الدلیل الأوّل : الآیات
منها : قولـه تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِینَ حَتّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً» .
وقد اُورد علی التمسّک بـه تارة : بأنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذیب سابقاً بعد البعث ، فیختصّ بالعذاب الدنیوی الواقع فی الاُمم السابقـة .
واُخری : بأنّ نفی فعلیـة التعذیب أعمّ من نفی الاستحقاق .
وثالثـة : بأنّ مفادها أجنبی عن البراءة ، فإنّ مفادها الإخبار بنفی التعذیب
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 495 قبل إتمام الحجّـة ، کما هو حال الاُمم السابقـة ، فلا دلالـة لها علی حکم مشتبـه الحکم ؛ من حیث إنّـه مشتبـه ، فهی أجنبیـة عمّا نحن فیـه .
وأنت خبیر بعدم تمامیـة شیء من هذه الإیرادات .
أمّا الأوّل : فلأنّ الآیـة إنّما وقعت فی ذیل الآیات الواردة فی القیامـة ، ولا اختصاص لها ، بل لا ارتباط لها بنفی العذاب الدنیوی بالنسبـة إلی الاُمم السالفـة . وحینئذٍ فیکون المراد بالتعذیب المنفی هو العذاب الاُخروی ، کما أنّ المراد ببعث الرسول لیس مجرّد بعثـه ، ولو لم یکن مأموراً بالتبلیغ ، کما یدلّ علی ذلک ـ مضافاً إلی أنّـه هو المتفاهم منـه ـ ذکر الرسول ، لا النبیّ ، بل المراد بـه أنّ البعث لأجل التبلیغ وإتمام الحجّـة إنّما یکون غایـة لعدم التعذیب .
ومن هنا یظهر : أنّـه لو بلغ بعض الأحکام دون بعض ، أو بلّغها إلی أهل بلد خاصّ دون سائر البلدان ، أو بلّغها إلی جمیع البلدان فی عصره ، ثمّ لم یبلغ إلی الأعصار المتأخّرة ؛ لأجل الموانع والحوادث یفهم من الآیـة عدم التعذیب بالنسبـة إلی التکلیف الذی لم یبلّغـه أصلاً ، أو الشخص الذی لم یصل إلیـه ، وحینئذٍ فالآیـة ظاهرة ، بل صریحـة فی نفی العذاب بالنسبـة إلی ما لم یصل إلی المکلّف .
هذا ، ولو سلّم ظهورها فی الإخبار بوقوع التعذیب سابقاً بعد البعث ، واختصاصها بالعذاب الدنیوی الواقع فی الاُمم السابقـة فنقول : یستفاد منـه البراءة فی المقام حینئذٍ بطریق أولی ؛ إذ لو کان التعذیب الدنیوی مع کونـه یسیراً محدوداً بمکان لایصدر منـه تعالی إلاّ بعد بعث الرسول وإتمام الحجّـة فالعذاب الاُخروی الذی لایمکن قیاسـه مع العذاب الدنیوی ، لا من حیث الکمّ ، ولا من حیث الکیف
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 496 لایصدر منـه تعالی إلاّ بعد ذلک بطریق أولی ، کما لایخفی .
وأمّا الثانی : فلأنّـه لیس المقصود فی المقام إثبات نفی الاستحقاق ، بل یکفینا مجرّد ثبوت المؤمّن عن العذاب ، وإن کان أصل الاستحقاق ثابتاً .
وأمّا الثالث : فیظهر الجواب عنـه ممّا ذکرناه فی الجواب عن الإیراد الأوّل .
هذا ، ویبقی فی الآیـة أنّـه لو ثبت بدلیل وجوب الاحتیاط لایکون التعذیب حینئذٍ تعذیباً قبل بعث الرسول ، حتّی لایناسب مقامـه ـ جلّ شأنـه ـ کما لایخفی .
ومنها : قولـه تعالی : «لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ نَفْساً إِلاّ مٰا آتٰاهٰا» .
ویقع الکلام فیـه فی مقامین : أحدهما فی إمکان دلالتـه علی المقام ، ثانیهما فیما هو ظاهره .
أمّا المقام الأوّل : فلا إشکال فی أنّـه لو کان المراد من التکلیف هو التکلیف الفعلی ، ومن الموصول هو التکلیف الفعلی أیضاً أو أعمّ منـه ومن المال وغیره یلزم المحال ؛ لأنّـه یصیر معناه حینئذٍ : أنّ التکلیف الفعلی لایتحقّق إلاّ بعد إیصال التکلیف الفعلی ، فیکون اتصافـه بالفعلیـة مشروطاً بإیصالـه متصفاً بها ، وهذا دور صریح .
وکذا یلزم ذلک لو کان المراد من کلیهما هو التکلیف الشأنی ، وأمّا لو کان المراد بالأوّل هو التکلیف الفعلی وبالموصول هو التکلیف الشأنی فلایلزم المحال بوجـه ، کما أنّـه لو کان المراد من قولـه : «لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ» هو عدم إیقاعـه تعالی نفساً فی الکلفة والمشقّة ، لا التکلیف المصطلح فلا مانع من أن یکون المراد بالموصول هو التکلیف الفعلی . وحینئذٍ یصیر معنی الآیـة : أنّـه تعالی لایوقع نفساً
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 497 فی المشقّـة إلاّ من قبل التکالیف الواقعیـة الفعلیـة التی بلّغها إلی المکلّف .
