلیـه إذا توقّف تصحیح الکلام علیـه ، کما إذا کان الکلام إخباراً عن أمر خارجی ، أو کان الرفع رفعاً تکوینیاً ، وأمّا إذا کان الرفع رفعاً تشریعیاً فالکلام یصحّ بلا تقدیر ، فإنّ الرفع التشریعی کالنفی التشریعی لیس إخباراً عن أمر واقع ، بل إنشاء الحکم یکون وجوده التشریعی بنفس الرفع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 503 والنفی ، انتهی ملخّصاً .
وأنت خبیر بما فیـه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ ما ذکره من أنّ الرفع فی الحدیث إنّما هو رفع تشریعی ممنوع ، فإنّ الحدیث یتضمّن إخبار النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم عن مرفوعیـة تلک الاُمور فی الواقع ؛ ضرورة أنّ التشریع لایکون إلاّ شأناً لـه ـ تبارک وتعالی ـ ، والنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم ، وکذا الأئمّـة علیهم السلام إنّما یخبرون بالحکم الذی شرع فی الواقع ، کالمفتی الذی یفتی بالأحکام . غایـة الأمر أنّهم عالمون بالأحکام الواقعیـة ، بخلاف المفتی . وبالجملـة : فالحدیث لایدلّ علی الرفع التشریعی أصلاً .
وأمّا ثانیاً : فلأنّ الفرق بین الرفع التشریعی وغیره ؛ من حیث عدم احتیاج الأوّل إلی التقدیر ، دون الثانی ممّا لایصحّ ، فإنّ کلیهما یحتاج إلی تصحیح وادعاء ؛ لعدم صحّـة إسناده إلی نفس العناوین ، لا تشریعاً ولا تکویناً بلا ادعاء ، کما لایخفی .
والتحقیق أن یقال : إنّ المصحّح لإسناد الرفع إلی نفس العناوین المذکورة فی الحدیث إنّما هو کونها بلا أثر أصلاً ؛ لأنّ تقدیر أظهر الآثار ، أو خصوص المؤاخذة یحتاج إلی ادعائین : أحدهما ادعاء کون ذلک الأثر بمنزلـة جمیع الآثار المترتّبـة علی ذلک الشیء ، ثانیهما ادعاء کون الشیء الذی لم یکن لـه أثر أصلاً ، فهو معدوم ومرفوع . وهذا بخلاف کون المراد رفع جمیع الآثار ، فإنّـه لایحتاج إلاّ إلی ادعاء واحد . ومنـه یظهر ترجیحـه علی الاحتمالین الأوّلین .
هذا ، ویدلّ علی أنّ المراد رفع جمیع الآثار روایـة صفوان بن یحیی والبزنطی جمیعاً عن أبی الحسن علیه السلام فی الرجل یستحلف علی الیمین ، فحلف بالطلاق والعتاق وصدقـة ما یملک ، أیلزمـه ذلک ؟
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 504 فقال علیه السلام : «لا ، قال رسول اللّٰـه صلی الله علیه و آله وسلم : رفع عن اُمّتی ما اُکرهوا علیـه وما لایطیقون وما أخطأوا» .
والحلف بالطلاق والعتاق والصدقـة وإن کان باطلاً عند الإمامیـة فی حال الاختیار أیضاً إلاّ أنّ استشهاد الإمام علیه السلام علی عدم لزومها فی صورة الإکراه دلیل علی عدم اختصاص حدیث الرفع برفع خصوص المؤاخذة . هذا ، ویمکن أن یقال بأنّ المقصود من الروایـة : أنّـه إذا اُکره الرجل علی الحلف بأن یطلّق أو یعتق أو یصدّق فهل یجب علیـه العمل علی مقتضی حلفـه أم لا ؟ وحینئذٍ فلایکون هذا الحلف باطلاً مع الاختیار ، بل یجب علیـه مع وجود شرائطـه أن یطلّق أو یعتق أو یصدّق .
ویؤیّد کون المقصود من الروایـة هو هذا المعنی التعبیر بقولـه «یلزمـه» ، فإنّـه لایناسب کون المراد بالحلف بالطلاق ونظائره هو الحلف بکون امرأتـه مطلّقـة مثلاً ، کما لایخفی .
