تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتب
الوجه الرابع من الوجوه المقرّرة لدفع مقالة شیخنا البهائی قدس سره القائل بعدم الأمر بالضدّ عند الأمر بضدّه ، وهو الترتّب ، وحاصله : تصویر الأمر بالمهمّ فی صورة عصیان الأمر بالأهمّ وترکه .
واعلم : أنّ للترتّب تقاریب مختلفة ، لا یهمّ ذکر جمیعها ، بل نذکر المهمّ منها ، ونقدّم التقریب الذی أفاده السیّد الأکبر والعلاّمة المجدّد الشیرازی قدس سره ، وشیّد أرکانه وأقام برهانه تلمیذه الجلیل المحقّق السیّد محمّد الفشارکی الأصفهانی قدس سره بعد مراجعته من سامراء إلی النجف الأشرف ، وصدّقه کثیر من المشایخ ، وفصّله وأوضحه المحقّق النائینی قدس سره .
والتقاریب الاُخر ـ کما أشرنا إلی بعضها أخیراً ـ إجمال لما فصّله المحقّق النائینی قدس سره مع إغلاق وإخلال للمراد .
وحیث إنّ المحقّق النائینی قدس سره أحال تنقیح البحث فیه علی رسم مقدّمات ، فنحن نقتفی أثره ، فنذکر کلّ مقدّمة ذکرها ، ثمّ نشیر إلی وجه الخلل فیها .
فقال المحقّق النائینی قدس سره :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 332
المقدّمة الاُولی :
وحاصلها : أنّه لا إشکال فی أنّ ما یوجب وقوع المکلّف فی مضیقة المحال واستلزام التکلیف بما لا یطاق ، إنّما هو إیجاب الجمع بین الضدّین ، ولا إشکال أیضاً فی أنّه لابدّ من سقوط ما هو المنشأ لإیجاب الجمع دون غیره .
فإذن : یقع الکلام فی أنّ منشأ إیجاب الجمع هل هو نفس الخطابین واجتماعهما وفعلیتهما مع وحدة زمان امتثالهما ؛ لمکان تحقّق شرطهما ، أو إطلاق کلّ من الخطابین لحالتی فعل متعلّق الآخر وعدمه ؟
لا إشکال فی أنّ الموجب لإیجاب الجمع فی غیر باب الضدّین ، إنّما هو إطلاق الخطابین لحالتی فعل متعلّق الآخر وعدمه ، کالصلاة والصوم ؛ فإنّ الموجب لإیجاب الجمع بینهما إنّما هو إطلاق خطاب الصلاة وشموله لحالتی فعل الصوم وعدمه ، وإطلاق خطاب الصوم وشموله لحالتی فعل الصلاة وعدمه ، ونتیجة الإطلاقین إیجاب الجمع بین الصلاة والصوم علی المکلّف .
ولو لم یکن للدلیلین إطلاق ، بل کان خطاب کلّ منهما مشروطاً بعدم فعل الآخر ، أو کان أحدهما مشروطاً بذلک ، لما کانت النتیجة إیجاب الجمع بینهما .
فإذا عرفت الموجب لإیجاب الجمع فی غیر الضدّین ، یقع الکلام فی أنّ حال الضدّین حال غیرهما فی کون الموجب للجمع هو إطلاق الخطابین حتّی یکون هو الساقط لیس إلاّ ، فیسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط ویصیر مشروطاً بعصیان الأهمّ ، أو کون الموجب نفس الخطابین وفعلیّتهما مع وحدة زمان امتثالهما حتّی یسقط أصل الخطابین . وعلی ذلک یبتنی أمران :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 333 أحدهما : کون التخییر فی المتزاحمین المتساویین عقلیاً أو شرعیاً ، فإن قلنا بأنّ المقتضی الجمع إطلاق الخطابین ، فبعد سقوطهما وبقاء أصل الخطابین یکون التخییر عقلیاً ؛ لکون کلّ خطاب مشروطاً بالقدرة علی متعلّقه ، فیکون کلّ من الخطابین مشروطاً بترک الآخر ؛ لحصول القدرة علیه عند ترک الآخر .
وأمّا إن قلنا بأنّ المقتضی لذلک هو أصل الخطابین ووحدة زمان امتثالهما ، فیسقط کلا الخطابین بعد عدم إمکان سقوط أحدهما ؛ للزوم الترجیح بلا مرجّح ، ولمکان تمامیـة الملاک فی کـلّ منهما یستکشف العقل خطابـاً شرعیاً تخییریاً بأحـدهما ، نظیر سائر التخییرات الشرعیة ، کخصال الکفّارات ، نعم یکون فرق بینهما مـن جهـة اُخری ، وهـی : أنّ التخییر فی الخصـال بجعل ابتدائی ، وفی المقام بجعل طارئ ، فتدبّر .
الثانی : وحدة العقاب وتعدّده عند ترک الضدّین معاً ؛ لأنّه بناءً علی سقوط الخطابین لا یکون هناک إلاّ عقاب واحد ؛ لکون الواجب شرعاً ـ حینئذٍ ـ هو أحدهما ، وأمّا بناءً علی اشتراط الإطلاقین فیتعدّد العقاب ؛ لحصول القدرة علی کلّ منهما ، فیتحقّق شرط وجوب کلّ منهما ، فیعاقب علی ترک کلّ منهما .
ثمّ إنّه قدس سره أشکل علی الشیخ الأعظم العلاّمة الأنصاری قدس سره وتعجّب منه بأنّه مع إنکاره الترتّب فی الضدّین اللذین یکون أحدهما أهمّ ، غایة الإنکار ، التزم ـ فی مبحث التعادل والتراجیح فی تعارض الخبرین المتساویین علی السببیة ـ بالترتّب من الجانبین ؛ فقد صرّح بأنّ التخییر فی الواجبین المتزاحمین إنّما هو من نتیجة اشتراط کلّ منهما بالقدرة علیه ، وتحقّق القدرة فی حال ترک الآخر ، فیجب کلّ منهما عند ترک الآخر ، فیلزم الترتّب من الجانبین ، مع أنّه قدس سره أنکره من جانب واحد ! ولیت شعری
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 334 أنّ ضمّ ترتّب إلی ترتّب آخر کیف یوجب تصحیحه ؟ ! انتهی .
أقول : ما أفاده قدس سره لتنقیح موضوع البحث ـ من أنّ المقتضی للجمع بین الضدّین نفس الخطابین أو إطلاقهما ، وأنّ الموجب للجمع فی غیر الضدّین إطلاقهماـ کلام لا غبار علیه ، کما سیظهر لک : أنّ أساس الترتّب مبنی علی امتناع التکلیف الفعلی بالضدّین ، ویلزم من الأمر بهما الأمر بالجمع بین الضدّین .
ولکن یتوجّه علیه قدس سره : أنّ ظاهر عبارته یعطی بأنّ الجمع بینهما مأمور به ؛ لکونه مقتضی إطلاق کلّ خطاب لحالتی فعل الآخر وعدمه ، وقد عرفت فی بیان الوجه الثالث : أنّ معنی الإطلاق لیس ذلک ، بل معناه هو أخذ المتعلّق مسترسلاً وبدون القید ، غیر مقیّد بإتیان الآخر ، ولا بعدمه .
نعم ، فی باب الإتیان والامتثال غیر المربوط بمقام تعلّق التکلیف یکون إتیان أحدهما مشروطاً بعدم إتیان الآخر .
وبالجملة : فی الخطابات القانونیة لم یلحظ حال إتیان المکلّف وعدمه ؛ فکلٌّ من الخطابین تعلّق بموضوع ، ومقتضی إطلاقهما هو کون المتعلّق من دون تقییده بقید تمام الموضوع للحکم ، فلم یلزم من إطلاق الدلیلین محذور إیجاب الجمع ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّ مقتضی ما ذکره ـ من أنّه بناءً علی اشتراط الإطلاقین یتعدّد العقاب ؛ لحصول القدرة علی کلّ منهما ، فیتحقّق شرط وجود کلّ منهما ، فیعاقب علی ترک کلّ منهما ـ هو : أنّ التکلیف الفعلی متعلّق بهما ؛ لکون شرط التکلیف موجوداً ، وإلاّ لا یلزم من مخالفتهما عقابین .
فإن صحّ ذلک فلا یحتاج إلی هذه المطالب والمقدّمات وإتعاب النفس لتصویر
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 335 الترتّب ، بل یکفی أن یقال من أوّل الأمر بإمکان تعلّق التکلیف بالضدّین فی عرض واحد ، کما قلنا .
وبالجملة : لو تمّ ما ذکره لتصحیح تعدّد العقاب من اشتراط الإطلاقین ، فلا نحتاج إلی إتعاب النفس وتمهید مقدّمات لتصویر الترتّب ، بل ینبغی أن یقال فی أوّل الأمر ـ کما قلنا ـ بصحّة التکلیف بالضدّین فی عرض واحد .
بل ما ذکره قدس سره هدم لأساس الترتّب ؛ لأنّه إن کان وجوب کلّ من الضدّین مشروطاً بترک الآخر فلو ترکهما یتحقّـق شرط وجوب کلّ منهمـا ، فیعاقب علی ترک کلّ منهما ، وواضح : أنّ أساس الترتّب مبنی علی امتناع التکلیف بالضدّین فی عرض واحد .
ولا فرق فی المحذور ـ لو کان ـ بین الواجب المشروط والمطلق ؛ لأنّ محذور الأمر بالضدّین لیس لأجل المحذور فی مقام تعلّق الخطاب ، ولا لفعلیته ، بل لأجل المحذور فی مقام الإتیان ؛ لأنّ الخطاب بالضدّین لا یقتضی الأمر بالجمع بین الضدّین ، بل یتعلّق کلّ خطاب بما هو متعلّقه ، ولا یتعدّی حریمه ، وکذا فعلیة الخطابین ، بل المحذور الذی هو أساس الترتّب إنّما هو فی مقـام الإتیان والجمـع بینهما ، حیث إنّه یمتنع الإتیان بالضدّین معاً ، فالتکلیف لم یکن محالاً ، بل تکلیف بالمحال ؛ فیکون التکلیف محالاً بالعرض ، ویمتنع صدور التکلیف الکذائی بداع الانبعاث من الملتفت ، وواضح : أنّه کما یمتنع التکلیف المطلق بإنقاذ الغریق وإتیان الصلاة ، فکذلک یمتنع التکلیف بالصلاة إن طلع الشمس ، والتکلیف بأداء الدین إن خالف الدائن ، لو امتنع الجمع بینهما .
وبالجملة : الملاک کلّ الملاک فی الاستحالة هو امتناع الجمع بینهما ، لا توجّه الخطابین ، وفی المتزاحمین المتساویین اللذین یکونان محلاًّ للتخییر إن کان خطاب کلّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 336 منهما مشروطاً بترک الآخر ، فإن ترکهما یکون له عقابان ، ولازم العقابین وجود خطابین فی عرض واحد ، وإلاّ یلزم أن یعاقب بلا تکلیف وخطاب ، وهو محال . وواضح : أنّ هذا هدم لأساس الترتّب ؛ لأنّه مبنی علی عدم إمکان تعلّق التکلیفین الفعلیین العرضیین علی شیء واحد .
والحاصل : أنّ ما ذکره فی اشتراط الإطلاق مناقض للأساس الذی ابتنی علیه مسألة الترتّب ، فتذکّر هذا .
وثالثاً : أنّ تعجّبه قدس سره من الشیخ الأعظم قدس سره فی غیر محلّه ؛ لأنّه بصدد إفادة مطلب آخر غیر الترتّب ، فضلاً عن الترتّب من الجانبین .
فینبغی ذکر کلام الشیخ قدس سره والتأمّل فیه ؛ فإنّه بعد إیراد شبهة فی وجوب الأخذ بأحد المتعارضین بناءً علی السببیة ، قال ما نصّه : «الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة وعدم تساقطهما لیس لأجل شمول العموم اللفظی لأحدهما علی البدل من حیث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلک غیر ممکن ـ کما تقدّم وجهه فی بیان الشبهة ـ بل لمّا کان امتثال التکلیف بالعمل بکلّ منهما کسائر التکالیف الشرعیة والعرفیة مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ کلاًّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر ، وغیر مقدور مع إیجاد الآخر ، فکلّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه ویتعیّن فعله ، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه ولا یعاقب علیه .
فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال ، والعمل بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا یحکم به بدیهة العقل ، کما فی کلّ واجبین اجتمعا علی المکلّف ، ولا مانع من تعیین کلّ منهما علی المکلّف بمقتضی دلیله إلاّ تعیین الآخر علیه کذلک .
إلی أن قال : والحاصل أنّه إذا أمر الشارع بشیء واحد استقلّ العقل بوجوب
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 337 إطاعته فی ذلک الأمر بشرط عدم المانع العقلی والشرعی ، وإذا أمر بشیئین واتّفق امتناع إیجادهما فی الخارج معاً استقلّ العقل بوجوب إطاعته فی أحدهما لا بعینه ؛ لأنّها ممکنة ، فیقبح ترکها ، انتهی .
ولا یخفی : أنّ التأمّل فی کلام الشیخ قدس سره یعطی أنّه بصدد إفادة مطلب آخر غیر مسألة الترتّب ، فضلاً عن الترتّبین اللذین یحکم العقل بامتناعهما ؛ للزوم تقدّم الشیء علی نفسه .