وحینئذٍ فیدلّ علی نفی وجوب الاحتیاط أیضاً ؛ لأنّـه لو فرض وجوب الاحتیاط یلزم إیقاع المکلّف فی الکلفـة من قبل التکالیف المجهولـة التی لم تصل إلی المکلّف ؛ ضرورة أنّ إیجاب الاحتیاط لیس إلاّ لرعایـة حفظ الواقع ، ولایکون وجوبـه إلاّ طریقیاً ، فلایقال بأنّ الآیـة لاتنافی وجوب الاحتیاط ؛ لأنّـه تکلیف واصل إلی المکلّفین ، فلا مانع من وقوع المکلّف فی المشقّـة من ناحیتـه ، فتدبّر .
ثمّ إنّـه لو اُرید بالموصول فی الآیـة أعمّ من التکلیف فالظاهر أنّـه ممّا لایمکن ؛ لأنّـه لایعقل أن یتعلّق التکلیف بالتکلیف إلاّ علی وجـه تعلّق الفعل بالمفعول المطلق ، کما أنّ تعلّقـه بالمال أو بمطلق الشیء إنّما یکون علی وجـه تعلّقـه بالمفعول بـه ، وهذان الوجهان ممّا لایمکن فرض الجامع القریب بینهما ؛ لأنّ المفعول بـه لابدّ وأن یکون مفروض التحقّق قبل ورود الفعل علیـه ، والمفعول المطلق إنّما هو من شؤون الفعل وأنواعـه ، ولا جامع بین ما یقع علیـه الفعل وبین ما هو مأخوذ من نفس الفعل . وإن شئت قلت فی المقام بعدم الجامع بین التکلیف والمکلّف بـه .
هذا ، واُجیب عن ذلک بوجوه :
منها : ما أفاده المحقّق النائینی علی ما فی التقریرات من أنّ إرادة العموم من الموصول لایستلزم أن یکون المراد من الموصول الأعمّ من المفعول بـه والمفعول المطلق ، بل یراد منـه خصوص المفعول بـه .
وتوهّم أنّ المفعول بـه لابدّ وأن یکون لـه نحو وجود وتحقّق فی وعائـه قبل ورود الفعل علیـه ممنوع بأنّ المفعول المطلق النوعی والعددی یصحّ جعلـه مفعولاً بـه بنحو من العنایـة ، مثلاً الوجوب وإن کان وجوده بنفس الإیجاب
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 498 والإنشاء إلاّ أنّـه باعتبار ما لـه من المعنی الاسم المصدری یصحّ تعلّق التکلیف بـه . نعم ، الوجوب بالمعنی المصدری لایصحّ تعلّق التکلیف بـه .
هذا ، ولایخفی ما فیـه ، فإنّ المعنی الاسم المصدری هو ما یحصل من المصدر ، ویتحقّق منـه ، فیکون فی الرتبـة المتأخّرة عن نفس المصدر ، وحینئذٍ فکیف یعقل فرض وجود لـه قبیل المصدر ، ثمّ إیقاعـه علیـه ، کما هو واضح .
ومنها : ما أفاده المحقّق العراقی من أنّ هذا الإیراد إنّما یرد فی فرض إرادة الخصوصیات المزبورة من شخص الموصول ، وإلاّ فبناءً علی استعمال الموصول فی معناه الکلّی العامّ ، وإرادة الخصوصیات من دوالّ اُخر خارجیـة فلایتوجّـه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا فی لفظ الإیتاء ، ولا فی تعلّق الفعل بالموصول ؛ لأنّـه لم تستعمل الموصول والإیتاء إلاّ فی المعنی الکلّی ، وإفادة الخصوصیات إنّما هی بدوالّ اُخر . وکذلک تعلّق الفعل بالموصول لیس إلاّ نحو تعلّق واحد . ومجرّد تعدّده بالتحلیل لایقتضی تعدّده بالنسبـة إلی الجامع ، انتهی ملخّصاً .
وأنت خبیر بأنّـه بعد فرض عدم وجود الجامع القریب بین خصوصیات الموصول کیف یمکن أن یقال بأنّها مستعملـة فی المعنی العام .
نعم ، الإیتاء مستعمل فی معناه ، وهو الإعطاء ، وهو أمر کلّی جامع بین الإعطاء والإقدار والإعلام ، وبعد عدم وجود الجامع لایکون النسبـة أیضاً متعلّقـة بـه ، حتّی یقال بأنّ تعدّدها إنّما هو بالتحلیل .
أمّا المقام الثانی : ـ بحسب مقام الإثبات والاستظهار ـ فدعوی ظهور
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 499 الآیـة فیـه ممنوعـة ، والذی یدفع الإشکال : أنّ ظاهر الآیـة ـ بقرینـة ما قبلها وما بعدها ـ ینافی الحمل علی التکلیف ، وکونها بمنزلـة کبری کلّیـة لایوجب شمولها للتکلیف ، بل الظاهر أنّ مفادها هو مفاد قولـه تعالی : «لاٰ یُکَلِّفُ اللّٰـهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهٰا» ، فلامجال للاستدلال بها علی المقام ، کما لایخفی .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 500