ثمّ لایذهب علیک : أنّ نسبـة الرفع إلی الاُمور التسعـة المذکورة فی الحدیث لیس علی نسق واحد ؛ ضرورة أنّ المراد برفع الخطأ والنسیان لیس هو رفع الآثار المترتّبـة علی نفس الخطأ والنسیان ؛ لأنّـه لایعقل ذلک ، کما صرّح بـه الشیخ فی «الرسالـة» ، بل المراد بالخطأ والنسیان هو ما أخطأ وما نسی . فالآثار المترتّبـة علی الفعل لایترتّب علیـه إذا وقع خطأً أو نسیاناً .
والسرّ فی التعبیر عنـه بذلک إنّما هو وضوح أنّ المتفاهم من هذین العنوانین بحسب نظر العرف لیس نفسهما مستقلاًّ ، بل من حیث کونهما طریقاً ، وهذا بخلاف
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 505 عنوان الحسد والطیرة ، فإنّـه لایکون طریقاً إلی شیء آخر ، بل المتبادر منـه إنّما هو نفس عنوانـه . ویدلّ علی ذلک : التعبیر عن الخطأ فی الروایـة المتقدّمـة بکلمـة «ما أخطأوا» . هذا ، ویمکن أن یکون الوجـه فی التعبیر بالخطأ والنسیان فی الحدیث هو متابعـة الآیـة الشریفـة ؛ من حیث إنّـه قد عبّر فیها بالنسیان والخطأ .
وبالجملـة : لاینبغی الإشکال فی أنّ المراد بالخطأ والنسیان فی الحدیث لیس ظاهرهما ، بل المراد هو ما أخطأوا وما نسوا ، وحینئذٍ فیصیر مطابقاً لمثل «ما لایعلمون» ونظائره .
ثمّ إنّ ظاهر الحدیث هو اختصاص رفع هذه الاُمور بهذه الاُمّـة ، مع أنّ المؤاخذة علی الخطأ والنسیان وما لایعلمون وأشباهها مرفوعـة عقلاً ، ولا اختصاص لـه بهذه الاُمّـة ، ولکن هذا الإیراد إنّما یرد بناءً علی أن یکون المرفوع هو المؤاخذة ، وقد عرفت أنّ المصحّح لإسناد الرفع إلی الاُمور المذکورة فی الحدیث إنّما هو کونها مرفوعـة بجمیع آثارها . وعلی تقدیر أن یکون المرفوع هو خصوص المؤاخذة یمکن أن یقال بمنع استقلال العقل بقبح المؤاخذة علی هذه الاُمور بقول مطلق ، فإنّـه لایقبح المؤاخذة علی الخطأ والنسیان الصادرین من ترک التحفّظ ، کما لایخفی .
ثمّ إنّ مقتضی کون الحدیث امتناناً علی العباد لیس إلاّ مجرّد رفع الأحکام والآثار عن تلک الاُمور المذکورة فیما إذا وقعت تلک الاُمور اتفاقاً ، فهو بصدد رفع الکلفـة والمشقّـة علی العباد ، وحینئذٍ فلادلالـة لـه علی رفع الحکم فیما إذ أوقع المکلّف نفسـه اختیاراً فی الاضطرار إلی ترک واجب أو فعل محرّم أو شرب دواء ـ مثلاً ـ اختیاراً ، فذهبت منـه القدرة علی فعل المأمور بـه وأشباه ذلک ، کما هو واضح جدّاً .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 506 کما أنّ مقتضی الحدیث رفع الحکم فیما إذا لم یلزم من رفعـه ضرر علی شخص آخر ؛ لأنّ ذلک ینافی الامتنان علی الاُمّـة الظاهر فی الامتنان علی جمیع الاُمّـة ، کما لایخفی . وحینئذٍ فالاضطرار مثلاً إلی أکل مال الغیر لایوجب إلاّ سقوط التحریم المتعلّق بإتلاف مال الغیر من دون إذن ، لا سقوط الضمان أیضاً ، بل یشکل سقوط الحکم التکلیفی أیضاً فی بعض الموارد ، کما إذا اضطرّ بالاضطرار العرفی الغیر البالغ حدّ الاضطرار الشرعی إلی أکل عین متعلّقـة بالغیر ؛ بحیث کانت خصوصیتها أیضاً متعلّقـة لغرضـه ، ولایرضی بإتلافـه مع دفع القیمـة أصلاً ؛ لکون خصوصیتها مطلوبـة لـه أیضاً ، فإنّـه یشکل الحکم بجواز الإتلاف بمجرّد عروض اضطرار یمکن لـه التحمّل عقلاً ، وإن لم یکن ممّا یتحمّل عادة ، کما لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 507