وذلک لأنّ الترتّب عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ ، وتصرّف فی مقام التکلیف وعلاج الأمر بالضدّین ، ولیس الشیخ بصدده ، وإنّما هو بصدد بیان أنّه فی مقام الإطاعة والامتثال فی المتعارضین یحکم العقل بأنّه علی السببیة لابدّ من صرف القدرة فی واحد منهما ، فما أفاده الشیخ قدس سره تصرّف فی مقام الامتثال والإطاعة .
وإن شئت مزید توضیح لذلک فنقول : إنّه یعتبر فی الترتّب عندهم أمران :
أحدهما : کون الشرط فی المهمّ عصیان الأهمّ .
والثانی : کون الشرط شرطـاً للتکلیف ؛ بمعنی أنّ شرط التکلیف بالمهمّ عصیان الأهمّ .
وبالجملة : لنا تکلیف مطلق ـ وهو الأمر بالأهمّ ـ وتکلیف مشروط ، شرطه عصیان الأهمّ ـ وهو الأمر بالمهمّ ـ والقائلون بالترتّب لا یرون منعاً للجمع بین تکلیف مطلق ومشروط ، ولیس قول الشیخ قدس سره فی المتعارضین علی السببیة بیان ذلک وأنّ أحد التکلیفین مشروط بعدم إتیان الآخر ، بل بصدد بیان أنّه إذا ورد تکلیفان نظیر سائر التکالیف الشرعیة والعرفیة یحکم العقل بوجوب امتثال العبد أمر مولاه ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 338 وواضح : أنّ الامتثال إنّما یکون إذا لم یکن هناک مانع عقلی أو شرعی منه ، فإن کان هناک مانع کذلک یحکم العقل بعدم لزوم إتیان کلّ منهما مطلقاً ، ویقیّد امتثال أحدهما بترک الآخر ، وهذا حقّ لا محیص عنه ، وأنّی له وکون ترک أحدهما شرطاً لتکلیف الآخر ؟ ! فتدبّر .
ورابعاً : لو سلّم أنّ الشیخ قدس سره بصدد بیان أنّ عدم أحدهما شرط لتکلیف الآخر ، ولکن أشرنا آنفاً : أنّ الترتّب عندهم متقوّم باشتراط تکلیف أحدهما بعصیان الآخر ، ولم یقل به الشیخ قدس سره ، وإنّما قال بتقیید کلّ من الدلیلین بعدم إتیان الآخر ، وکم فرق بینهما ؟ !
وذلک لأنّ معنی الأوّل الاشتراط وهو مناط الترتّب ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمهمّ یتأخّر عن شرطه ، وهو متأخّر عن نفس الأمر بالأهمّ . وأمّا التقیید بعدم إتیان الآخر فنتیجته التخییر ؛ لأنّه یفهم العرف من تقیید أحدهما بعدم الآخر وبالعکس التخییر .
والحاصل : أنّ الشیخ قدس سره صرّح بأنّ العقل تارةً یحکم بالإطاعة المطلقة ، واُخری بالإطاعة المقیّدة ؛ فالتقیید إنّما هو فی مقام الامتثال ، وهذا أجنبی عن مسألة الترتّب ؛ فإنّه علی مبناهم لیس التصرّف فی مقام الامتثال ، بل فی ناحیة التکلیف .
ثمّ الذی اعتبره الشیخ قدس سره فی باب المتعارضین هو تقیید کلّ منهما بعدم إتیان الآخر ، وهو مناط التخییر ، ولازم کون الشیء واجباً تخییریاً هو أنّه لا یجب إتیانهما ، ولا یجوز التساهل عنهما ، بل له العمل بأیّهما شاء ، فأنّیٰ لکلام الشیخ ومسألة الترتّب ؟ ! والعجب أنّ المحقّق النائینی قدس سره خلط بینهما !
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فیما ذکره المحقّق النائینی قدس سرهأخیراً ؛ من أنّ مقتضی ما أفاده الشیخ ، الترتّب من الجانبین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 339 وذلک لما أشرنا : أنّ الترتّب من الجانبین غیر معقول ؛ للزومه تقدّم الشیء علی نفسه ؛ لأنّ الترتّب باعتبار أنّه عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ فیتأخّر عن شرطه ، وهو یتأخّر عن نفس الأمر المتعلّق بالأهمّ ، فلو قیّد الأمر الآخر بعصیانه ـ کما فی صورة المتساویین ـ یلزم تقدّم الشیء علی نفسه .
والشیخ الأعظم قدس سره لا یکون بصدد إثبات هذا الأمر الممتنع ، بل ـ کما أشرنا ـ إنّه بصدد التقیید بعدم الإتیان ، وهو علاج فی مقام الامتثال والإطاعة ، بمعنی حکم العقل بصرف القدرة فی واحد منهما علی السببیة ، فهو تصرّف فی مقام الامتثال ، بلا تصرّف له فی نفس الأدلّة .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ ما أفاده الشیخ قدس سره فی کمال المتانة ، ولا یرتبط ما أفاده بمسألة الترتّب ، فتعجّب المحقّق النائینی قدس سره من الشیخ قدس سره بلا وجه ، بل العجب منه قدس سره حیث خلط بینهما ، والله الهادی .
المقدّمة الثانیة :
الحقّ : أنّ واجب المشروط لا یخرج عمّا هو علیه بعد تحقّق شرطه ، ولا یتّصف بالإطلاق ؛ لما عرفت أنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلی الموضوع ، فیکون الواجب المشروط عبارة عن الحکم المجعول علی موضوعه المقدّر وجوده علی نهج القضایا الحقیقیة ، والحکم المجعول علی موضوعه لا ینقلب عمّا هو علیه ، ولا یخرج الموضوع عن کونه موضوعاً ، ولا الحکم عن کونه مجعولاً علی موضوعه .
ووجود الشرط فی الواجب المشروط عبارة عن تحقّق موضوعه خارجاً ، وبتحقّق الموضوع خارجاً لا ینقلب الواجب المجعول الأزلی عن الکیفیة التی جعل علیها ؛ بأن یتّصف بصفة الإطلاق ؛ لأنّ اتّصافه بذلک یستلزم خروج ما فرض کونه
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 340 موضوعاً عن کونه موضوعاً ، مثلاً : وجوب الحجّ إنّما اُنشئ أزلاً مشروطاً بوجود موضوعه الذی هو العاقل البالغ المستطیع ، ولا یفرق الحال فیه بین تحقّق الاستطاعة لزید ، أو عدم تحقّقها له ؛ إذ لیس لزید حکم یخصّه حتّی یقال بأنّه لا معنی لکون وجوب الحجّ بالنسبة إلی زید المستطیع مشروطاً بالاستطاعة ، بل لابدّ وأن یکون الخطاب بالنسبة إلیه مطلقاً ، وهو کذلک لو کانت الأحکام مجعولة علی نهج القضایا الجزئیة الخارجیة ، وعلیه تکون الشرائط من علل التشریع ، لا من قیود الموضوع ، ولعلّ منشأ ما ربّـما یقال : «إنّ الواجب المشروط بعد تحقّق شرطه یصیر واجباً مطلقاً» هو تخیّل کون الأحکام مجعولة علی نحو القضایا الجزئیة الخارجیة ، وقد عرفت فساده .
وبعبارة اُخری : الشرط دائماً یکون واسطة فی العروض ، لا واسطة فی الثبوت ، فالأمر بالمهمّ المشروط بعصیان الأمر بالأهمّ دائماً یکون مشروطاً ولو بعد تحقّق شرطه ، نعم یصیر فعلیاً عنده ، فعلی هذا تبقی طولیة الأمر بالمهمّ بالنسبة إلی الأمر بالأهمّ وتخرج عن العَرضیة .
والمحقّق الخراسانی قدس سره مع اعترافه برجوع الشرط إلی الموضوع ، ذهب فی جملةٍ من الموارد إلی کون الشرط واسطة فی الثبوت ، وأنّه من قبیل علل التشریع ، فجعل الأمر بالمهمّ بعد تحقّق شرطه فی عرض الأمر بالأهمّ ، وذلک لا یستقیم إلاّ بعد القول بصیرورة الواجب المشروط مطلقاً بعد تحقّق شرطه ، انتهی .
أقول : وفیما ذکره مواقع للنظر :
منها : أنّ المراد بالموضوع الذی یرجع إلیه القید فی کلامه : إمّا یکون عبارة عن
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 341 المکلّف ، کما هو الظاهر من تمثیله بالاستطاعة فی الحجّ ، حیث یری أنّ المکلّف بالحجّ ، العاقل البالغ المستطیع . أو یکون عبارة عن متعلّق الحکم من الفعل أو الترک المطالب به ، کما لعلّه یظهر منه فی المقدّمة الآتیة . أو یکون عبارة عن الأعمّ منهما .
وکیف کان : فعلی تقدیر کون الموضوع عبارة عن المکلّف فمقتضی ما ذکره إنکار الواجب المشروط من رأس ، بل کون الواجب المشروط مطلقاً ، وقد عرفت آنفاً أنّ الفرق بین الواجب المشروط والمطلق بحسب الواقع واللُبّ ، ولکلّ منهما ملاک یخصّه ؛ فلا یجوز إرجاع أحدهما إلی الآخر .
وبالجملة : مقتضی کون الشیء واجباً مشروطاً هو خروج الشرط عن الموضوع وکونه واسطة لثبوت الحکم علی الموضوع ، فلو اُرجع الشرط إلی الموضوع یلزم أن یکون من مقوّمات الموضوع ، کما لا یخفی .
والحاصل : أنّ مقتضی إرجاع القید إلی الموضوع أنّه لا فرق بین قوله : «إن استطعت فحجّ» ، وبین قوله : «المستطیع یحجّ» ، مع أنّ ارتکاز العقلاء علی الفرق بینهما ، ویرون أنّ الإنشاء علی قسمین ، بل ظهور الإرادة علی ضربین ، والفرق بینهما ثبوتی ولُبّی ، فتدبّر .
مع أنّ بعض القیود وإن أمکن إرجاعه إلی الموضوع ـ مع کونه خلاف الظاهر ـ کقوله : «إن استطعت فحجّ» ، فیمکن إرجاعه إلی أنّ المستطیع یحجّ ، إلاّ أنّ هناک بعض قیود لا یمکن إرجاعه إلی الموضوع إلاّ مع تمحّل شدید وتکلّف بارد ، بل ربّما لا یمکن ذلک ولو مع التمحّل الشدید ، کقوله مثلاً : «إن غربت الشمس فیجب علیک الصلاة» ، ومقتضی إرجاع القیـد إلی الموضوع هو أنّ المکلّف الذی غروبت علیه الشمس ، أو المکلّف الغاربة عنه الشمس یجب علیه الصلاة ، وهو کما تری من البرودة بما لا یخفی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 342 ومثل قول الشارع للوصی : «إن خرج الیتیم عن الیُتم فأعط أمواله» ، فإن رجع القید إلی الموضوع فمعناه : «أیّها الوصی والمکلّف الذی خرج الیتیم عن الیُتم ، فاعط أمواله» ، وهو واضح البطلان . ولا أظنّ أنّ هذا المحقّق قدس سره أیضاً یلتزم بالإرجاع إلی الموضوع فی أمثال ما ذکـر ، ولعلّـه قاس القیود بمثل الاستطاعـة ونحوها من الاُمـور التی یمکن إرجاعها إلی الموضوع .
فتحصّل : أنّه إن أراد قدس سره بالموضوع ، المکلّف ، فیتوجّه علیه أوّلاً : أنّ مقتضاه إنکار الواجب المشروط . وثانیاً : بأنّه لا یمکن المساعدة علیه فی جمیع القیود .
وأمّا إن أراد بالموضوع ، متعلّق التکلیف ـ من الفعل أو الترک المطالب به ـ فیتوجّه علیه ـ مضافاً إلی أنّ مقتضاه أیضاً إنکار الواجب المشروط بالبیان المتقدّم ـ أنّه یلزم أن یکون القید واجب التحصیل ، مثلاً : لو وجب إکرام زید إن کان عالماً ، فحیث إنّ القید قید للمتعلّق فالطلب مطلق غیر مقیّد بقید ، فلابدّ من تعلیم زید وصیرورته عالماً ، مع أنّه لا یجب إیجاد القید .
وبالجملة : لا یجب تحصیل القید فی الواجب المشروط ، مع أنّ مقتضی ما ذکره لزوم تحصیل القید .
فبعد ما أحطت خبراً بعدم استقامة إرادة المکلّف أو الفعل والترک المطالب من الموضوع الذی یرجع إلیه القید ، تعرف عدم استقامة إرادة الأعمّ من المکلّف والمتعلّق ، کما لا یخفی .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّ إرجاع القید إلی الموضوع ـ أعنی المکلّف ـ أو المتعلّق أو الأعمّ منهما ، غیر مستقیم .
ومنها : أنّه قد أشرنا غیر مرّة : إلی أنّ الحکم فی القضیة الحقیقیة لم یتعلّق علی الأفراد المقدّرة الوجود ، بل تعلّق الحکم فیها علی عنوان قابل للصدق علی الأفراد
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 343 الموجودة وما ستوجد ، قبال القضیة الخارجیة التی تعلّق الحکم فیها علی عنوان لا یقبل الصدق إلاّ علی الموجودین ، فلا فرق بین القضیتین إلاّ من حیث سعة نطاق القضیة الحقیقیة وضیق الخارجیة ، وإلاّ فکلّ منهما تقع کبری القیاس .
