تحقیق فی الترتّب
ثمّ إنّـه یظهر من المحقّق النائینی قدس سره القول بالترتّب ، وقد أطال الکلام فی ذلک بإقامـة مقدّمات کثیرة ، ونحن نقتصر علیٰ ما یرد علیها ، فنقول :
أمّا المقدّمـة الاُولیٰ : الراجعـة إ لی إثبات أنّ ما أوقع المکلّف فی مضیقـة ، الجمع بین الضدّین وأوجبـه علیـه هل هو نفس الخطابین الفعلیین أو إطلاقهما وشمولهما لحالتی فعل الآخر وعدمـه ، فهی وإن کانت بنفسها صحیحةً إلاّ أنّـه لایترتّب علیـه النتیجـة ، کما سیأتی ، ویبقیٰ فیها ما أورده علی الشیخ من المناقضـة بین ما اختاره فی هذا المقام من إنکار الترتّب غایـة الإنکار وبین ما ذکره الشیخ فی مبحث التعادل والترجیح من الفرائد حیث قال فی الجواب عمّا قیل من أنّ الأصل فی المتعارضین عدم حجّیـة أحدهما ما لفظـه : لکن لمّا کان امتثال التکلیف بالعمل بکلٍّ منهما ـ کسائر التکالیف الشرعیّـة والعرفیّـة ـ مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ کلاًّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر ، وغیر مقدور مع إیجاد الآخر ، فکلٌّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکـه ویتعیّن فعلـه ، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکـه ، ولایعاقب علیـه ، فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجـة أدلّـة وجوب الامتثال ، والعمل بکلٍّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا یحکم بـه بدیهـة العقل ، کما فی کلّ واجبین اجتمعا علی المکلّف ، ولا مانع من تعیین کلٍّ منهما علی المکلّف بمقتضیٰ دلیلـه إلاّ تعیین
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134 الآخر علیـه کذلک . انتهیٰ موضع الحاجـة .
ومحصّل الإیراد : أنّ هذا الکلام صریح فی أنّ التخییر فی الواجبین المتزاحمین إنّما هو من نتیجـة اشتراط کلٍّ منهما بالقدرة علیـه ، وتحقّقها فی حال ترک الآخر ، فیجب کلٌّ منهما عند ترک الآخر ، فیلزم الترتّب من الجانبین مع أنّـه قد أنکره من جانب واحد ، ولیت شعری أن ضمّ ترتّب إ لیٰ ترتّب آخر کیف یوجب تصحیحـه ؟ !
أقول : من الواضح الذی لایعتریـه ریب أنّ کلامـه هناک لایدلّ علی الترتّب من الطرفین أصلاً ، کیف ومعنی الترتّب کون الأمر الثانی فی طول الأمر الأوّل لاشتراطـه بما یتأخّر عنـه رتبةً ، وحینئذٍ فکیف یمکن أن یکون کلٌّ من الأمرین فی طول الآخر ومتأخّراً عنـه رتبةً ؟ ! لأنّ مقتضاه إمکان تقدّم الشیء علیٰ نفسـه المستحیل بداهـة ، بل المراد من العبارة ما ذکرناه وحقّقناه فی هذا المقام من أنّ الأمرین باقیان علی إطلاقهما من دون أن یکون أحدهما مقیّداً بما یتأخّر عن الآخر أو بشیء آخر ، غایـة الأمر أنّ وجوب الامتثال الذی هو حکم عقلی مشروط بالقدرة علیـه ، وحیث إنّـه لا ترجیح بین الامتثالین هناک ، فالعقل یحکم بتخییر المکلّف ومعذوریّتـه فی مخالفـة ترک الآخر لو لم یخالف المجموع ، فالمقیّد بالقدرة ونظائرها إنّما هو حکم العقل بوجوب الامتثال ، لا أصل الخطابین ، وهذا هو ظاهر کلام الشیخ حیث ذکر أنّ المقیّد بالقدرة إنّما هو حکم العقل .
