تحقیق فی الجواب علی مسلک الخطابات القانونیّـة
وتنقیح الکلام فی هذا المقام بحیث یظهر منـه صحّـة الاشتراط ولزومـه أو عدمهما یتوقّف علیٰ رسم مقدّمات :
الاُولیٰ : أنّـه لیس للحکم إلاّ مرتبتان : مرتبـة الإنشاء ومرتبـة الفعلیـة ، بل نقول : إنّهما لیستا مرتبتین للحکم بأن یکون کلّ حکم ثابتاً لـه هاتان المرتبتان ، بل هما مقسمان لطبیعـة الحکم بمعنی أنّ الأحکام علیٰ قسمین : أحدهما : الأحکام الإنشائیـة ، وثانیهما : الأحکام الفعلیـة ، والمراد بالاُولیٰ هی الأحکام التی لم یکن فیها ما یقتضی إجراءها بعد جعلها بل اُوحی إلیها إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم وأودعها صلی الله علیه و آله وسلم إلی الأئمّـة علیهم السلام حتّیٰ یظهر قائمهم علیه السلام ، فیجریها ، کما أنّ المراد بالثانیـة هی القوانین والأحکام التی قد اُجریت بعد الوحی ، وهی الأحکام
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128 المتداولـة بین الناس التی أظهرها النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم أو الأئمّـة من بعده .
والدلیل علیٰ ما ذکرنا من أنّـه لیس الفعلیـة والإنشائیـة مرتبتین للحکم بأن یکون العالم مثلاً حکمـه فعلیّاً والجاهل إنشائیاً : أنّ المراد بالحکم الذی یجعلون لـه المرتبتین بل المراتب الأربع ـ کما فی الکفایـةـ إن کان هو العبارة المکتوبـة فی القرآن أو فی کتب الحدیث فمن الواضح البدیهی أنّـه لایعرض لـه التغییر بتغیّر حالات المکلّف من حیث العلم والجهل والقدرة والعجز ونظائرها ، وإن کان المراد بـه هو حقیقـة الحکم الراجعـة إلی إرادة المبدأ الأعلی جلّ شأنـه ، فمن الواضح أیضاً أنّـه لایعرض لها التغییر باختلاف الحالات المذکورة ؛ لامتناع عروض التغیّر لـه تعالیٰ ، کما لایخفیٰ .
الثانیـة : لایذهب علیک ثبوت الفرق بین الخطاب بنحو العموم وبین الخطاب بنحو الخصوص فی بعض الموارد ، منها : مسأ لـة الابتلاء ، فإنّـه یشترط فی صحّـة توجیـه الخطاب الخاصّ وعدم استهجانـه أن یکون المخاطب مبتلیٰ بالواقعـة المنهی عنها ، کما أنّـه یشترط فی صحّـة توجیـه الخطاب الخاصّ المتضمّن للأمر أن لایکون للمخاطب داعٍ إلی إتیان المأمور بـه مع قطع النظر عن تعلّق الأمر .
والسرّ فی ذلک أنّ الأمر والنهی إنّما هو للبعث والزجر ، ویقبح زجر المکلّف عمّا یکون متروکاً ؛ لعدم الابتلاء بـه ، کما هو واضح ، وهذا بخلاف الخطاب بنحو العموم ، کما هو الشأن فی جمیع الخطابات الواردة فی الشریعـة ، فإنّـه لایشترط فی صحّتـه أن یکون کلّ واحد من المخاطبین مبتلی بالواقعـة المنهیّ عنها ؛ لعدم انحلال ذلک الخطاب إلیٰ خطابات عدیدة حسب تعدّد المخاطبین حتّیٰ یشترط
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 129 فیـه ذلک ، بل یشترط فیـه أن لایکون جمیعهم أو أکثرهم تارکین للمنهی عنـه ؛ لعدم الابتلاء ، وأمّا لو کان بعضهم تارکاً لـه ولم یکن فی البین ما یمیّز کلّ واحد من الطائفتین عن الاُخریٰ ، فلایضرّ بصحّـة الخطاب بنحو العموم أصلاً ، فما اشتهر بینهم من أنّـه إذا خرج بعض أطراف العلم الإجمالی عن مورد الابتلاء ، لم یجب الاجتناب من الآخر أیضاً لیس فی محلّـه ، کما حقّقناه فی موضعـه .