ومنها : لو قلنا : إنّ الحکم فی الحقیقیة تعلّق علی الأفراد المقدّرة الوجود ، فتنحلّ الحقیقیة إلی قضایا متکثّرة بعدد رؤوس المکلّفین ، فکلّ مکلّف له حکم یخصّه ، فعلی هذا : یکون وزان القضیة الحقیقیة بالنسبة إلی الأفراد الواجدین للشرط ، وزان القضیة الخارجیة ؛ فکما لا معنی لکون القضیة الخارجیة مشروطةً ، فکذلک فی الحقیقیة بالنسبة إلی الواجدین ، فالتفرقة بینهما ممّا لا وجه له .
وبالجملة : لو قیل بانحلال الحقیقیـة إلی القضایا بعدد رؤوس المکلّفین ، فلا معنی لصحّة الجعل بنحو الاشتراط فیها بعد حصول القید ، ولو صحّ أن یجعل بنحو الاشتراط فلابدّ وأن یصحّ فی الخارجیة أیضاً ؛ لما أشرنا أنّهما یشترکان فی أنّ الحکم فیهما تعلّق بالعنوان ، غایته : أنّ فی الخارجیة تعلّق علی عنوان لا ینطبق إلاّ علی الموجودین ، وفی الحقیقیة علی عنوان ینطبق علیها وعلی ما سیوجد .
ومنها : أنّ صیرورة المشروط مطلقاً لا ترتبط بالحقیقیة والخارجیة ؛ لأنّ القضیة الخارجیة لو لم یکن الجزء فیها حاصلاً فیعبّر عنها تعلیقاً ویقال : «إن جاءک زید أکرمه» ، وفی الحقیقیة لو کانت جمیع الشروط محقّقة لا یعبّر عنها مشروطاً ، بل یعبّر عنها بصورة الإطلاق ، وقد عرفت : أنّ وزان الخارجیة وزان الحقیقیة ، علی خلاف مزعمة القوم ـ ومنهم هذا المحقّق ـ حیث یرون أنّ الخارجیة مرکّبة من عدّة قضایا شخصیة ، فتدبّر .
ومنها : أنّ ما ذکره قدس سره فی الخارجیة ـ من أنّ الشرائط بالنسبة إلیها تکون من علل التشریع ، لا من قیود الموضوع ـ غیر وجیه ؛ ضرورة أنّه فرق بین علّة تشریع
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 344 الحکم وملاکه ، وبین شرط الحکم والتکلیف ؛ وذلک لأنّ علّة تشریع الحجّ ـ مثلاً ـ هی الوفود إلی الله تعالی ـ کما فی الأخبار ـ ونکتة تشریع العدّة تطهیر الرحم ، وجعل الزکاة تزکیة المال ، إلی غیر ذلک ـ کما هو مذکور فی کتاب «علل الشرائع» وغیره ـ وأنّی لها وشرط الحکم ، الذی هو عبارة عن عدم الحکم عند عدم شرطه ؟ !
وبالجملة : علّة التشریع عبارة عن ملاک الجعل وفلسفته ودواعیه ، وهذه کما توجد فی الواجبات المشروطة توجد فی الواجبات المطلقة أیضاً ، بل وکما توجد فی الأحکام التکلیفیة توجد فی الأحکام الوضعیة ، وهی غیر شرط الحکم والتکلیف ، الذی اُنیط وعلّق علیه الحکم .
والحاصل : أنّ علل التشریع هی غایات الأحکام وملاکاتها ، وهی واقعة فی الرتبة السابقة علی جعل الأحکام مشروطها ومطلقها ، وأنّی لها ولشرائط التکلیف والبعث الاعتباری ؟ !
مثلاً : فی قولک لعبدک : «إن جاءک صدیقی فأکرمه» لا تکون الجیئة ملاک إیجاب الإکرام وفلسفته ، بل ملاکه شیء آخر ، فالجیئة فی المثال لیست إلاّ شرطاً للحکم ؛ بمعنی أنّه لو لم یجیء لم یجب علیک إکرامه ، فلا معنی لإرجاع شرط الحکم فی القضیة الخارجیة إلی علّة الجعل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 345 ومنها : أنّ ما ذکره قدس سره أخیراً عند قوله : «وبعبارة اُخری : الشرط دائماً یکون واسطة فی العروض ، لا الثبوت» غیر مستقیم ؛ لأنّ الواسطة فی الثبوت عبارة عن إیصال الواسطة العَرَض إلی ذی الواسطة ، بحیث یکون ذو الواسطة متّصفة بالعرض حقیقة ، بلا شائبة مجاز ، وذلک کالنار ـ مثلاً ـ حیث تکون واسطة فی إیصال الحرارة إلی الماء واتّصافه بالحرارة حقیقة .
وأمّا الواسطة فی العروض فعبارة عن اتّصاف الواسطة بالعرض حقیقة ، وأمّا اتّصاف ذی الواسطة به فإنّما هو علی سبیل العرض والمجاز ، وذلک کحرکة السفینة إلی جالس السفینة ؛ فإنّ السفینة هی التی تتّصف بالحرکة حقیقةً ؛ لأنّها السائرة والمتحرّکة علی وجه الماء ، وأمّا الجالس فیها فغیر متحرّک أصلاً ، ولکن تستند الحرکة إلیه بالعرض والمجاز .
إذا عرفت معنی الواسطتین ، فإذا وجب الحجّ ـ مثلاً ـ علی زیـد مشروطاً بالاستطاعـة ، فیکون هناک اُمـور :
1 ـ الحکم ، وهو الوجوب .
2 ـ الموضوع ، وهو زید .
3 ـ شیء متوسّط فی تعلّق الوجوب علی زید ، وهو الاستطاعة .
وواضح : أنّ الاستطاعـة لا تکاد تتّصف بالوجوب ، بل المتّصف به حقیقـةً هـو زیـد ، فالشرط دائماً یکون واسطـة لثبوت الحکم علی الموضـوع علی مقال هـذا المحقّق القائل بأنّه من قبیل الواسطة فی العروض ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 346
المقدّمة الثالثة :
ولیعلم : أنّ هذه المقدّمة عندنا هی المهمّ فی مسألة الترتّب ، بل أساس الترتّب مبنی علیها ، فإن تمّت تتمّ مسألة الترتّب ، وإن لم یکن کذلک عند المحقّق النائینی قدس سره ؛ فإنّه یری أنّ أساس الترتّب مبنی علی المقدّمة الرابعة ، کما سیجیء منه .
وکیف کان : فقد أطال قدس سره البحث فی هذه المقدّمة وذکر مطالب لم یبتنِ علیها أساس الترتّب ، فننقل المهمّ منها :
فنقول : إنّه قدس سره بعد أن قسّم الواجب إلی قسمین ـ الموسّع والمضیّق ـ وعرّفهما بما لا تخلو عن مسامحة ، قال : إنّ المضیّق علی قسمین :
قسم اُخذ فیه الشیء شرطاً بلحاظ وجوده الانقضائی ، ولعلّ باب الحدود والدیات من هذا القبیل ، بناءً علی أن یکون التکلیف بالحدّ مضیّقاً ، حیث إنّ شرط وجوبه هو انقضاء القتل من القاتل وتحقّقه منه ، ولو آناً ما ، فعند تلبّس القاتل بالقتل لا یتوجّه علیه التکلیف بالحدّ ، وهذا القسم غیر مهمّ فیما نحن بصدده .
والقسم الآخر ما اُخذ فیه الشیء شرطاً بلحاظ وجوده ، ولا یعتبر فیه الانقضاء ، فیثبت التکلیف مقارناً لوجود الشرط ، ولا یتوقّف ثبوته علی انقضاء الشرط ، بل یتّحد زمان وجود الشرط ، وزمان وجود التکلیف ، وزمان امتثاله ، ویجتمع الجمیع فی آنٍ واحـد حقیقی ، وأغلب الواجبات المضیّقة فی الشریعـة مـن هذا القبیل ، مثلاً : فی باب الصوم یکون طلوع الفجـر شرطـاً للتکلیف بالصوم ، ومـع ذلک یکون ثبوت التکلیف بالصوم مقارناً لطلوع الفجر ، کما أنّ زمـان امتثـال التکلیف بالصوم أیضاً من أوّل الطلوع ، ففی الآن الحقیقی مـن طلوع الفجر یتحقّق
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 347 ویجتمع شـرط التکلیف ، ونفس التکلیف ، وزمـان امتثالـه ولا یتوقّف التکلیف علی سبق تحقّـق شرطـه آنـاً مـا ، کما لا یتوقّف الامتثال علی سبق التکلیف آنـاً مـا ، بل یستحیل التقدّم :
أمّا استحالة تقدّم زمان شرط التکلیف علی نفس التکلیف : فلما عرفت من رجوع کلّ شرط إلی الموضوع ، ونسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی معلولها ، وإن لم یکن من العلّة والمعلول حقیقة ، فکما یستحیل تخلّف المعلول عن علّته التکوینیة ، فکذلک یستحیل تخلّف الحکم عن موضوعه ؛ ضرورة أنّه مع التخلّف یلزم أحد أمرین :
إمّا عدم موضوعیة ما فرض کونه موضوعاً ، وهو خلف ، أو تأخّر المعلول عن علّته ، وهو محال .
ولذا أبطلنا کلاًّ من الشرط المتقدّم والمتأخّر ، وقلنا باعتبار المقارنة الزمانیة بین شرط التکلیف والتکلیف نفسه ، وإن تأخّر عنه رتبةً بالبیان المتقدّم .
وأمّا استحالة تأخّر زمان الامتثال عن التکلیف : فلأنّ وزان التکلیف بالنسبة إلی الامتثال ، وزان العلّة التکوینیة بالنسبة إلی معلولها ، کحرکة الید لحرکة المفتاح ؛ لأنّ التکلیف هو الذی یقتضی الامتثال ویکون محرّکاً .
نعم ، یکون بینهما فرق من جهـة أنّه لا یتوسّط فی سلسلة العلل التکوینیة العلم والإرادة ، بل یوجد المعلول بعد علّته التکوینیة . وأمّا فی المقام : فیتوسّط بین الامتثال والتکلیف علم الفاعل بالتکلیف وإرادته الامتثال ؛ لأنّ مع عدمهما أو عدم واحـد منهما یستحیل تحقّق الامتثال ، ولکنّـه مع ذلک لا یخرج التکلیف عن کونه واقعاً فی سلسلة العلل ، ولا یتفاوت فی استحالة التخلّف بین قلّة ما یقع فی سلسلة العلّة وکثرته .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 348 فالامتثال المعلول للتکلیف والعلم والإرادة یستحیل أن یتخلّف عن ذلک زماناً ، وغایة ما یکون إنّما هو التخلّف فی الرتبة فقط .
فتحصّل : أنّ زمان التکلیف والامتثال واحد ، وقد عرفت أنّ زمان شرط التکلیف مع نفس التکلیف أیضاً واحد ، ومقتضی ذلک هو وحدة زمان شرط التکلیف مع زمان الامتثال .
ثمّ قدس سره ورد فی أمر طویل الذیل لا یهمّ فی جوهر ما نحن بصدد إثباته ، إلی أن قال : إذا عرفت ذلک ظهر لک دفع بعض الإشکالات التی أوردوها علی الخطاب الترتّبی ، فذکر الإشکال الأوّل وتصدّی لدفعه ، وحیث إنّه غیر مربوط بما نحن بصدد إثباته ، طوینا عنه کشحاً .
إلی أن قال : ومن الإشکالات : أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لم یلزم منه محذور طلب الجمع ؛ لأنّه إن اعتبر امتثال خطاب المهمّ فی زمان خلوّ المکلّف عن الأهمّ فلا یعقل اقتضاؤه لطلب الجمع .
نعم ، إن کان العنوان الانتزاعی ، ووصف التعقّب شرطاً ـ أی کون المکلّف ممّن یعصی ـ فیلزم محذور طلب الجمع ؛ لأنّ خطاب المهمّ یکون فعلیاً قبل عصیان الأهمّ إذا کان ممّن یعصی بعد ذلک ، فلم یعتبر فی ظرف امتثاله خلوّ المکلّف عن الأهمّ ، بل یلزم اجتماع کلّ من الأهمّ والمهمّ فی زمان واحد .
وبالجملة : لو کان نفس عصیان الأهمّ شرطاً لخطاب المهمّ فلا یکون فیه محذور طلب الجمع لیرفع بالترتّب ، وأمّا لو کان المفهوم الانتزاعی شرطاً فیلزم طلب الجمع ، ولا یمکن تصحیحه بالترتّب .
فأجاب قدس سره أوّلاً : بأنّه لا موجب لجعل الشرط هو العنوان الانتزاعی ووصف التعقّب ، بل نقول : إنّ العصیان بوجوده الواقعی شرط للتکلیف بالمهمّ ، وقد عرفت :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 349 أنّ الشرط قید للموضوع ، والموضوع لا یتخلّف عن الحکم زماناً ، وإن اختلفا رتبةً ، ولا یلزم منه طلب الجمع ـ کما اعترف هو به أیضاً ـ والترتّب غیر مبتنیة علی لزوم طلب الجمع ، بل هو مبنی علی اجتماع الخطابین فی زمان واحد ، فلابدّ وأن یؤخذ العصیان علی وجه یجتمع فیه کلّ من خطاب الأهمّ والمهمّ ، وذلک بأن یکون التلبّس بالعصیان شرطـاً ، وحیث إنّه یکون خطاب الأهمّ محفوظاً فی حاله لا یتحقّق العصیان بمعنی الانقضاء والمضیّ الذی یکون خطاب الأهمّ ساقطاً عنده ؛ لسقوط کلّ خطاب بعصیانه .