نعم یرد علی الشیخ : سؤال الفرق بین المقامین حیث حکم باستحالـة ثبوت الأمرین فی المقام مع أنّـه اختار ثبوتهما هناک ، فإنّ الظاهر جریان هذا الوجـه بعینـه فی المقام بلا فرق بینهما أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135 وأمّا المقدّمـة الثانیـة : الراجعـة إ لی أنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطـه حالـه حالـه قبل تحقّق شرطـه من حیث إنّـه بعدُ علیٰ صفـة الاشتراط ، ولایتّصف بصفـة الإطلاق ، وذلک لأنّ الشرط فیـه یرجع إ لیٰ قیود الموضوع ، إ لی آخر ما ذکرنا .
فیرد علیها ما تقدّم منّا فی الواجب المطلق والمشروط من أنّ أخذ القید بحسب الواقع ونفس الأمر علیٰ وجهین ، فإنّـه قد یکون الشیء محبوباً للإنسان عند حصول شرط بحیث لایکون بدونـه مطلوباً وإن کان ربّما یمنع عن تحقّق القید ، وقد یکون الشیء المقیّد محبوباً لـه بحیث ربّما یتحمّل لأجل تحقّق مطلوبـه مشاقّاً کثیرة ، فالصلاة فی المسجد قد تکون محبوبةً للإنسان لأجل ما یترتّب علیها ، فلو لم یکن مسجد یصیر بصدد بنائـه لأجل تحقّق مطلوبـه ، وقد تکون الصلاة محبوبةً لـه علیٰ تقدیر تحقّق المسجد بحیث یشتاق إ لیٰ عدم تحقّق المسجد لأجل انزجاره من الصلاة ، ولکن علیٰ تقدیر تحقّقـه یتعلّق حبّـه بها ، وحینئذٍ فمع کون الأمر فی الواقع علیٰ قسمین ، فلا وجـه لإرجاع جمیع القیود إ لیٰ قیود الموضوع مع ترتّب الثمرة بین الوجهین فی مواضع کثیرة ، منها : الاستصحاب ، بل لایجوز ذلک أصلاً ، کما لایخفیٰ .
ثمّ علیٰ تقدیر التسلیم فإرجاع القیود إ لی الموضوع إنّما هو فی القیود التی أخذها المولیٰ فی مقام الحکم ، وجعلـه مقیّداً بها دون ما یأتی من ناحیـة العقل ، کما فی المقام ، حیث إنّـه یحکم بناء علی الترتّب بکون الأمر بالمهم مقیّداً بما یتأخّر عن الأمر بالأهمّ ، فالتقیید تقیید عقلی لا ربط لـه بالخطابین ، فإنّهما مطلقان ، کما لایخفیٰ .
ثمّ إنّـه یظهر منـه أنّـه لو لم یکن الشرط من قیود الموضوع فاللاّزم أن یکون من علل التشریع مع أنّ هنا أمراً ثالثاً یرجع إ لیـه الواجب المشروط ، وهو أن
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 136 یکون المجعول ـ وهو الحکم ـ مقیّداً بذلک الشرط ، فإنّـه لا مجال لأن یقال بأنّ الشرط فیـه من علل التشریع ، بل المشروع والمجعول مقیّداً بـه وثابت علیٰ تقدیر تحقّقـه ، کما لایخفیٰ .
ثمّ لایخفیٰ أنّ عدم انقلاب الواجب المشروط عن کونـه کذلک بعد تحقّق شرطـه لایتوقّف علیٰ کون الشرط من قیود الموضوع ، بل الظاهر عدم الانقلاب بناءً علیٰ ما اخترناه وحقّقناه فی الواجب المشروط أیضاً ، فإنّ المراد بالحکم الذی یتوهّم انقلابـه عند تحقّق شرطـه هل هو الجزاء المترتّب علی الشرط .