والوجـه فی عدم الانحلال : أنّـه لا إشکال فی کون الکفّار والعصاة مکلّفین بالأحکام الشرعیـة مع أنّـه لو قیل بالانحلال إلیٰ خطابات متکثّرة ، یلزم عدم کونهم مکلّفین ؛ لعدم صحّـة توجیـه الخطاب الخاصّ إلیهم بعد عدم انبعاثهم إلیٰ فعل المأمور بـه ، وعدم انزجارهم عن فعل المنهی عنـه أصلاً ، کما لایخفیٰ ، فمن کونهم مکلّفین یستکشف أنّـه لایشترط فی الخطاب بنحو العموم کون کلّ واحد من المخاطبین واجداً لشرائط صحّـة توجیـه الخطاب الخاصّ إلیـه .
والدلیل علیٰ عدم کون الخطابات الواردة فی الشریعـة مقیّدة بالعلم والقدرة ، مضافاً إلیٰ ما نراه بالوجدان من عدم کونها مقیّدةً بنظائرهما : أنّها لو کانت مقیّدةً بالقدرة بحیث لم یکن العاجز مشمولاً لها ومکلّفاً بالتکالیف التی تتضمّنـه تلک الخطابات یلزم فیما لو شکّ فی القدرة وعدمها إجراء البراءة ؛ لأنّ مرجع الشکّ فیها إلی الشکّ فی التکلیف ؛ لأنّ المفروض الشکّ فی تحقّق قیده ، وإجراء البراءة فی موارد الشکّ فی التکلیف ممّا لا خلاف فیـه بینهم مع أنّـه یظهر منهم القول بالاحتیاط فی مورد الشکّ فی القدرة کما یظهر بمراجعـة فتاویهم .
وأیضاً لو کانت الخطابات مقیّدةً بالقدرة ، یلزم جواز إخراج المکلّف نفسـه عن عنوان القادر ، فلایشملـه التکلیف ، کما یجوز للحاضر أن یسافر ، فلایشملـه
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 130 تکلیف الحاضر ، وکما یجوز للمکلّف أن یعمل عملاً یمنعـه عن صدق عنوان المستطیع علیـه ، وغیرهما من الموارد ، مع أنّ ظاهرهم عدم الجواز فی المقام ، ولیس ذلک کلّـه إلاّ لعدم اختصاص الخطاب بالقادرین ، بل یعمّ الجمیع غایـة الأمر کون العاجز معذوراً فی مخالفـة التکلیف المتعلّق بـه بحکم العقل .
وتوهّم : أنّـه کیف یمکن أن تتعلّق إرادة المولیٰ بإتیان جمیع الناس مطلوباتـه مع أنّ العقل یحکم بامتناع تعلّق الإرادة من الحکیم بإتیان العاجز .
مدفوع : بأنّـه لیس فی المقام إلاّ الإرادة التشریعیـة ، ومعناها لیس إرادة المولی إتیان العبد ، کیف ولازمـه استحالـة الانفکاک بالنسبـة إلی اللّٰـه جلّ شأنـه ؛ لما قرّر فی محلّـه من عدم إمکان تخلّف مراده تعالیٰ عن إرادتـه ، بل معنی الإرادة التشریعیـة لیست إلاّ الإرادة المتعلّقـة بجعل القوانین المتضمّنـة للبعث والزجر ، فمتعلّق الإرادة إنّما هو بعث الناس إلی محبوبـه وزجرهم عن مبغوضـه ، لا انبعاثهم وانزجارهم حتّیٰ یستحیل الانفکاک .
وبالجملـة ، فلایشترط فی جعل القوانین العامّـة إلاّ کونها صالحةً لانبعاث النوع وانزجار لسببـه کما یظهر بمراجعـة العقلاء المقنّین للقوانین العرفیـة ، فتأمّل فی المقام ؛ فإنّـه من مزالّ الأقدام .
الثالثـة : قد عرفت أنّ کلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ إنّما تعلّق بالطبیعـة معراة عن جمیع القیود ، ولیس فیها لحاظ الأفراد ولا لحاظ الحالات التی یطرأ بعد تعلّق الأمر بها حتّیٰ صار المولیٰ بصدد بیان العلاج ودفع التزاحم بین الأمرین فی حالـة الاجتماع .
الرابعـة : أنّـه لیس للعقل التصرّف فی أوامر المولیٰ بتقییدها ببعض القیود ، بل لـه أحکام توجب معذوریـة المکلّف بالنسبـة إلیٰ مخالفـة تکالیف المولیٰ ، فحکمـه بقبح العقاب فی صورة الجهل أو العجز لایرجع إلیٰ تقیید الأحکام بصورة
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131 العلم والقدرة حتّیٰ لایکون الجاهل أو العاجز مکلّفاً ، بل الظاهر ثبوت التکلیف بالنسبـة إلیٰ جمیع الناس أعمّ من العالم والجاهل والقادر والعاجز ، غایـة الأمر کون الجاهل والعاجز معذوراً فی المخالفـة بحکم العقل . نعم قد یکون حکم العقل کاشفاً عن بعض الأحکام الشرعیـة ، فحکمـه حینئذٍ طریق إلیـه ، کما لایخفیٰ .