وثانیاً : أنّه لو فرض کون الشرط هو الوصف الانتزاعی ، ولکن لا یلزم منه طلب الجمع ؛ لأنّ الوصف إنّما انتزع من العصیان الذی هو زمان خلوّ المکلّف عن الأهمّ ، فمعنی کونک ممّن یعصی : کونک ممّن تخلو عن فعل الأهمّ ، ومع ذلک کیف یلزم طلب الجمع ؟ !
ومجرّد اجتماع الخطابین اللذین یلزم من أخذ الوصف الانتزاعی شرطاً لا یوجب إیجاب الجمـع ، وغایة ما یلزم هی اجتماع کلّ من خطاب الأهمّ والمهمّ فی زمان واحد ، وهذا ممّا لا محیص عنه فی الخطاب الترتّبی ، انتهی .
أقول : ولیعلم : أنّه أشرنا عند التکلّم فی المقدّمة الثانیة أنّه یحتمل أن یکون مراد هذا المحقّق بالموضوع ، المکلّف نفسه ، بقرینة تمثیله بالاستطاعة ، وأشرنا أیضاً : أنّه یحتمل أن یکون مراده بالموضوع فی هذه المقدّمة ، متعلّق التکلیف ، بقرینة تمثیله بالصوم ، حیث إنّ الصوم الذی اُخذ طلوع الفجر قیداً له ، متعلّق التکلیف ، فإن أراده فیتوجّه علیه ما أوردناه علی تقدیر إرادته ، فلاحظ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 350 وکیف کان : لا یکون الصوم مشروطاً بأوّل طلوع الفجر ؛ لأنّه لم یرد : «إذا طلع الفجر فصم» ، بل قال تعالی : «کُلُوا وَاشرَبُوا حَتّی یَتَبَیَّنَ لَکُمُ الخَیطُ الأبیَضَ مِنَ الخَیطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجرِ» . فالصوم سنخ واجب یکون مبدؤه طلوع الفجر ، فلو کان الصوم مشروطاً بأوّل طلوع الفجر فیلزم أن یکون الصوم والإمساک بعد طلوع الفجر ـ ولو زماناً ما ـ لا من أوّل حقیقی طلوع الفجر .
ثـمّ إنّ هدم أساس ما بنی علیه قدس سره یتوقّف علی الإشارة الإجمالیـة إلی موضوع البحث ، فإنّـه فی کلّ باب من تحریر موضوع البحث أوّلاً ، ثـمّ التکلّم فیه نفیاً أو إثباتاً .
فنقول : موضوع البحث فی مسألة الترتّب هو الواجبان المضیّقان اللذان یکون أحدهما مهمّاً والآخر أهمّ وکان عصیان الأهمّ شرطاً للتکلیف بالمهمّ ، فإن کان الوقت المضروب للإتیان بالأهمّ ـ مثلاً ـ من زوال الظهر إلی ساعة ، وکان العمل ینطبق علی هذا المقدار من الزمان ، من دون زیادة ونقیصة ، کان الوقت المضروب للمهمّ أیضاً بذلک المقدار ، من دون زیادة ونقیصة ، وواضح : أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به فی الحدّ المضروب له بلا عذر ، وعصیان الشیء إنّما هو بانقضاء مقدار لا یمکن استیفاء تمام العمل فیه ، ولا یلزم أن یکون بانقضاء تمام الوقت المضروب له ، فأوّل الزوال ـ مثلاً ـ ظرف تحقّق الأهمّ ، ویکون التکلیف به فعلیاً ، فإن مضی مقدار من الوقت ـ اُفرض دقائق بعد الزوال ـ فعصی ولم یأت بوظیفته بلا عذر فیسقط التکلیف
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 351 بالأهمّ ، وحیث إنّ عصیانه بوجوده الخارجی شرط لتکلیف المهمّ فیکون عصیان الأهمّ ـ لأجل أنّه شرط ـ مقدّماً رتبة علی تکلیف المهمّ ، وبعد مضیّ ذاک المقدار من الوقت لا یمکن الأمر بالمهمّ ؛ لمضیّ بعض الوقت المضروب للعمل .
وبالجملة : إذا کان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی شرطاً للتکلیف بالمهمّ ، فالعصیان بوجوده الخارجی یتقدّم علی حکم المهمّ تقدّماً رتبیاً ، فلابدّ وأن یتحقّق العصیان أوّلاً حتّی یتحقّق التکلیف بالمهمّ ؛ ضرورة أنّ وزان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی بالنسبة إلی تکلیف المهمّ ، وزان العلّة بالنسبة إلی معلوله ؛ فکما أنّ العلّة بوجودها الخارجی متقدّمة علی المعلول ، فکذلک عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی متقدّم علی التکلیف بالمهمّ ، وواضح : أنّه بعد مضیّ مقدار من الوقت الذی عصی فیه ولم یأت بالأهمّ لا یمکن امتثال التکلیف بالمهمّ ؛ لمضیّ وقته أیضاً ؛ لأنّ المفروض کون الأهمّ والمهمّ مضیّقین .
ففی أوّل الزوال قبل عصیان الأهمّ یکون التکلیف بالأهمّ متحقّقاً لیس إلاّ ، ولم یکن هناک تکلیف بالمهمّ ؛ لعدم عصیان الأهمّ الذی جعل شرطاً للتکلیف بالمهمّ ، وبعد تحقّق عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی الذی هو مضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن المکلّف بعده من إطاعة أمره وامتثاله ـ وواضح : أنّ مضیّ هذا المقدار من الزمان کما أنّه محقّق لفوت الأهمّ ، کذلک یکون محقّقاً لفوت المهمّ أیضاً ـ ولا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ فی ظرف فوته .
إن قلت : إنّ شرط التکلیف بالمهمّ إنّما هو التلبّس بعصیان الأهمّ ، فلا یحتاج إلی مضیّ مقدار لا یتمکّن المکلّف من إتیانه بعد .
قلت : المفروض أنّ شرط تکلیف المهمّ هو عصیان الأمر بالأهمّ بوجوده الخارجی ، وهو إنّما یکون بمضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن من إطاعة الأمر
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 352 بالأهمّ وامتثاله ، ومن الواضح : أنّه بالشروع فی العصیان لم یتحقّق الشرط ؛ لتمکّنه بعد من امتثال الأهمّ .
وبالجملة : فی أوّل آن الزوال إلی ساعة یکون ظرف کلّ من الأهمّ والمهمّ ، ولکنّه لم یکن فی ذاک الآن زمان عصیان الأهمّ ، بل لابدّ من مضیّ مقدار من الوقت الذی لا یتمکّن من الإطاعة والامتثال بعده ، فبعد عصیان الأهمّ یحصل شرط تکلیف المهمّ ، وواضح : أنّ هذا الزمان محقّق لفوت المهمّ أیضاً ، ولا یعقل الأمر بالشیء فی ظرف فوته .
ولا یخفی : أنّ إتیان المهمّ قبل عصیان الأهمّ لا یکون مأموراً به وهو خلاف مقصود القائل بالترتّب . والحاصل : لو کان عصیان الأهمّ شرطاً لتکلیف المهمّ فلابدّ من مضیّ زمان یفوت به إمکان إتیان الأهمّ ، ولا یعقل جعل ذلک شرطاً لتکلیف المهمّ ؛ للزومه تعلّق التکلیف بالمهمّ فی ظرف فوته .
هذا کلّه لو کان عصیان الأهمّ بوجوده الخارجی شرطاً للتکلیف بالمهمّ ، وقد عرفت ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ عدم إمکان تصحیحه بالترتّب .
وأمّا لو کان المفهوم الانتزاعی ـ أی الذی یعصی ـ شرطاً ، فإن أوجب مجرّد صدق ذلک سقوط الأمر بالأهمّ فیخرج عن مسألة الترتّب ؛ لأنّها ـ کما أشرنا ـ لابدّ وأن تکون فی مورد اجتمع فیه حکمان فعلیان واُرید رفع الغائلة باختلاف الرتبة ، وواضح : أنّه قبل صدق العنوان الانتزاعی لا یکون هناک إلاّ حکم واحد ، وبعد صدق العنوان یسقط ذاک الحکم ، وبعصیانه یصیر التکلیف بالمهمّ فعلیاً ؛ لتحقّق شرطه ، فلم یجتمع قبل صدق العنوان الانتزاعی ولا بعده حکمان لیرفع التضادّ باختلاف الرتبة ، وإن لم یوجب الصدق سقوط الأمر بالأهمّ ؛ فیجتمع الحکمان ویکون طلباً للضدّین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 353
تفصیل وتبیین لما سبق
یتصوّر للمتزاحمین ـ الأهمّ والمهمّ ـ صور کثیرة ، بعضها خارجة عن مسألة الترتّب ، وبعضها یمتنع تصویر الترتّب فیها ، ولکن لا بأس بالإشارة إلیها تشحیذاً للأذهان :
وذلک لأنّ الواجبین المتزاحمین : إمّا مضیّقان ، أو موسّعان ، أو یکون الأهمّ موسّعاً والمهمّ مضیّقاً ، أو بالعکس ؛ فالصور أربع .
ولا یخفی أنّ : التزاحم بین الموسّعین ، أو الموسّع مـع المضیّـق إنّما هو فی آخـر الوقت .
ولا یتوهّم : أنّ الواجب الموسّع بتضیّق الوقت یصیر مضیّقاً ؛ لأنّ الواجب المضیّق هو الذی کان بلسان الدلیل محدوداً بحدّین ، بحیث یکون الوقت المضروب للعمل بمقداره لا یزید علیه ، وذلک کالصوم .
وأمّا إذا کان وقت العمل أوسع من نفس العمل فی لسان الدلیل فیکون الواجب موسّعاً ، ففی آخر وقت الواجب الموسّع یتزاحمان ، من دون أن یصیر الموسّع مضیّقاً ، بل غایة ما هناک هی لزوم إتیان العمل فوراً .
وعلی أیّ حال : ما یکون شرطاً للتکلیف إمّا یکون قیداً للموضوع ـ کما یراه المحقّق النائینی قدس سره ـ أو لا یکون قیداً فیه ـ کما نراه ـ بل یکون قیداً للحکم ، فإذا ضربا فی الصور الأربع تبلغ حاصلها ثمانیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 354 وعلی أیّ حال : ما اُخذ شرطاً فی المهمّ : إمّا تدریجی الوجود ، أو آنی الوجود ، فمقتضی ضربهما فی الصور الثمانیة تبلغ حاصلهما ستّة عشر صورة ، وأخذ العصیان شرطاً : إمّا بجعل المعصیة شرطاً ، أو إرادتها ، أو الذی یعصی بعد ، أو عنوان العاصی ؛ فتتکثّر الصور .
وکیف کـان : نشیـر إلی بعض الصـور التی تکون مطرحـاً ومحلاًّ للبحث فیما نحن فیه :
فقد أشرنا غیر مرّة : أنّ کثیراً ما یحصل الاشتباه والنزاع فی مسألة لعدم معلومیة موضوع البحث ، فینبغی أوّلاً أن یحرّر موضوع البحث :
فنقول : إنّ موضوع البحث فی الترتّب الواجبان المضیّقان اللذان کان وقت المضروب لأحدهما بعینه ، هو الوقت المضروب للآخر ، مثلاً إذا کان التکلیف بالأهمّ موقّتاً من أوّل الزوال إلی ساعة ، کان التکلیف بالمهمّ أیضاً موقّتاً بذاک الوقت .
فإذا کان ظرف امتثال التکلیف بالأهمّ والمهمّ واحداً ، ولا یسع ذاک الوقت إلاّ لامتثال أحدهما ، فالقائلون بالترتّب یریدون تصویر الأمر بکلّ من الأهمّ والمهمّ فی نفس ذلک الوقت ، من دون تعارض فی البین ، بتقریب : أنّ الأمر بالأهمّ مطلق ، ولکن الأمر بالمهمّ مشروط بعصیان الأهمّ ؛ ففی أوّل الزوال ـ مثلاً ـ إن عصی تکلیف الأهمّ یصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه .
وبالجملة : یرید القائلون بالترتّب رفع غائلة طلب الضدّین من ناحیة اختلاف الرتبة ، هذا محصّل مقالهم فی موضوع البحث .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول :
أمّا فی المضیّقین : فالعصیان الذی اُخذ شرطاً لتکلیف المهمّ لا یخلو بحسب التصوّر : إمّا أن یکون تدریجیاً ، أو دفعیاً :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 355 فإن کان تدریجیاً ؛ فحیث إنّ العصیان لم یکن مطلق ترک المأمور به عمداً ، بل ترک المأمور به فی زمان یفوت المأمور به ولا یمکن امتثاله فیه ـ ولذا لا یکون ترک الواجب الموسّع إلی مقدار من الوقت الذی یمکن إتیانه فیه عصیاناً ـ فالتکلیف بالمهمّ إنّما یتعلّق بالشخص بعد صیرورته عاصیاً ؛ کما أنّ التکلیف بالحجّ إنّما یتعلّق بالشخص بعد صیرورته مستطیعاً ، فأوّل الزوال إلی ساعة ـ مثلاً ـ یکون ظرف تحقّق الأهمّ ، وهذا الوقت بعینه ـ بلا زیادة ونقصان ـ ظرف تحقّق المهمّ ، فإذن : إتیان المهمّ إمّا یکون فی أوّل حقیقی الزوال ، فلا یکون آتیاً بالمهمّ بأمره ؛ لعدم تحقّق شرطه ـ وهو عصیان الأمر بالأهمّ ـ نعم یکون آتیاً بذات المهمّ بلا أمر ، وهو غیر موضوع البحث فی مسألة الترتّب ، حیث إنّ موضوع البحث فیها إتیان المهمّ بأمره .