وبعبارة اُخریٰ : الجملـة المتضمّنـة للبعث ، فمن الواضح عدم معقولیـة عروض الانقلاب لـه .
وإن کان المراد بـه هی الإرادة التشریعیـة ، فقد عرفت أنّ معناها لیس إرادة إتیان العبد بـه ، کیف ومن المستحیل انفکاک الإتیان عنها ، بل معناها یرجع إ لی إرادة الجعل والتشریع التی یعبّر عنها بالفارسیـة بـ (قانونگذاری) ومن المعلوم استحالـة عروض التغیّر والانقلاب لها ، بل لا معنیٰ لانقلابها ، کما لایخفیٰ .
وأمّا المقدّمـة الثالثـة : فمقارنـة زمان الشرط والتکلیف والامتثال وإن کانت مسلّمةً إلاّ أنّ ما أجاب بـه عن الإشکال الثانی الذی یرجع إ لی أنّ الترتّب مستلزم لإیجاب الجمع لایتمّ ، کما سیجیء فی الجواب عن المقدّمـة الخامسـة .
وأمّا المقدّمـة الرابعـة : التی یبتنیٰ علیها الترتّب والطولیـة ، فیرد علی التقسیم إ لی الأقسام الثلاثـة أنّ الإطلاق لیس معناه إلاّ مجرّد أخذ الشیء موضوعاً للحکم مع عدم تقییده ببعض القیود ، فمن أجل أنّـه فاعل مختار یمکن لـه بیان ما لَـه دخلٌ فی موضوع حکمـه ، ومع ذلک فلم یأخذ شیئاً آخر ، یستفاد أنّ ذلک الشیء تمام الموضوع ، فالإطلاق اللحاظی بالمعنی الذی ذکره لا وجـه لـه أصلاً ، بل لا معنیٰ لـه ، وحینئذٍ فنقول : إنّ الإطلاق بالمعنی الذی ذکرنا علیٰ
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 137 قسمین : قسم یمکن للعبد أن یحتجّ بـه علی المولیٰ ، کما فی القیود والتقادیر المتصوّرة علی القسمین الأوّلین ، وقسم لایمکن للعبد ذلک ، کما بالنسبـة إ لی القیود التی یقتضیـه نفس الخطاب ، وهو القسم الثالث الذی ذکره .
وکیف کان فغایـة هذه المقدّمـة إثبات الترتّب والطولیـة ، وهو لایستلزم الخروج عن إیجاب الجمع ، کما سنبیّن فیما یتعلّق علی المقدّمـة الخامسـة .
وأمّا المقدّمـة الخامسـة : التی سیقت لبیان أنّ الترتّب لایقتضی إیجاب الجمع ، فینبغی أوّلاً الإشارة إ لیٰ وجـه تأخّر العصیان المشروط بـه خطاب المهمّ عن الأمر بالأهمّ ، ثمّ النظر إ لی أنّـه علیٰ فرض الترتّب هل یجدی ذلک فی إخراج المسألـة عن إیجاب الجمع بین الضدّین أو لا ؟
فنقول : قد یقال ـ کما قیل ـ : إنّ الوجـه فی تأخّر عصیان الأمر بالأهمّ عنـه : أنّ العصیان نقیض للإطاعـة والامتثال ؛ إذ هو ترک المأمور بـه لا عن عذر ، والإطاعـة متأخّر عن الأمر ؛ لأنّ الانبعاث متأخّر عن البعث ؛ إذ هو معلول لـه ، والإتیان بمتعلّق الأمر وإن لم یکن متأخّراً عنـه إلاّ أنّ صدق الامتثال والإطاعـة علیـه یتوقّف علیٰ تحقّقـه والالتفات إلیـه ، وحینئذٍ فإذا ثبت تأخّر الإطاعـة عن الأمر فیظهر تأخّر العصیان عنـه أیضاً ؛ لأنّـه نقیض لها ، والنقیضان متساویان فی الرتبـة وما مع المتقدّم فی الرتبـة یکون متقدّماً فی الرتبـة أیضاً .
