المورد الثانی : فی مقتضی الأدلّة إثباتاً بعد فرض إمکانه
تقدّم الکلام فی المورد الأوّل ـ أی عدم إمکان بقاء الجواز أو الرجحان بعد نسخ الوجوب ـ ومعه لا مجال للبحث فی مقام الإثبات ، کما لا یخفی .
ولکن استیفاءً للبحث ، وبناءً علی إمکان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ـ کما یظهر من بعض ـ ینبغی الإشارة إلی أنّه علی فرض إمکان بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، فهل یدلّ دلیل الناسخ أو المنسوخ علیه ، أم لا ؟
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 433 فالبحث فی هذا المورد علی سبیل الفرض والتنزیل ؛ فلو دلّ دلیل فلا یخلو إمّا أن یکون الدالّ دلیل المنسوخ ، أو دلیل الناسخ .
والحقّ : عدم دلالة شیء منهما علی ذلک :
أمّا بالنسبة إلی دلیل المنسوخ : فذلک لأنّ الوجوب إمّا ینتزع من البعث المنحدر إلی المتعلّق ، ویکون ذلک تمام الموضوع للاحتجاج ما لم ینصب قرینة علی الخلاف ، کما هو المختار ، أو یقال : بأنّ الأمر وضع للوجوب ، یقال بتحقّق الوجوب إذا أفاده المولی بالمعنی الاسمی ؛ بأن قال : «هذا واجب» .
وعلی أیّ منها : فإن تمّ القول بأنّ اللفظ الدالّ علی الوجوب یدلّ عند التأمّل علی اُمور ثلاثة : أحدها : الدلالة علی أصل الإلزام ، ثانیها : الدلالة علی الرجحان ، ثالثها : الدلالة علی الجواز بالمعنی الأعمّ ، بحیث تکون هناک دلالات ثلاث ، فیمکن أن یقال : إنّه بنسخ الوجوب یذهب واحد منها ؛ فیبقی الآخران .
ولکن المبنی ـ کما أشرنا إلیه آنفاً فی المورد الأوّل ـ فاسد ؛ لأنّ وجود الرجحان والجواز عند وجود الإلزام والوجوب لیس لأجل أنّ هناک دوالاًّ ثلاثاً ومدلولات کذلک فی عرض واحد ، بل لأجل أنّ غایة ما یقتضیه الدالّ علی الوجوب ـ ولو اُلقی بالمعنی الاسمی ـ هو لزوم إتیان المتعلّق ، وواضح : أنّ کلّما یکون الشیء لازم الإتیان ینتزع منه الجواز بالمعنی الأعمّ والرجحان ، فدلالة الأمر علی الرجحان أو الجواز لیست فی عرض دلالته علی الوجوب ، بل فی طوله ؛ فلم تکن هناک دوالّ متعدّدة ومدلولات کذلک .
وإن کان فی خواطرک ریب فنوضحه بالمثال ، فنقول : إذا وضع لفظ لمعنی مرکّب من عدّة أجزاء ـ کلفظ «الماء» الموضوع للمائع المرکّب من عنصرین ـ فإذا اُلقی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 434 لفظ «الماء» لا یدلّ ذاک اللفظ علی العنصرین بالدلالة اللفظیة ، بل لیس هنا إلاّ دالّ واحد ومدلول کذلک .
نعم حیث یکون للمعنی الموضوع له نحو ترکّب فیدلّ ذلک المعنی المدلول علیه ـ لا بما أنّه مدلول علیه ـ علی العناصر دلالةً عقلیة ، ولذا أنکرنا فی محلّه کون دلالتی التضمّن والالتزام من دلالة الألفاظ ، بحیث یکون اللفظ الدالّ علی المعنی المطابقی ، دالاًّ فی عرضه علی جزء معناه أو لازمه دلالةً لفظیة ، وقلنا : إنّهما من قبیل الدلالة العقلیة ، ومن باب دلالة المعنی علی المعنی .
والسرّ فی ذلک هو : أنّ الدلالة الوضعیة هی التی تکون دلالته بالوضع والجعل ، ومن المعلوم : أنّ اللفظ لم یوضع إلاّ لشیء واحد ومعنی فارد .
نعم ، حیث إنّ المعنی له أجزاء أو لوازم ، ینتقل الشخص من المعنی المدلول علیه ، لا بما أنّه مدلول علیه إلیها ، وهکذا الدلالة الطبعیّـة ؛ فإنّ خروج الدخان من محلّ یدلّ علی وجود النار هناک ، ولکن لا یکشف فی مقام الدلالة عن وجود أجزاء حاملة للحرارة ، کما لا یخفی ، والتفصیل یطلب من محلّه .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا درَیت : أنّ الوجوب بأیّ طریق استفید ، فغایة ما یمکن أن یقال : إنّه ـ نظیر الماء ـ ذو أجزاء ؛ فکما أنّ الماء مرکّب من عنصرین ، فکذلک الوجوب مرکّب من أصل الجواز والرجحان والإلزام ، فلم تکن هناک دوالّ متعدّدة ومدلولات کذلک ، بل دالّ واحد ومدلول کذلک ، واستفادة أصل الرجحان والجواز بحکم العقل وفی طول استفادة الإلزام .
فتحصّل : أنّه لا دلالـة لدلیل المنسوخ علی الرجحان أو الجواز بالمعنی الأعمّ .
وأمّا دلیل الناسخ فکذلک ؛ لوضوح أنّ غایة ما یقتضیه هو رفع الوجوب ، فأنّی له وللدلالة علی الرجحان أو الجواز ؟ !
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 435