وإن شرع فی المهمّ بعد مضیّ مقدار من الوقت ـ أی بعد عصیان الأهمّ ـ فعند ذلک وإن تحقّق موضوع التکلیف بالمهمّ ، لکن فات عنه وقته ، فیکون المهمّ فائتاً عنه .
وبالجملة : العصیان هو ترک المأمور به خارجاً تدریجاً بلا عذر ، ولا یصیر المکلّف عاصیاً إلاّ إذا ترک الأهمّ بلا عذر خارجاً ، وهو إنّما یکون بعد مضیّ وقت الأهمّ ، بحیث لا یمکن إتیانه ، وإلاّ فلا یصدق العصیان فی حقّه .
ففی أوّل الزوال لو أتی بالمهمّ لم یکن آتیاً بالمأمور به ، وبعد مضیّ مقدار من الوقت وإن تحقّق موضوع التکلیف بالمهمّ ، لکنّه لا یمکن تحقّقه ؛ لمضیّ وقته .
إذا عرفت ما ذکرنا یظهر لک : أنّ أخذ العصیان شرطاً لموضوع التکلیف لا یصحّح المطلب ، بل هو مثل سابقه ، لو لم یکن محذوره أشدّ ؛ لأنّ مقتضی إرجاع الشرط إلی الموضوع هو کون المکلّف العاصی للأهمّ یجب علیه المهمّ ، وواضح : أنّه إنّما یتحقّق إذا ترک الأهمّ بلا عذر ، وذلک إنّما هو بعد مضیّ وقت الأهمّ .
ومجرّد التقدّم الرتبی لا یصحّح المطلب ؛ لأنّ التقدّم الکذائی إنّما هو بوجود
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 356 الشرط علی مشروطه ، کما أنّ تقدّم الموضوع علی حکمه إنّما هو بوجوده ؛ ضرورة أنّ المکلّف المستطیع إنّما یتعلّق به وجوب الحجّ إذا تحقّق عنوان الاستطاعة .
وبالجملة : الشرط إنّما یتقدّم علی المشروط تقدّماً رتبیاً فی ظرف تحقّقه ، لا حال عدمه ، فقبل تحقّق العصیان الذی اُخذ شرطاً لا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه ، وبتحقّق العصیان الخارجی یفوت وقت الأهمّ والمهمّ .
وبعبارة أوضح : تحقّق موضوع العاصی إنّما هو بفوت الأهمّ فی عمود الزمان المضروب له بلا عذر ، والعصیان مفوّت لوقت الأهمّ والمهمّ جمیعاً ، وما یکون مفوّتاً لا یعقل أن یؤخذ شرطاً للتکلیف .
وممّا ذکرنا یظهر النظر فی المثال الذی ذکره المحقّق النائینی قدس سره ؛ فإنّه إذا کان طلوع الفجر شرطاً للتکلیف بالصوم ، فقبل طلوع الفجر لا یکون التکلیف فعلیاً ، بل إنّما یصیر التکلیف فعلیاً إذا طلع الفجر وتحقّق ، مع أنّ المقصود وجوب الصوم من أوّل طلوع الفجر .
هذا کلّه إذا کان العصیان المأخوذ شرطاً فی تکلیف المهمّ تدریجیاً .
وأمّا إذا کان العصیان المأخوذ آنیّـاً فکذلک أیضاً ؛ لأنّه لابدّ وأن یتحقّق الآن لیصدق العصیان بالنسبة إلی الأهمّ ، فقبل تحقّق الآن لیس بعاصٍ ، فلم یکن الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه ، وإنّما الفعلی فی حقّه هو التکلیف بالأهمّ ، وبعد تحقّق الآن یکون عاصیاً للأهمّ ویفوت عنه الأمر بالأهمّ ، فعند ذلک وإن کان شرط التکلیف بالمهمّ متحقّقاً ، لکنّه لا یمکن تحقّقه لمضیّ وقته ، فیخرج عن مسألة الترتّب ؛ لأنّها ـ کما
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 357 ذکرنا غیر مرّة ـ فیما إذا کان هناک أمران فعلیّان ، والمفروض هنا قبل الآن لم یکن الأمر بالمهمّ فعلیاً ، وبعد الآن یسقط أمر الأهمّ للعصیان ؛ ویفوت وقت المضروب للمهمّ . وإرجاع الشرط إلی الموضوع هنا کالسابق ، فلا یحتاج إلی الإعادة ، فلاحظ .
هذا کلّه إذا کان العصیان بقسمیه من التدریجی أو الدفعی شرطاً .
وأمّا إذا کانت إرادة عصیان الأهمّ شرطاً لتکلیف المهمّ فنقول : لا یخلو الأمر : إمّا أن یسقط تکلیف الأهمّ بإرادة عصیانه ، أو یکون التکلیف بعد باقیاً :
فعلی الأوّل یخرج عن مسألة الترتّب ؛ لأنّها ـ کما أشرنا ـ لابدّ وأن تکون فی مورد اجتمع فیه حکمان فعلیان واُرید رفع الغائلة باختلاف الرتبة ، وهنا قبل إرادة عصیان الأهمّ لا یکون إلاّ حکم واحد ـ وهو الأمر بالأهمّ ـ وأمّا بعد إرادة العصیان یسقط الأمر بالأهمّ ، وبعصیانه یکون التکلیف بالمهمّ فعلیاً ؛ لتحقّق شرطه ، فلم یجتمع ـ لا قبل إرادة العصیـان ولا بعدها ـ حکمان فعلیان لیرفع التضادّ باختلاف الرتبة .
وعلی الثانی ـ أی علی تقدیر عدم سقوط الأمر بالأهمّ بإرادة عصیانه ـ فحیث تکون الإرادة شرطاً لتکلیف المهمّ فیجتمع الحکمان ، فیکون هناک أمران بالضدّین وطلب الجمع بینهما ، وهو محال .
وأمّا إذا کان الشرط عنواناً انتزاعیاً ـ أی عنوان الذی یعصی بعد ـ فکذلک أیضاً ؛ وذلک لأنّه إن أوجب ذلک سقوط الأمر بالأهمّ فیخرج عن مسألة الترتّب ، وإلاّ فإن کان الأمر بالأهمّ باقیاً بعد فیلزم طلب الضدّین .
وأمّا إذا کان عنوان العاصی شرطاً ، فواضح أنّه قبل العصیان الخارجی لا یصدق علیه عنوان العاصی ، وإن یصدق علیه عنوان أنّه یعصی بعدُ فحینئذٍ لم یکن تکلیف المهمّ فعلیاً ؛ لعدم شرطه ، وأمّا بعد تحقّق العصیان الخارجی منه وإن یصدق
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 358 علیه عنوان العاصی ، لکن الکلام فیه الکلام فی أخذ العصیان الخارجی شرطاً .
هذا کلّه فی المضیّقین .
وأمّا إذا کان أحدهما مضیّقاً والآخر موسّعاً : فإن کان الأمر بالأهمّ مضیّقاً والأمر بالمهمّ موسّعاً ـ بأن کان مثلاً ظرف الأهمّ من الزوال إلی ساعة بعده ، وظرف المهمّ من الزوال إلی الغروب ـ فیتمشّی فیه الصور الأربع ؛ من کون نفس العصیان شرطاً ، أو إرادة العصیان ، أو الذی یعصی بعد ، أو عنوان العاصی :
فإن کان العصیان الخارجی شرطاً فبعد تحقّقه یسقط الأمر بالأهمّ ، فلا یکون هناک إلاّ أمر واحد متعلّق بالمهمّ ، فیخرج عن مسألة الترتّب .
وهکذا الکلام لو کان عنوان العاصی شرطاً .
وأمّا لو کانت إرادة العصیان أو الذی یعصی شرطاً ، فالکلام فیهما ما ذکرناه فی المضیّقین ، فلاحظ .
وأمّا لو کان الأهمّ موسّعاً والمهمّ مضیّقاً فلابدّ وأن یفرض المضیّق فی آخر وقت الموسّع لیمکن فرض المزاحمـة وتوهّـم الترتّب ، فقبل ساعـة إلی الغروب ـ مثلاً ـ یکون ظرف الأهمّ والمهمّ کلیهما ، والکلام فیه ـ فی الصور الأربع بعینه ـ الکلام فی صور المضیّقین ، فلاحظ .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه فی هذه المقدّمة : أنّ أساس الترتّب مبنی علی هذه المقدّمة ، وإن کان المحقّق النائینی قدس سره ـ کما أشرنا ـ لم یعتن بهذه المقدّمة ، بل یری ـ کما سیجیء منه فی المقدّمة التالیة ـ أنّ أساس مسألة الترتّب مبنی علی المقدّمة الرابعة ، فهی الأهمّ عنده فی الباب ، وتتلوها فی الأهمّیة المقدّمة الثانیة ، وقد عرفت ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ أهمّیة المقدّمة الثالثة ، کما عرفت عدم تمامیتها ، وسیجیء فی بیان المقدّمة الرابعة : أنّها غیر مربوطة بما نحن فیه ، فارتقب حتّی حین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 359
المقدّمة الرابعة :
قد أشرنا : أنّ هذه المقدّمة أهمّ المقدّمات عند المحقّق النائینی قدس سره فی إثبات الترتّب ، بل قال قدس سره : إنّ أساس الترتّب مبنی علیها .
وحاصل ما أفاده هو : أنّ انحفاظ کلّ خطاب بالنسبة إلی ما یتصوّر من التقادیر علی أنحاء ثلاثة :
الأوّل : ما کان انحفاظه بالإطلاق أو التقیید اللحاظیین ، وذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یمکن لحاظه عند الخطاب ، وذلک إنّما یکون فی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب ، کقیام زید وقعوده ، وطیران الغراب وعدمه ، وکالوقت ، فیمکن لحاظ هذه التقادیر عند الخطاب بالصلاة ، فلو لاحظ تقدیراً خاصّاً کان ذلک تقییداً لحاظیاً ، کما لاحظ الوقت عند الأمر بالصلاة ، وإن لم یلاحظ تقدیراً خاصّاً ، بل ساوی فی أمره لکلتا حالتی وجود التقدیر وعدمه ، یکون ذلک إطلاقاً لحاظیاً ، کما ساوی فی أمره بالصلاة فی کلتا حالتی قیام زید وقعوده .
الثانی : أن یکون انحفاظ الخطاب بنتیجة الإطلاق أو التقیید ، وذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر وانقسام لاحق للمتعلّق بعد تعلّق الخطاب به ، کتقدیر العلم والجهل بالخطاب ، حیث إنّ تقدیری العلم والجهل بالخطاب لا یکون إلاّ بعد ورود الخطاب ، لأنّه بعد ورود الخطاب یتحقّق تقدیر العلم والجهل بذلک الخطاب ، وأمّا قبله فلا وجود له ، فلا یمکن فیه الإطلاق أو التقیید اللحاظیین ، بل لابدّ إمّا من نتیجة الإطلاق ، کما فی تقدیری العلم والجهل ، أو نتیجة التقیید ، کما فی تقدیری العلم والجهل أیضاً بالنسبة إلی خصوص مسألتی القصر والإتمام ، والجهر والإخفات .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 360 والوجه فی ذلک هو : أنّ الإهمال الثبوتی فی مثل هذه التقادیر غیر معقول ؛ لأنّ الملاک والمصلحة الباعثة للأمر بالصلاة إمّا یکون محفوظاً فی کلتا الحالتین ، فلابدّ من نتیجة الإطلاق ، کما فی العلم والجهل بعد قیام الأدلّة والضرورة علی اشتراک العالم والجاهل فی الأحکام ، إلاّ فی موارد القصر والإتمام ، والجهر والإخفات ، وإمّا أن یکون الملاک محفوظاً فی تقدیر خاصّ دون عدمه ، فلابدّ من نتیجة التقیید .
الثالث : ما یکون انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقیید اللحاظیین ، ولا بنتیجة الإطلاق والتقیید ، وذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یقتضیه نفس الخطاب ؛ وهو الفعل أو الترک المطالب به أو بنقیضه ، حیث یکون انحفاظ الخطاب فی حالتی الفعل والترک بنفسه وباقتضاء هویة ذاته ، لا بإطلاقه لحاظاً ونتیجة ؛ إذ لا یعقل الإطلاق والتقیید بالنسبة إلی تقدیری فعل متعلّق الخطاب وترکه ، بل یؤخذ المتعلّق مُعرّی عن حیثیة فعله وترکه ، ویلاحظ نفس ذاته ، فیحمل علیه بالفعل إن کان الخطاب وجوبیاً ، وبالترک إن کان الخطاب تحریمیاً ؛ لأنّه إن قیّد بالترک یلزم طلب الجمع بین النقیضین وإن قیّد بالفعل یلزم طلب الحاصل ، وإن اُطلق بالنسبة إلی تقدیری الفعل والترک یلزم کلا المحذورین ؛ فلابدّ من لحاظ ذات المتعلّق مهملا مُعرّی عن کلا تقدیری الفعل والترک ، فیخاطب به بعثاً أو زجراً ، ولیس فیه تقیید ولا إطلاق ؛ لا لحاظاً ولا نتیجة ، ولکن مع ذلک یکون الخطاب محفوظاً فی کلتا حالتی الفعل والترک ما لم تتحقّق الإطاعة والعصیان ، فانحفاظ الخطاب فی کلا التقدیرین إنّما یکون باقتضاء ذاته ؛ لأنّه بنفسه یقتضی فعل المتعلّق وطرد ترکه .
