حول مجازیّـة العامّ المخصّص وعدمها
والعمدة فی مبنی المسأ لـة هو : أنّ التخصیص یوجب المجازیـة فی العـامّ أو لا ؟
والتحقیق أن یقال : إنّ المجاز لیس عبارةً عن استعمال اللّفظ فی غیر ما وُضع لـه ، کما اشتهر بینهم ، بل إنّما هو عبارة عن استعمال اللّفظ فی نفس الموضوع لـه کالحقیقـة بدعویٰ أنّ ذلک المعنی المقصود هو من مصادیق المعنی الموضوع لـه ، وهذه هی الفارق بین الحقیقـة والمجاز ، فإنّ استعمال اللّفظ فی معناه فی الأوّل لایحتاج إلی ادّعاء أصلاً ، بخلاف المجاز .
وبعبارة اُخریٰ : المقصود فی المقامین هو نفس المعنی الموضوع لـه ، غایـة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 270 الأمر أ نّـه ادّعی المتکلّم تطبیقـه علیٰ ما لیس مصداقاً لـه فی الواقع فی المجاز .
والسرّ فی ذلک : أ نّـه لو لم یکن هذا الادّعاء فی البین بل کان المجاز عبارة عن مجرّد استعمال اللّفظ الموضوع للأسد مثلاً فی زید من دون ادّعاء أ نّـه من أفراد الأسد حقیقةً ، لم یکن للاستعمال المجازی حسن أصلاً ، فأیّ حسن فی مجرّد تغییر اللّفظ وتبدیلـه بلفظ آخر ؟ کما هو واضح لایخفیٰ .
وهذا لا فرق فیـه بین المجاز المرسل والاستعارة ، فإنّ استعمال کلمـة «القریـة» فی أهلها فی قولـه تعالیٰ : «واسئل القریـة» لایکون محسناً إلاّ إذا کان المقصود کون القریـة کأهلها شاهدةً علی المطلب وعالمـة بها بحیث صار من شدّة الوضوح معلوماً عند نفس القریـة أیضاً ، والتأمّل فی جمیع الاستعمالات المجازیـة یرشدنا إلیٰ هذا المعنیٰ .
إذا عرفت معنی المجاز ، یظهر لک أنّ تخصیص العامّ فی أکثر العمومات المتداولـة الشائعـة لایستلزم المجازیـة فی العامّ أصلاً ؛ إذ لیس المقصود فیها ادّعاء کون ما عدا مورد المخصّص هو نفس العامّ بحیث کأ نّـه لم یکن المخصّص من أفراد العامّ أصلاً ، فإنّ قولـه تعالیٰ : «أوفوا بالعقود» لایتضمّن ادّعاء أنّ العقود الفاسدة ـ کالربا ونظائره ـ لا تکون عقداً حقیقـة ، بل العقد إنّما ینحصر فی العقود النافذة الماضیـة فی الشریعـة ، فباب العموم والخصوص لیس لـه کثیر ربط بالمجاز بالمعنی المتقدّم .
نعم یبقی الکلام فی الجمع بین العموم الظاهر فی شمول الحکم لجمیع
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 271 الأفراد وبین الخصوص الظاهر فی عدم کون مورده مقصوداً من أوّل الأمر ؛ إذ لیس التخصیص کالنسخ ، کما هو واضح .
والتحقیق فیـه أن یقال : إنّ هذا النحو الذی یرجع إلی إلقاء القاعدة الکلیـة أوّلاً ثمّ بیان المستثنیات شائع بین العقلاء المقنّنین للقوانین العرفیـة والجاعلین للقواعد التی یتوقّف النظام علیها ، فإنّ التأمّل فیها یرشد إلی أنّ دأبهم فی ذلک هو جعل الحکم الکلّی أوّلاً ثمّ إخراج بعض المصادیق عنـه .
ولابدّ فی مقام الجمع بینهما من أن یقال بأنّ البعث الکلّی المنشأ أوّلاً أو الزجر کذلک وإن کان بعثاً کلّیاً حقیقةً وزجراً کذلک إلاّ أ نّـه لایکون المقصود منـه الانبعاث أو الانزجار فی الجمیع ، بل الانبعاث والانزجار فی بعض الأفراد دون البعض الآخر ، والکاشف عن عدم کون البعث الکلّی لغرض الانبعاث فی الکلّ هو ورود التخصیص الدالّ علیٰ عدم کون مورده مقصوداً من أوّل الأمر أصلاً ، فقولـه : أکرم العلماء ، بعث إلی إکرام جمیع العلماء حقیقـة إلاّ أنّ إخراج الفسّاق منهم یکشف عن أنّ البعث المتوجّـه إلیهم أیضاً فی ضمن الجمیع لایکون لغرض الانبعاث بل لغرض آخر ، والفائدة فی هذا النحو من جعل الحکم یظهر فی موارد الشکّ فی التخصیص ، کما سیأتی .