هذا ، ولکن قد عرفت سابقاً منع اتّحاد النقیضین من حیث الرتبـة ، ولو سلّم فما مع المتقدّم فی الرتبـة لایکون متقدّماً فی الرتبـة ؛ لما عرفت سابقاً من أنّ التقدّم والتأخّر بحسب العقل مستند إلیٰ ملاکهما ، ومع عدم الملاک لایحکم بالتقدّم أو التأخّر .
هذا ، والعمدة فی منع تأخّر العصیان عن الأمر ما عرفت من أنّ معنی العصیان هو ترک المأمور بـه لا عن عذر ، وهو من الأعدام والأعدام لا تکون
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138 متأخّرة عن شیء ولا متقدّمـة علیـه ؛ لأنّـه لیس بشیء حتّیٰ یحکم علیـه بحکم وجودی .
ومن هنا یظهر : أنّـه لایعقل أن یکون خطاب المهم مشروطاً بـه بعد کونـه من الأعدام ، ولایعقل ثبوت التأثیر لها أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .
وکیف کان فعلیٰ تقدیر تسلیم الترتّب والطولیـة بین الأمرین فنقول : إنّ ذلک لایجدی فی رفع غائلـة استحالـة طلب الضدّین ، فإنّ شرط خطاب المهمّ إمّا أن یکون نفس العصیان بحسب وجوده الخارجی المتوقّف علیٰ مضیّ زمان لایمکن معـه الامتثال فی الزمان الباقی ، وهو الذی یترتّب علیـه سقوط الأمر بالأهم ؛ لأنّ بقاءه مستلزم لتعلّق الطلب بغیر المقدور ، کما هو المفروض ، وإمّا أن یکون العنوان الذی ینتزع منـه بعد کونـه متحقّقاً فی ظرفـه بحسب الواقع ونفس الأمر ، وهو کون المکلّف ممّن یعصیٰ أو تعقّب العصیان وتأخّره ونظائرهما ، وإمّا أن یکون الشرط التلبّس بالعصیان والشروع فیـه ، وإمّا أن یکون أحد العناوین الاُخر المنطبقـة علی أحد الوجوه المتقدّمـة .
إذا عرفت ذلک ، نقول : أمّا لو کان الشرط هو العصیان الخارجی الذی عرفت أنّـه لایتحقّق إلاّ بعد مضیّ مقدار من الزمان لایمکن معـه الامتثال فی الباقی ، فمن الواضح أنّـه بمجرّد تحقّقـه یسقط الأمر بالأهمّ ، کما أنّ قبل تحقّقـه لایکون الأمر بالمهمّ موجوداً ؛ لعدم تحقّق شرطـه بعد فقبل تحقّق العصیان لایتحقّق الأمر بالمهمّ ، وبعد تحقّقـه لایبقی الأمر بالأهمّ ، فأین یلزم اجتماع الأمرین الذی علیـه یبتنی القول بالترتّب ، وأمّا لو کان الشرط هو العنوان الذی ینتزع من العصیان المتأخّر ، فمن الواضح لزوم طلب الجمع ؛ لأنّ بمجرّد تحقّق الزوال مثلاً الذی یتحقّق معـه شرط خطاب المهمّ یکون مأموراً بإتیان الأهمّ ویحرّکـه الأمر المتعلّق بـه نحوه ، وبإتیان المهمّ أیضاً لتحقّق شرطـه ، وهکذا لو کان الشرط هو التلبّس
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 139 بالعصیان لو کان لـه معنی معقول .
والحاصل : إمّا أن یکون الشرط أیّ شیء کان مؤثّراً فی سقوط خطاب الأهمّ ، فلایبقیٰ مجال للترتّب ، وإمّا أن لایکون کذلک ، فیلزم طلب الجمع ، کما هو واضح .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140