وبهذا یظهر لک : أنّ الفرق بین انحفاظ الخطاب عنده ، وبین انحفاظ الخطاب فی القسمین السابقین من وجهین :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 361 الوجه الأوّل : أنّ نسبة تلک التقادیر إلی الخطاب ، نسبة العلّة إلی معلولها ، أو ملحقة بها ، وذلک لأنّ الشرط یرجع إلی الموضوع ، والموضوع علّة لترتّب الخطاب علیه ؛ فإن اُخذ تلک التقادیر قیداً أو شرطاً للخطاب یکون ذلک التقدیر علّة للخطاب ، وإن اُطلق الخطاب بالنسبة إلی تقدیر فذلک التقدیر وإن لم یکن علّة للخطاب ـ لعدم أخذ ذلک التقدیر شرطاً ـ إلاّ أنّه یجری مجری العلّة ، من حیث إنّ الإطلاق والتقیید من الاُمور الإضافیة ، فهما فی مرتبة واحدة ، فإذا کان التقیید علّة للخطاب فالإطلاق الواقع فی رتبته یجری مجری العلّة من حیث الرتبة ، فتأمّل .
وهذا بخلاف تقدیری فعل المتعلّق وترکه ؛ فإنّ الأمر یکون فیه بالعکس ، حیث إنّ التقدیر معلول الخطاب ، والخطاب یکون علّة له ؛ لأنّ الخطاب یقتضی فعل متعلّقه وطرد ترکه .
الوجه الثانی : أنّ الخطاب بالنسبة إلی سائر التقادیر یکون متعرّضاً لبیان أمر آخر غیر تلک التقادیر ، غایته : أنّه تعرّض لذلک الأمر عند وجود تلک التقادیر ؛ فإنّ خطاب الحجّ ـ مثلاً ـ یکون متعرّضاً لفعل الحجّ ـ من الإحرام والطواف وغیر ذلک ـ عند وجود الاستطاعة ، ولیس لخطاب الحجّ تعرّض لتقدیر الاستطاعة ، وهذا بخلاف تقدیری الفعل والترک ؛ فإنّ الخطاب بنفسه متکفّل لبیان هذا التقدیر ومتعرّض لحاله ؛ لأنّه یقتضی فعل المتعلّق وعدم ترکه .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّه یترتّب علی ما ذکرنا من الفرق ، طولیة الخطابین وخروجهما من العَرضیة ؛ لأنّ خطاب الأهمّ ـ حینئذٍ ـ یکون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ وطارداً ومقتضیاً لهدمه ورفعه فی عالم التشریع ، دون العکس ؛ لأنّ موضوع خطاب المهمّ هو عصیان خطاب الأهمّ وترک امتثاله ، وخطاب الأهمّ دائماً
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 362 یقتضی طرد الترک ورفع عصیانه ؛ لأنّ البعث علی الفعل یکون زجراً علی الترک ، فخطاب الأهمّ یقتضی طرد موضوع المهمّ ، وأمّا خطاب المهمّ فهو إنّما یکون متعرّضاً لحال متعلّقه ، ولا تعرّض له لحال موضوعه ؛ لأنّ الحکم لا یتکفّل حال موضوعه من وضع أو رفع بل هو حکم علی تقدیر وجوده .
فلسان خطاب المهمّ هو : أنّه إن وجد موضوعی وتحقّق خارجاً ، فیجب فعل متعلّقی ، ولسان خطاب الأهمّ هو : أنّه ینبغی أن لا یوجد موضوع خطاب المهمّ وأن لا یتحقّق .
وهذان اللسانان ـ کما تری ـ لیس بینهما مطاردة ومخالفة ، ولیسا فی رتبة واحدة ، بل خطاب الأهمّ یکون مقدّماً رتبةً علی خطاب المهمّ ؛ لأنّ خطاب الأهمّ واقع فی الرتبة السابقة علی موضوع خطاب المهمّ السابق علیه ، فهو متقدّم علیه برتبتین أو ثلاث ، ولا یمکن أن ینزل خطاب الأهمّ عن درجته ویساوی خطاب المهمّ فی الرتبة ، وکذا لا یمکن أن یصعد خطاب المهمّ من درجته ویساوی الأهمّ ، ومع هذا الاختلاف فی الرتبة کیف یعقل أن یکونا فی عرض واحد ؟ ! انتهی .
وفیما أفاده مواقع للنظر :
منها : أنّ مراده من الإطلاق والتقیید اللحاظین لا یخلو من أحد أمرین :
الأوّل : أن یرید بالإطلاق اللحاظی ، لحاظ جمیع القیود فیه فعلاً ، فی قبال التقیید اللحاظی ، حیث إنّه لوحظ فیه قید مخصوص .
الثانی : أن یرید بالإطلاق اللحاظی ، مجرّد لحاظ الشیء من دون قید ، فی قبال التقیید اللحاظی الذی لوحظ فیه القید .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 363 فإن أراد الأوّل ، کما لعلّه الظاهر منه ومن شیخنا العلاّمة الحائری وغیرهما ، حیث صرّحوا فی بعض الموارد : أنّ المطلق بعـد جریان مقدّمات الحکمـة یصیر کالعامّ فی الدلالة علی الأفراد ، فکما أنّ فی قولک : «أحلّ الله کلّ بیع» لوحظ جمیع الحالات الطارئة علی طبیعة البیع والمتصوّرة فیها ، فکذلک قوله تعالی : «أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» .
ففیه : أنّه کما أشرنا غیر مرّة ـ وسیوافیک فی مبحث المطلق والمقیّد ـ أنّ هذا لیس معنی الإطلاق ؛ لأنّ الإطلاق فی العرف واللغة عبارة عن الاسترسال من القید ، قبال التقیید ، الذی هو عبارة عن التقیّد بالقید ، وفی الاصطلاح عبارة عن جعل شیء غیر مقیّد بقیدٍ موضوعاً أو متعلّقاً لحکم ، وهو لا یتقوّم بلحاظ الإطلاق ، وإرسال الطبیعة ساریة فی المصادیق .
فالإطلاق عبارة عن جعل نفس الشیء بلا قید موضوعاً أو متعلّقاً للحکم ، وهذا هو موضوع احتجـاج العقلاء بعضهم علی بعض ؛ فإنّ من قال لعبده مثلاً :
«أعتق رقبة» وتمّت المقدّمات فی حقّه ، یستفاد منه : أنّ نفس طبیعة الرقبة تمام الموضوع للإعتاق ، ولا یکون لشیء ـ من الإیمان والعدالة و . . . ـ دخالة فیها ، فکلّ ما صدق علیه «الرقبة» یصحّ إعتاقه . ومن الواضح أنّه لم یحتج ذلک إلی لحاظ جمیع
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 364 الخصوصیات ـ ولو لحاظاً إجمالیاً ـ کما یحتاج ذلک فی العموم ، بل یکفی لاستفادة ذلک جعل الحکم معلّقاً علی نفس طبیعة الرقبة حال کونه غیر مقیّد بقید .
فالمطلق بعد إجراء مقدّمات الحکمة لا یحکی عن الخصوصیات والأفراد من رأس ، کیف واللفظ لم یوضع إلاّ لنفس الطبیعة ؟ ! والمقدّمات لا توجب دلالة اللفظ أزید علی المقدار الذی وضع له اللفظ .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ الإطلاق غیر متقوّم بلحاظ الإطلاق وإرسال الطبیعة فی المصادیق ، بل متقوّم بجعل الطبیعة غیر المقیّدة موضوعاً أو متعلّقاً للحکم ، وهذا هو موضوع احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض .
بل نقول : إنّ لحاظ الإطلاق والإرسال مضرّ بالإطلاق ؛ لأدائه إلی أنّ الفرق بین المقیّد والمطلق بین تقیید وتقییدات ؛ فالمقیّد هو المتقیّد بقید واحد ، والمطلق هو المتقیّد بقیود ـ أی لحاظ جمیع القیود ـ وواضح : أنّه أجنبی عن ساحة الإطلاق .
وبالجملة : أنّ لحاظ التقادیر لو أمکن فی الإطلاق ، یکون هادماً لأساس الإطلاق ، ولعمر الحقّ : إنّ ما ذکرناه بعد الالتفات والتوجّه بمکان من الوضوح ، لا یحتاج إلی تجشّم إثباته أکثر ممّا ذکرنا .
وإن أراد الثانی فیتوجّه علیه : أنّ الفرق بین القیود السابقة علی الخطاب ، وبین القیود اللاحقة به ـ من حیث استفادة الإطلاق من نفس الخطاب فی الأوّل ، ومن دلیل خارج من إجماع أو غیره فی الثانی ـ لا وجه له ؛ لأنّ احتجاج العقلاء بعضهم علی بعض بالإطلاق لیس ممّا دلّت علیه آیة أو روایة حتّی تختصّ دلالتها بالقسم الأوّل ، بل هو حکم العقلاء ؛ فلابدّ من الفحص فی الموارد التی یحتجّ بعضهم علی بعض ، فواضح : أنّه إذا أخذ المولی الملتفت شیئاً غیر مقیّد بقید موضوعاً لحکمه ـ لا حین الجعل ، ولا بلحاظ مستأنف ـ فحیث إنّه بصدد تفهیم مرامه فالعقلاء یرون أنّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 365 نفس الطبیعة تمام الموضوع للحکم ، من غیر فرق عندهم بین القیود التی یمکن لحاظها فی متن الخطاب والجعل ، کما فی القسم الأوّل ، وبین ما لا یمکن لحاظها إلاّ بلحاظ مستأنف ، کما فی القسم الثانی .
وعدم إمکان الأخذ فی متن الخطاب لمحذور ـ کما فی القسم الثانی ـ لا یضرّ فی التمسّک بالإطلاق بعد إمکان أخذه ببیان مستأنف ، وحیث لم یقیّده بقید إلی زمان الإتیان یحتجّ العقلاء بعضهم علی بعض بأنّه وإن لم یمکنه التقیید حین الخطاب لمحذور ، ولکن حیث یمکنه التقیید بدلیل مستأنف ولم یقیّده یستکشف منه أنّ الإرادة الجدّیة تعلّقت بالطبیعة مرسلة ، ویحتجّ بعضهم علی بعض بالطبیعة المرسلة .
وبالجملة : لو کان المراد من لحاظ الإطلاق أخذ نفس الطبیعة موضوعة للحکم فلا وجه للتفرقة بین صورة إمکان ذکر القید حین الخطاب وبعده ؛ لأنّه فی الصورة الثانیة وإن لم یمکن أخذه فی الخطاب ، ولکن یمکنه أن یأخذه ببیان مستأنف ، فلو لم یقیّد إلی زمان العمل یستکشف من ذلک عدم دخالة القید فیه . نعم إن لم یمکن بیانه ـ ولو ببیان مستأنف ـ فلا یمکن أن یستکشف عدم دخالته فیه ، فتدبّر .
ومنها : أنّه ـ کما أشرنا فی مبحث التعبّدی والتوصّلی ـ لا فرق فی القیود الجائیة من قبل الأمر والمتأخّرة عنه ، وبین القیود السابقة علیه ، من حیث إمکان أخذها فی الخطاب وإمکان الإطلاق والتقیید .
وذلک لأنّ الإطلاق بالنسبة إلی القیود السابقة لیس معناه ما ذکره قدس سره ، بل معناه أنّ الطبیعة حیث اُخذت موضوعاً للحکم من دون قید ، یحتجّ العقلاء بعضهم علی بعض بأنّ الطبیعة من حیث هی هی تمام الموضوع للحکم ، واستفادة التقیید لیس من نفس اللفظ الدالّ علی الطبیعة ، بل بدالّ أو دوالّ اُخر ، مثلاً : فی قولک : «أکرم العالم الهاشمی العادل» لا یستفاد التقیید من نفس العالم ، بل لا یستفاد ذلک من شیء
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 366 من العناوین الثلاثة ؛ لأنّ کلاًّ منها یدلّ علی ما وضع له لفظه . نعم التقیید یستفاد من توصیف العالم بأنّه هاشمی عادل ، فلابدّ فی کلّ توصیف من لحاظ مستقلّ مستأنف ، ولا یکفی اللحاظ الأوّل فی ذلک ، فکما یمکن ملاحظة توصیف العالم بالعدالة والهاشمیة ، فکذلک یمکن توصیف الشیء بالعلم والجهل .
وعدم تقدیر العلم والجهل بالأحکام إلاّ بعد ورود الخطاب لو سلّم فإنّما هو بالنسبة إلی حال المکلّف ، ولا یوجب ذلک أن لا یمکن لحاظه حال الخطاب .
وبالجملة : یمکن للمولی ملاحظة جمیع القیود حال الخطاب ، من غیر فرق بین القیود الجائیة من قبل الأمر ، وما تکون سابقة علیه ، ولو سلّم وجود الفرق بینهما فإنّما هو بالنسبة إلی حال المکلّف ، حیث إنّه لو لم یکن له حکم لا معنی للعلم أو الجهل به ، ولکن لا یوجب ذلک أن لا یمکن لحاظ حاله فی مقام تعلّق الحکم ؛ بداهة أنّه یمکنه تقیید موضوع الخمر الحرام بکونها معلومة .
والحاصل : أنّ ما یکون متأخّراً عن الحکم إنّما هو جهل المکلّف وعلمه بحسب الواقع والخارج ، ولم یکن ذلک مأخوذاً فی الموضوع ، وما اُخذ فی الموضوع هو العنوان . ولا إشکال فی إمکان لحاظ عنوان یتحقّق بعد ، مثلاً : العلّة متقدّمة علی معلولها خارجاً ، ومع ذلک یمکن أن یلاحظ کلّ منهما فی زمان واحد .