وما ذکرنا هو الذی یرجع إلیـه قولهم : بأنّ التخصیص تخصیص فی الإرادة الجدّیـة لا الاستعمالیـة ، فإنّ المراد بالإرادة الاستعمالیـة هو أنّ ظاهر الاستعمال هو تعلّق البعث مثلاً بجمیع أفراد العلماء وإن کان فی الواقع لایکون المقصود ـ أی تحقّق الانبعاث ـ إلاّ بالنسبـة إلیٰ غیر الفاسق منهم ، لا أنّ کلمـة «العلماء» قد اُرید منها الجمیع استعمالاً لا جدّاً حتّیٰ یقال ـ کما فی تقریر المحقّق النائینی ـ بأ نّا لا نتصوّر للاستعمال إرادة مغایرة للإرادة الجدّیـة ، فهی ـ أی کلمـة «العلماء» ـ إن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272 اُرید معناها ، فقد اُرید جدّاً ، وإلاّ یکون هازلاً ، وذلک ینشأ من عدم الوصول إلیٰ مرادهم فإنّک عرفت أنّ مرادهم من الإرادة الاستعمالیـة هو أنّ تعلّق الحکم بجمیع الأفراد مدلول علیـه بظاهر الاستعمال ، ولکن تعلّقـه فی الواقع إنّما هو ببعض الأفراد ، فراجع کتاب الدّرر تجده مصرّحاً بما ذکرنا فی بیان مرادهم .
وکیف کان فقد عرفت : أنّ التخصیص یکشف عن عدم تعلّق البعث لغرض الانبعاث ، والزجر لغرض الانزجار بمورد المخصّص ، فلا دلیل علیٰ رفع الید عن حجّیتـه بالنسبـة إلی الباقی بعد ظهور الکلام وعدم معارض أقویٰ .
ثمّ إنّـه فی التقریرات ـ بعد الإشکال بعدم تصوّر الإرادة الاستعمالیـة المغایرة للإرادة الجدّیـة ـ أجاب بأنّ التخصیص لایوجب المجازیـة لا فی الأداة ولافی المدخول .
أمّا فی الأداة : فلأنّها لم توضع إلاّ للدلالـة علی استیعاب ما ینطبق علیـه المدخول ، وهذا لایتفاوت الحال فیها بین سعـة دائرة المدخول أو ضیقها أصلاً .
وأمّا فی المدخول : فلأنّـه لم یوضع إلاّ للطبیعـة المهملـة المعرّاة عن جمیع القیود ، فالعالم مثلاً لیس معناه إلاّ من انکشف لدیـه الشیء من دون دخل العدالـة وغیرها فیـه أصلاً ، فلو قیّد العالم بالعادل مثلاً لم یستلزم ذلک مجازاً فی لفظ العالم أصلاً ؛ لأنّـه لم یستعمل إلاّ فی معناه ، وخصوصیّـة العدالـة إنّما استفیدت من دالّ آخر ، وهذا لا فرق فیـه بین اتّصال القید وانفصالـه وعدم ذکر القید أصلاً .
أقول : أمّا عدم لزوم المجاز فی الأداة فهو مسلّم ، وکذا فی المدخول فیما إذا
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 273 کان المخصّص متّصلاً ، وأمّا فی المخصّص المنفصل فنقول : ما الذی اُرید بالعالم قبل ورود التخصیص علیـه ؟ فإن اُرید الجمیع من غیر اختصاص بالعادل ـ کما هو ظاهر اللّفظ ـ فهو ینافی إخراج الفسّاق بعده ، وإن اُرید خصوص العادل ، فإن استعمل لفظ العالم فی خصوص العادل منـه ، فهو لو لم نقل بکونـه غلطاً فلا محالـة یکون مجازاً ، وإن لم یستعمل فیـه فهو هازل ، کما صرّح بـه فی الإشکال .
فالإنصاف أ نّـه لا مفرّ من الإرادة الاستعمالیـة بالمعنی الذی ذکرنا ، وعدم لزوم المجاز ؛ لما عرفت من عدم ارتباط المقام بباب المجازات أصلاً .
ثمّ إنّ ما ذکره بعض المحقّقین : ـ من محشّی الکفایـة ـ من أنّ الإنشاء الواحد لو کان بعثاً حقیقیّاً بالإضافـة إلی البعض دون البعض الآخر مع کونـه متعلّقاً بـه فی مرحلـة الإنشاء یلزم صدور الواحد عن داعیین بلا جهـة جامعـة تکون هو الداعی ، ففیـه : أنّ الداعی فی أمثال المقام لیس راجعاً إلیٰ ما یصدر منـه الفعل حتّیٰ یقال بأنّ الواحد لایصدر إلاّ من واحد ، والدلیل علی ذلک مانراه بالوجدان من اجتماع الدواعی المختلفـة علیٰ بعض الأفعال الصادرة منّا ، ولا استحالـة فیـه أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .
والمحکی عن المقالات : أ نّـه ذکر فی وجـه حجّیـة العامّ فی الباقی أنّ الکثرة والشمول الذی هو معنی العامّ یسری إلی لفظـه ، فکأ نّـه أیضاً کثیر ، فسقوط بعض الألفاظ عن الحجّیـة لایستلزم سقوط الباقی .
ویقرب هذا ممّا ذکره الشیخ فی التقریرات فی وجـه الحجّیـة بعد تسلیم
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 274 المجازیـة .
ولایخفیٰ أنّ هذا الکلام ـ الذی بالشعر أشبـه ـ مردود : بأنّ سرایـة الکثرة إلی اللّفظ ممّا لا معنیٰ لها أصلاً ، نظیر القول بسرایـة الحسن والقبح إلی الألفاظ ، فإنّ من الواضح أنّ اللّفظ من حیث هو لایکون حسناً ولا قبیحاً ، ولذا لو اُلقی علی الجاهل بمعناه لم یتوجّـه إلیٰ شیء منهما ، کما لایخفیٰ .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275