الخامسـة : قد عرفت أنّ الخطابات الواردة فی الشریعـة إنّما تکون علیٰ نحو العموم ، ولایشترط فیها أن یکون کلّ واحد من المخاطبین قادراً علی إتیان متعلّقها ، بل یعمّ القادر والعاجز ، ومعذوریّـة العاجز إنّما هو لحکم العقل بقبح عقابـه علیٰ تقدیر المخالفـة ، لا لعدم ثبوت التکلیف فی حقّـه ، وحینئذٍ فالعجز إمّا أن یکون متعلّقاً بالإتیان بمتعلّق التکلیف الواحد ، وحینئذٍ فلا إشکال فی معذوریـة المکلّف فی مخالفتـه ، وإمّا أن یکون متعلّقاً بالجمع بین الإتیان بمتعلّق التکلیفین أو أزید بأن لایکون عاجزاً عن الإتیان بمتعلّق هذا التکلیف بخصوصـه ولایکون عاجزاً عن موافقـة ذلک التکلیف بخصوصـه أیضاً ، بل یکون عاجزاً عن الجمع بین موافقـة التکلیفین ومتابعـة الأمرین .
إذا عرفت هذه المقدّمات ، فنقول : إذا کان الأمران متعلّقین بالضدّین المساویین من حیث الأهمّیـة ، فالمکلّف حینئذٍ إمّا أن یشتغل بفعل واحد منهما أو بأمرٍ آخر ، وعلی الثانی إمّا أن یکون ذلک الأمر محرّماً وإمّا أن لایکون کذلک ، فالصور ثلاثـة :
أمّا الصورة الاُولیٰ : فلا إشکال فیها فی ثبوت الأمرین معاً ؛ لما عرفت فی المقدّمات السابقـة ، غایـة الأمر کونـه معذوراً فی مخالفـة واحد منهما لحکم العقل بمعذوریـة العاجز .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132 وأمّا الصورة الثانیـة : فالمکلّف یستحقّ فیها ثلاث عقوبات ، أمّا العقوبـة علیٰ ما اشتغل بـه من فعل المحرّم فواضح . وأمّا العقوبـة علیٰ مخالفـة کلٍّ من الأمرین : فلکونـه قد خالفهما من غیر عذر ؛ لفرض کونـه قادراً علی إتیان متعلّق کلّ واحد منهما ، وعجزه إنّما هو عن الجمع بینهما ، والجمع لایکون متعلّقاً للأمر حتّیٰ یعذر فی مخالفتـه ؛ لتحقّق العجز .
وأمّا الصورة الثالثـة : فیظهر الحکم فیها ممّا ذکرنا فی الصورة الثانیـة .
هذا ، إذا کان الأمران متعلّقین بمساویین من حیث الأهمّیـة ، وأمّا إذا کان أحد الضدّین أهمّ من الآخر ، فالعقل یحکم بوجوب ترجیحـه علی المهمّ فی مقام الإطاعـة والامتثال ، وحینئذٍ فإذا امتثل الأمر بالأهمّ ، فالعقل یحکم بمعذوریّتـه فی مخالفـة الأمر بالمهمّ بعد کونـه غیر مقدور عن إطاعتـه ، وأمّا إذا امتثل الأمر بالمهمّ وصرف قدرتـه إلیٰ طاعتـه دون الأمر بالأهمّ ، فلا إشکال فی استحقاق المثوبـة علی امتثالـه ، وعدم کونـه معذوراً فی مخالفـة الأمر بالأهمّ بعدما عرفت من کونـه مشمولاً لکلا الخطابین ، والعقل لایحکم بمعذوریتـه .
ومنـه یظهر أنّـه لو خالف الأمرین معاً ، یستحقّ العقوبـة علیهما .
والمتحصّل من جمیع ما ذکرنا أمران :
أحدهما : بطلان ما حکی عن البهائی من أنّـه لو قیل بعدم الاقتضاء فلا أقلّ من عدم تعلّق الأمر بالضدّ ، فإنّک قد عرفت أنّـه لا منافاة بین الأمرین أصلاً ، بل الظاهر ثبوتهما من دون أن یکون أحدهما مترتّباً علی الآخر ، بل یکونان فی عرض واحد بلا ترتّب وطولیّـة .
ثانیهما : استحقاق العقابین علیٰ تقدیر مخالفـة کلا الأمرین ، ولا إشکال فیـه ، کما عرفت .
کتابمعتمد الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133