فظهر ممّا ذکرنا : إمکان لحاظ ما یکون متأخّراً عن الخطاب والحکم خارجاً فی موضوع الحکم ، کما قلنا فی مبحث التعبّدی والتوصّلی بإمکان أخذ ما یتأتّی من قبل الأمر فی متعلّقه ، فراجع .
ومنها : أنّ قوله : «إنّ خطاب المهمّ متأخّر عن خطاب الأهمّ برتبتین أو ثلاث رتب» غیر وجیه ؛ لأنّ للتقدّم والتأخّر الرتبیین ملاکاً یخصّهما ، وقد حرّر فی محلّه : أنّ تأخّر شیء عن شیء إمّا لکون الشیء المتقدّم علّة تامّة له ، أو جزءً للعلّة ، أو شرطاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 367 للتأثیر ، أو معدّاً له ـ علی تأمّل ـ بل جزء الماهیة أیضاً ، لأنّ أجزاء الماهیة متقدّمة علی الماهیة فی مقام التقرّر الماهوی ، وإن اتّحدت معها خارجاً ، إلی غیر ذلک .
وبالجملة : التقدّم والتأخّر الرتبیین لیسا من الاعتبارات المحضة التی لا واقعیة لها فی نفس الأمر والواقع ، کیف وحکم العقل بأنّه وجد هذا ، فوجد ذاک بنحو تخلّل الفاء لیس إلاّ للإشعار بأمر واقعی وشیء ثبوتی ؟ ! فإثبات أمر واقعی للشیء ـ کالتأخّر الرتبی ـ فرع لکون الشیء الموصوف ذا تقرّر وذا حظّ من الوجود .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول : لا یکون للأمر والبعث ملاک التقدّم الرتبی بالنسبة إلی شیء من الإطاعة والعصیان ، وغایة ما یکون هی تقدّم الأمر والبعث زماناً علی إطاعته أو عصیانه ، توضیح ذلک : أنّ ملاک التقدّم الذی یمکن دعواه هنا أحد أمرین :
إمّا کون الأمر والبعث علّة للانبعاث الخارجی .
أو جزء علّة له ، ولا یکاد یمکن تصویر غیرهما ، کما لا یخفی ، وواضح : أنّ البعث لو کان علّة للانبعاث والإطاعة یلزم أن لا ینفکّ الانبعاث عنه فی الخارج ؛ ضرورة استحالة انفکاک المعلول عن علّته ، ومن المعلوم وجود العصاة والبغاة فی الخارج .
نعم ، بالنسبة إلی عبد یری أنّ فی مخالفة مولاه عقاباً ، وفی موافقته وامتثاله ثواباً ، یرجّح جانب الامتثال ویأتی بالمأمور به خارجاً . ولکن ذلک أیضاً بعد انقداح الخوف عن العذاب فی ذهنه ، والاشتیاق إلی نیل الثواب فی خواطره ، أو هما معاً ، فیتخلّل بین البعث والانبعاث شیئاً .
نعم ، بالنسبة إلی من یطیع أمر مولاه بمجرّد صدور الأمر من مولاه ، ویمتثله حبّاً له ـ من دون طمع فی الثواب أو الخوف عن العذاب ـ فلا یتخلّل تلک المبادئ ، ولکن مع ذلک تکون لامتثاله مبادئ اُخر ، ککون مولاه أهلاً للعبادة ، إلی غیر ذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 368 وبالجملة : یشترک الکلّ فی أنّه یتخلّل بین البعث والانبعاث زمان ما ، ولا أقلّ من تصوّر العبد بعث مولاه ، والتصدیق بفائدته ، والاشتیاق إلیه أحیاناً ، ثمّ إرادته ، فلو کان البعث علّة للانبعاث لزم استحالة الانفکاک بینهما ، وقد عرفت أنّ الانفکاک بینهما ممّا لابدّ منه .
مضافاً إلی أنّ تأثیر الأمر المتصرّم المتقضّی بمجرّد وجوده فی شیء موجود لا یعقل ؛ للزومه تأثیر المعدوم فی الموجود ، فالمؤثّر للانبعاث هو الصورة الذهنیة من البعث ، لا البعث الخارجی ، فتدبّر .
فإذا تبیّن لک عدم کون البعث علّة للانبعاث ، ظهر لک عدم کون البعث جزء علّة للانبعاث ، کما لا یخفی .
ولو سلّم علّیة البعث للانبعاث ، ولکن لا نسلّم أنّ عدم الانبعاث معلول للبعث ، وبالجملة : غایة ما یمکن أن یقال : إنّ الانبعاث معلول للبعث ، فالبعث مقدّم علیه بملاک العلّیة ، ولکن لا وجه لتقدّم البعث علی عدم الانبعاث ؛ لعدم وجود ملاک التقدّم بالنسبة إلیه .
إن قلت : لو لم یکن هناک أمر وبعث لم یتحقّق العصیان بالنسبة إلیه ، کما لا تتحقّق الإطاعة بدونهما ، فکلّ من الإطاعة والعصیان متأخّران عن البعث ، وهما یرتضعان من ثدی واحد .
قلت : تأخّر الإطاعة أو العصیان عن الأمر والبعث لا یثبت تأخّرهما عنه رتبةً ، لأنّ تأخّر العصیان عن الأمر إنّما هو بالزمان ، کما أنّ تأخّر الإطاعة عنه کذلک ، والکلام إنّما هو فی إثبات تأخّر العصیان عن الأمر رتبةً ، کما یکون کذلک فی الإطاعة ، وقد عرفت عدم وجود ملاک التقدّم بالنسبة إلی العصیان .
وغایة ما یمکن أن یقال فی الملازمة بین الإطاعة والعصیان هو أحد وجهین ؛
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 369 فلو تمّ الوجهان یثبت تأخّر العصیان عن الأمر والبعث ، ولکن لا یخلو الوجهان عن النظر والإشکال :
الوجه الأوّل : أنّ الإطاعة حیث تکون عبارة عن الانبعاث عن البعث فتکون متأخّرة عن البعث ، ونقیض الإطاعة عبارة عن عدم الإطاعة ، ولم ینحصر مصداق مفهوم النقیض بالعصیان ؛ ضرورة صدقه علی ما لو ترکها لعذر ؛ لسهو أو نسیان .
وبالجملة : لعدم الإطاعة مصداقان :
أحدهما : ترک المأمور به لا لعذر ، ویعبّر عنه بالعصیان .
والثانی : ترکه لعذر .
فالعصیان وإن لم یکن نقیضاً للإطاعة ، ولکنّه لازم للنقیض أو مصداق له ، وحیث إنّ الشیء یتّحد مع مصادیقه ذاتاً ، فلا یکونان فی رتبتین ، ومن المعلوم : أنّ نقیض الشیء لا یکون فی رتبة غیره ، وإلاّ یلزم اجتماع النقیضین .
والحاصل : أنّ الشیء ونقیضه فی رتبة واحدة ، والإطاعة مع العصیان ـ الذی هو مصداق لعدم الإطاعة ـ فی رتبة واحدة ؛ فالعصیان والإطاعة فی رتبة واحدة ، وحینئذٍ فإذا تقدّم البعث بالنسبة إلی الانبعاث ـ الذی عبارة عن الإطاعة ـ فیکون مقدّماً علی ما یکون فی رتبتها ـ وهو العصیان ـ لأنّ ما مع المتقدّم متقدّم ، کما أنّ ما مع المتأخّر متأخّر .
الوجه الثانی : أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه العامّ ، فالأمر بالأهمّ ـ مثلاً ـ مقدّم علی النهی عن ترکه ؛ تقدّم المقتضی ـ بالکسر ـ علی المقتضی ـ بالفتح ـ والنهی مقدّم علی عصیانه ؛ فیثبت تأخّر العصیان عن الأمر .
ومقتضی هذین الوجهین هو کون عصیان الأمر فی الرتبة المتأخّرة عنه ، فإذا اُخذ عصیان الأهمّ موضوعاً فی الأمر بالمهمّ فیتقدّم علیه تقدّم الموضوع علی حکمه ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 370 فیتأخّر أمر المهمّ عن أمر الأهمّ ولا یمکن أن یصعد خطاب المهمّ من درجته حتّی یساوی خطاب الأهمّ ، بل کلّ منهما یقتضی مرتبة لا یقتضیها الآخر ، ومع هذا الاختلاف فی الرتبة کیف یعقل أن یکونا فی عرض واحد ؟ ! هذا .
ولیعلم : أنّ أساس الوجهین مبنی علی مسلّمیة أمرین :
أحدهما : کون النقیضین فی رتبة واحدة .
ثانیهما : وأنّه إذا کان شیء مقدّماً علی أحدهما فهو مقدّم علی الآخر أیضاً .
وقد عرفت ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ عدم تمامیتهما ، وأنّ کلیهما لا یخلوان عن المغالطة .
وإن کنت محیطاً بما ذکرنا لکفاک فی دفعهما ، ولکن مع ذلک لا بأس بالإشارة إلی ما ذکرناه هنا إجمالاً :
فنقول : أمّا کون النقیضین فی رتبة واحدة : فقد أشرنا أنّ نقیض کلّ شیء رفعه ، أو مرفوع به ؛ فنقیض الشیء فی الرتبة رفع الشیء فی الرتبة علی أن تکون الرتبة قیداً للمسلوب ، لا إثبات الرفع فی الرتبة علی أن تکون الرتبة قیداً للسلب ، فإذا کذب وجود المعلول فی رتبة العلّة یلزم أن یکون نقیضه صادقاً ، ونقیضه لیس عدمه فی الرتبة ؛ لأنّها قضیة موجبة ، والموجبة لا تکون نقیضة للموجبة ، بل نقیضه : لیس المعلول موجوداً فی رتبة العلّة .
وبالجملة : نقیض کون شیء فی الرتبة ، سلبه فی الرتبة ؛ فلا یلزم أن یکون نقیض الشیء فی رتبة ذاک الشیء ، بل لا یکونان فی رتبة واحدة .
وإن کنت مع ذلک فی شک من ذلک ، فاستأنس من قولک : «کون شیء فی زمان» ؛ فإنّ نقیضه لیس «عدمه فی الزمان» ، بل «عدم کونه زمانیاً» .
ثمّ لو سلّم کون النقیضین فی رتبة واحدة ، ولکن لا یلزم من کون شیئین فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 371 رتبة واحدة ـ وذلک فیما إذا کانا معلولی علّة واحدة وتقدّم رتبة أحدهما علی شیء بملاکٍ ، ککونه علّة له ، أو جزء علّة ، أو شرط تأثیر ، إلی غیر ذلک ـ أن یکون الشیء الذی فی رتبته مقدّماً علی ذلک الشیء المتأخّر ، بعد عدم وجود ملاک التقدّم فیه ، ومنشأ توهّم کون ما مع المتقدّم فی الرتب العقلیة متقدّماً ، وما مع المتأخّر فی الرتب العقلیة متأخّراً ، هو مقایسة الرتب العقلیة بالرتب الزمانیة والمکانیة ؛ فإنّ ما مع الزمان المتقدّم علی شیء ، أو المکان کذلک ، مقدّم علی ذلک الشیء ، وأنّیٰ له بالرتب العقلیة التی تدور مدار مناطها وملاکها ؟ !
فعلی هذا : لو سلّم کون العصیان فی رتبة الإطاعة ، ولکن تقدّم البعث علی الإطاعة ـ بملاک أنّ البعث مقدّم علی الانبعاث ـ لا یوجب أن یکون البعث مقدّماً علی العصیان أیضاً .
مضافاً إلی أنّ العصیان أمر عدمی ـ وهو ترک المأمور به لا عن عذرٍ ـ وقد تقرّر فی محلّه : أنّ المعانی الوجودیة وخواصّها جمیعاً مسلوبة عن الأمر العدمی بالسلب التحصیلی ، وقد أشرنا غیر مرّة : أنّ القضایا الصادقة التی موضوعاتها اُمور عدمیة لابدّ وأن تکون بنحو السالبة المحصّلة ، والموجبات ـ سواء کانت سالبة المحمول ، أو معدولة المحمول ـ لا تصدق فی الأعدام إلاّ بتأوّلٍ ، مثلاً قولک : «شریک الباری ممتنع» صورته قضیة کاذبة باعتبار إثبات الامتناع علی شریک الباری ، إلاّ أنّ معناه فی الحقیقة : «شریک الباری لیس بموجود البتّة» ، وهی قضیة صادقة .
وبالجملة : العصیان بما أنّه أمر عدمی لا شأنیة له ، ولا یثبت له حیثیة من الحیثیات الوجودیة ، ککونه متقدّماً علی شیء أو متأخّراً عنه ، أو فی رتبة شیء ؛ فلا یکون العصیان فی رتبة الإطاعة .
وبعبارة أوفی : لا یکون العصیان موضوعاً لحکم ، ولا شرطاً لشیء أو مانعاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 372 عن شیء ، وبذلک یظهر : أنّ أخذ أمر عدمی لا یؤثّر ولا یوجب مصلحة ولا مفسدة فی الموضوع ، ولا یجتمع مع ما علیه العدلیة من کون الأحکام تابعة لمصالح أو مفاسد تقتضیها موضوعاتها ، حیث إنّ العدم لا اقتضاء فیه ، إلاّ أن یرجع إلی مانعیة الوجود ، وهو غیر مجدٍ أصلاً فی المقام .
مع ابتناء الوجه الثانی علی اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه ، وقد عرفت ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ ضعفه .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ أساس الترتّب المدّعی مبنی علی التقدّم والتأخّر الرتبیین المسلوبین عن العصیان ، الذی هو أمر عدمی .
وغایة ما یمکن أن یقال فی الترتب إنّما هو بالنسبة إلی الأمر والإطاعة ـ علی تأمّل قد عرفت وجهه ، لا الأمر والعصیان فانهدم أساس الترتّب .
فظهر : أنّ المقدّمـة التی هی أهمّ المقدّمات عند المحقّق النائینی قدس سره غیر تمام ، والله الهادی .
المقدّمة الخامسة :
هذه المقدّمة فی کلامه قدس سره طویل الذیل ، ولکن نذکر ما هو الدخیل فی المسألة ؛ فإنّه بعد أن قسّم موضوع الحکم وشرطه إلی ما لا یقبل الوضع والرفع التشریعیین ـ کالعقل والبلوغ ـ وإلی ما هو قابل لهما ، قسّم القابل إلی ما یکون قابلاً لکلّ من الرفع والدفع ، أو یکون قابلاً للدفع دون الرفع ، ثمّ قال : إنّ القابل للوضع والرفع التشریعیین ، إمّا یکون باختیار المکلّف أیضاً أو لا ، ثمّ ورد فی أنّ الخطاب الرافع لموضوع خطاب آخر : إمّا یکون بنفس وجوده رافعاً ، أو بامتثاله ، ومحلّ البحث فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 373 الخطاب الترتّبی إنّما هو فی القسم الأخیر ؛ وهو ما یکون امتثال خطاب رافعاً لموضوع خطاب آخر ، فنذکره ونرفض الباقی .
فنقول : حاصل ما أفاده فی ذلک هو : أنّ ما یکون بامتثاله رافعاً لموضوع خطاب آخر ـ کخطاب الأهمّ حیث یکون بامتثاله رافعاً لموضوع خطاب المهمّ ـ لأنّه یتحقّق اجتماع کلّ من الخطابین فی الفعلیة ؛ ضرورة أنّه إذا لم یمتثل أحد الخطابین ـ الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر ـ لا یرتفع الخطاب الآخر ؛ لعدم ارتفاع موضوعه بعد ، فیجتمع الخطابان فی الزمان والفعلیة ، بتحقّق موضوعهما ، فیقع البحث حینئذٍ فی أنّ مثل الخطابین هل یوجب إیجاب الجمع حتّی یکون من التکلیف بالمحال ، أو لا یوجب ذلک ؟
والحقّ : أنّه لا یوجب ذلک لجهتین .
ولابدّ أوّلاً من معرفة الجمع وما یوجبه :
أمّا الجمع : فهو عبارة عن اجتماع کلّ منهما فی زمان امتثال الآخر ؛ بحیث یکون امتثال أحد الخطابین مجامعاً فی الزمان لامتثال الآخر .
وأمّا الذی یوجب الجمع فهو أحد أمرین : إمّا تقیید کلّ من المتعلّقین بحال فعـل الآخـر ، أو تقیید أحدهما بحال الآخـر ، وإمّا إطلاق کلّ من الخطابین بحال فعـل الآخر .
وأمّا عدم إیجاب الجمع : فالدلیل علی ذلک : هو أنّه لو اقتضیا الجمع والحال هو هذه للزم المحال فی کلّ من طرف المطلوب والطلب ، مضافاً إلی مخالفته للبرهان المنطقی ، وذلک :
أمّا استلزام المحال فی ناحیة المطلوب : فلأنّ مطلوبیة المهمّ ووقوعه علی هذه الصفة إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ وخلوّ الزمان عنه ، فلو فرض وقوعه علی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 374 صفـة المطلوبیة فی حال وجود الأهمّ وامتثاله ـ کما هو لازم إیجاب الجمع ـ یلزم الجمع بین النقیضین ؛ إذ یلزم أن یعتبر فی مطلوبیة المهمّ وقوعه بعد العصیان وفی حال عدم العصیان ، بحیث یکون کلّ من حالتی وجود العصیان وعدمه قیداً فی المهمّ ، وهذا ـ کما تری ـ یستلزم الجمع بین النقیضین .
وأمّا استلزام المحال فی ناحیة الطلب : فلأنّ الأهمّ یکون من علل عدم خطاب المهمّ ؛ لاقتضائه رفع موضوعه ؛ فلو اجتمع خطاب الأهمّ والمهمّ وصار خطاب المهمّ فی عرض خطاب الأهمّ ، یلزم اجتماع الشیء مع علّة عدمه ، أو خروج العلّة عن کونها علّة للعدم ، أو خروج العدم عن کونه عدماً ، أو بقاء العلّة علی علّیتها والعدم علی عدمه ، ومع ذلک اجتمعا ، ویلزم من کلّ ذلک الخلف واجتماع النقیضین .
وأمّـا مخالفتـه للبرهان المنطقی : فلأنّ الأمـر الترتّبی المبحوث عنـه فی المقـام إذا أبرزناه بصورة القضیة الحملیة ، یکون من المنفصلة المانعة الجمع ، لا مانعة الخلوّ ؛ لأنّ التنافی فیه إنّما یکون بین النسبة الطلبیة من جانب المهمّ والنسبة الفاعلیة من جانب الأهمّ .
فصورة القضیة الحملیة هکذا : «أن یکون الشخص فاعلاً للأهمّ ، وإمّا أن یجب علیه المهمّ» ، فهناک تنافٍ بین وجوب المهمّ وفعل الأهمّ ، ومع هذا التنافی کیف یعقل إیجاب الجمع ؟ !
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ الأمر الترتّبی لا یعقل اقتضاؤه إیجاب الجمع فلا وجه لاستحالته ، وأنّه تکلیف بالمحال ، انتهی محرّراً .
وفیه : أنّ کلّ مورد تحقّقت فعلیة الخطابین فیه یلزم منه طلب الجمع ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 375 والملازمة بینهما قطعیة ، ومقتضی فعلیة الخطابین لزوم التوالی الفاسدة المذکورة فی کلامه قدس سره ؛ من المخالفة فی ناحیة کلّ من المطلوب والطلب ، ومخالفة البرهان المنطقی ، ومجرّد الترتّب العقلی لایصلح لرفع المحذور .
فکما أنّ فعلیة الخطابین العرضیین توجب طلب الجمع ، فکذلک الخطابین الطولیین ـ إلاّ بالوجه الذی تفرّدنا به وقوّیناه لعلّه بما لا مزید علیه ، فلاحظ ـ فإن لم یلزم فی مورد طلب الجمع فنستکشف منه ـ إنّاً ـ عدم فعلیة الخطابین .
هذا إجمال الکلام فی تضعیف مقاله قدس سره .
وأمّا تفصیله فهو : أنّه لو کان الاختلاف الرتبی مجدیاً لرفع غائلة طلب الجمع بین الخطابین مع وحدة زمان فعلیتهما ، یلزم أن یکون فی مورد اشتراط تکلیف أحدهما بإطاعة الآخر أوضح فی عدم لزوم طلب الجمع من أخذ العصیان شرطاً ؛ لما عرفت أنّ تأخّر الإطاعة والانبعاث من البعث رتبة وإن کان غیر وجیه ، إلاّ أنّه یمکن أن یوجّه بنحو ما ، ولکن تأخّر العصیان عن البعث بمراحل عن الواقع .
فعلی هذا : کلّ ما قالوه فی العصیان نقوله فی الإطاعة بطریق أولی ؛ فلو أُخذت إطاعة الأهمّ شرطاً فی تکلیف المهمّ لکان قیداً للموضوع ، فیقدّم إطاعة الأهمّ علی أمر المهمّ تقدّم الموضوع علی حکمه ، ومع ذلک لا إشکال فی أنّه یقتضی طلب الجمع ، فتدبّر .
وبالجملة : لو کان مجرّد الترتّب العقلی مجدیاً فی رفع محذور طلب الجمع ، ففیما اُخذت إطاعة أحدهما شرطاً للآخر یلزم أن ترتفع الغائلة بملاک الترتّب ، مع أنّه لا تکاد ترتفع الغائلة بالضرورة .
فظهر : أنّ تمام الملاک فی لزوم طلب الجمع هو فعلیة الخطابین ، وحدیث الترتّب وکون رتبة أحدهما مقدّمة علی الآخر لا یجدی فی رفع غائلة طلب الجمع .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 376 وقـد أشرنا : أنّ بعض العناوین الذی یؤخـذ فی موضـوع المهمّ یخرج الموضـوع عن مسألة الترتّب ، ویوجب أن یکون تکلیف کلّ من الأهمّ والمهمّ فی زمان علی حدة ، کما أنّ بعضها الآخر وإن لم یوجب خروج الموضوع عن مسألة الترتّب ، ولکن یکون فیه محذور طلب الجمع ؛ لکون الخطابین فعلیین فی زمان واحد .
فالأولی الإشارة إلی بیان تلک العناوین توضیحاً للمقال :
فنقول : إن اُخذ العصیان الخارجی أو ما یساوقه من العناوین ـ کعنوان الطغیان والتمرّد و . . . ـ شرطاً فی تکلیف المهمّ ، فیلزم أن یکون الأمر بالمهمّ عند العصیان الخارجی للأهمّ ، فقبل عصیان الأهمّ یکون التکلیف بالأهمّ متوجّهاً إلی الأهمّ فقط ، وبعد عصیانه وسقوطه یصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً فی حقّه ، فعند ذلک وإن لم یلزم طلب الجمع ، ولکن لیس ذلک لأجل الترتّب مع فعلیة الخطابین ، بل لعدم فعلیة کلّ منهما فی زمان فعلیة الآخر .
ولا فرق فی ذلک بین کون العصیان أو ما یساوقه تدریجی الوجود أو دفعی الوجود ؛ ضرورة أنّه فی صورة الثانی قبل تحقّق آن المعصیة یکون الزمان والظرف ، زماناً وظرفاً للأمر الأهمّ فقط ، وبتحقّق الآن یتحقّق العصیان ، فیسقط أمر الأهمّ ، فیصیر الأمر بالمهمّ فعلیاً ، فلم یجتمع الخطابان .
ومجرّد تقدّم رتبة الشرط علی المشروط لا یفید ما لم یتحقّق فی الخارج .
ولعلّ منشأ التوهّم هو ملاحظة کون الشرط من أجزاء علل وجود الشیء ، فیتقدّم علیه بالرتبة العقلیة ، ولا یلزم أن یتقدّم علیه خارجاً .
ولکنّه غفلة عن أنّ الشرط بوجوده الخارجی متقدّم ، فإذا اُخذ العصیان ـ مثلاًـ بوجوده الخارجی شرطاً ، فحیث إنّه لا یصدق إلاّ بعد مضیّ زمان لا یمکنه
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 377 إتیان الأهمّ فیه ، فقبل تحقّق العصیان یکون الأمر بالأهمّ فعلیاً فی حقّه فقط ، وبعده یتعیّن علیه تکلیف المهمّ .
وأمّا إذا اُخذ التلبّس بالعصیان والاشتغال به شرطاً لتکلیف المهمّ ، ففیه أوّلاً : أنّ العصیان لم یکن أمراً ممتدّاً حتّی یکون له أوّل وآخر ووسط ، بل أمر دفعی ؛ لأنّه إذا ترک المأمور به عمداً بلا عذر ـ بحیث یفوت عنه ولا یقدر علی إتیانه ـ ینتزع منه العصیان فی الآن الذی لا یقدر علی إتیانه ؛ ضرورة أنّه لا یُعدّ مطلق ترک المأمور به عمداً ما لم یفت المأمور به معصیة .
وبالجملة : العصیان آنی التحقّق والوجود .
نعم ، فی بعض الموارد یحتاج إلی مضیّ زمان حتّی یفوت عنه المأمور به ویسلب عنه القدرة لینتزع العصیان ، ولکنّه لا یوجب کون العصیان متدرّج الوجود حتّی یتأتّی فیه الشروع والختم .
وثانیاً : أنّه لو سلّم أنّ العصیان أمرٌ ممتدّ ، ولکن نقول : إنّ التلبّس بالعصیان : إمّا یکون عصیاناً بالحمل الشائع ؛ فحکمه حکم صورة أخذ العصیان شرطاً ـ من أنّ لازمه سقوط أمر الأهمّ ، وخروجه عن مسألة الترتّب ـ أو لا یکون عصیاناً کذلک ؛ فیکون کلّ من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ فعلیاً ، ومقتضاهما طلب الجمع ، والمکلّف لا یقدر علی إتیانهما فی زمان واحد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 378 ولو اُخذ الاُمور الانتزاعیة شرطاً ـ کانتزاع عنوان «الذی یعصی» من العصیان الخارجی باعتبار ظرفه فیما بعد ، أو «المکلّف الذی یکون عاصیاً فیما بعد» ، إلی غیر ذلک ـ فواضح أنّ هذه العناوین ثابتة قبل تحقّق العصیان الخارجی بالنسبة إلی الأهمّ ، فإن کان أمر الأهمّ معه فعلیاً یلزم طلب الجمع ، وإلاّ فیخرج عن مسألة الترتّب .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّ التقدّم الرتبی لیس مناطاً لرفع غائلة طلب الجمع بین الضدّین ، والملاک کلّ الملاک عدم فعلیة الخطابین فی زمان واحد ، ومع عدم فعلیة الخطابین ینهدم أساس الترتّب . فلا یمکن أن تدفع مقالة شیخنا البهائی قدس سره بالترتّب ، والجواب الحقیق هو الذی ذکرنا ، فلاحظه وافهمه واغتنم وکن من الشاکرین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379