الفصل السابع فی أنّ الأوامر والنواهی هل تتعلّق بالطبائع أو الأفراد
اضطربت کلمات الأعلام فی تحریر محطّ البحث :
فیظهر من بعضهم : أنّ المسألة لغویة ، وأنّ النزاع فی مدلول مادّتی الأمر والنهی بقرینة تشبّثه فی ذلک بالتبادر ـ کما تشبّث فی مسألة دلالة الأمر علی الوجوب أو الندب به ـ فیقال : إنّ لصیغة الأمر مادّة وهیئة ، والهیئة وضعت لإیقاع البعث تشریعاً ، والمتبادر من المادّة ، الطبیعة اللا بشرط .
یظهر ذلک من صدر کلام صاحب «الفصول» قدس سره حیث تشبّث لکون المأمور به الطبیعة لا الفرد بالتبادر ، وإجماع السکّاکی علی أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوین موضوع للطبیعة اللا بشرط .
ولکن یظهر من دلیل القائل بکونها موضوعة للفرد ، کون المسألة عقلیة لالغویة ؛ لأنّه استدلّ لذلک بأنّ الطبیعـة مـن حیث هی تمتنع وجـودها فی الخارج ؛
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 403 لما تقرّر فـی محلّه مـن امتناع وجـود الکلّی الطبیعی فی الخارج ، فیمتنع تعلّق التکلیف به ؛ فیتعیّن أن یکون المطلوب ومتعلّق الأمر الفرد .
ویظهر من بعضهم ابتناء المسألة علی أنّ هیئة الأمر موضوعة شرعاً للبعث والإغراء إلی نفس الطبیعة ، أو إیجادها ؛ فعلی الأوّل لابدّ من القول بتعلّقها بالطبیعة ، وعلی الثانی لابدّ من القول بتعلّقها بالفرد .
وربّما یظهر من بعض آخر ـ کالمحقّقین الخراسانی والأصفهانیـ کون المسألة عقلیة فلسفیة ، حیث بنوا ذلک علی مسألة أصالـة الوجود أو الماهیـة ؛ فإن قیل بأصالـة الوجود فمتعلّق الأمر وجود الطبیعـة ، وإن قیل بکون الماهیـة أصیلة فهی متعلّقة للأمر .
کما یظهر من آخرین ابتناء المسألة علی مسألة عقلیة اُخری ؛ وهی وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج وعدمه ؛ فإن قیل بوجوده فی الخارج فیکون متعلّق الأمر أو النهی الطبیعة ، وإلاّ یکون متعلّقهما الفرد من الطبیعة .
ثمّ اختلفوا فی المراد بالفرد ؛ فربّما یظهر من بعضهم : أنّ المراد بالفرد ، الفرد الخارجی الذی یکون منشأ انتزاع الصورة الذهنیة ، فالمراد بالطبیعة لدیه ، الطبیعة من حیث هی هی مع قطع النظر عن الوجودین .
ونفی ذلک بعضهم مدّعیاً : أنّ مقتضی القول بذلک کون الطلب بما یکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 404 حاصلاً ، فیبعد أن ینازعوا فی أمر یکون أحد شقّیه بدیهی البطلان ؛ ولذا قال بعضهم ـ کالمحقّق الخراسانی قدس سره ـ إنّ المراد بالفرد ، الوجود المخصوص .
والذی یقتضیه التأمّل هو : أنّ المسألة أجنبیة عمّا ذکروه ، وما قالوه انحراف للمسألة عن مسیرها ؛ وذلک لأنّ مقتضی ما ذکره صاحب «الفصول» قدس سره هو إعادة البحث من غیر فائدة ؛ لأنّه تقدّم منه مستقصی فی طیّ مباحث المشتقّ ما یتعلّق بذلک ، فإعادته هنا غیر سدید ، فلا ینبغی استناد النزاع فیه هنا إلی ذلک ، مضافاً إلی ما ذکروه وعنونوه هنا .
وکذا ابتناء المسألة علی کون الموضوع له فی هیئة الأمر ـ أنّها موضوعة للبعث والإغراء شرعاً إلی نفس الطبیعة أو إیجادها ـ لا وجه له ؛ لأنّ موضوع البحث فی المسائل الاُصولیة لیس هو خصوص الأوامر والنواهی الشرعیین ، بل الأعمّ منها وممّا تصدر من الموالی العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم وغلمانهم .
نعم ، لو استقرّ الرأی علی أحد شقّی المسألة فیستفاد منه فیما یتعلّق بالشریعة ، مثلاً : یبحث فی الاُصول عن الملازمة بین وجوب المقدّمة وذیها ، وأنّ الأمر بشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا ؟ إلی غیر ذلک من المسائل ، فإن استفیدت الملازمة أو اقتضاء الأمر للنهی عن ضدّه فینفع فی الشریعة .
ومن تلک المسائل هذه المسألة ؛ فالبحث فی کون متعلّق الأوامر والنواهی الطبیعة أو الفرد ، لم یکن منحصراً فی خصوص الأوامر والنواهی الشرعیة ، بل یعمّ مطلق الأوامر والنواهی الصادرة من أیّ شخص لأیّ شیء ، سواءً کانت صادرة علی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 405 نحو التقنین والتشریع أم لا ، من غیر فرق فیما صدر علی نحو التقنین بین القوانین الإلهیة والقوانین العرفیة .
وبالجملة : محطّ البحث فی الأوامـر والنواهی الصادرة مـن کلّ أحـد فی کلّ یوم ولیلة من الأعرابی والعامّی والفقیه والفیلسوف وسائر طبقات الناس ، إلی أیّ مأمور لذلک .
فبعد ما تمهّد لک ، سعة نطاق البحث ، یظهر لک أنّ ابتناء البحث علی مسألة أصالة الوجود أو الماهیة غیر وجیه وخروج عن محطّ البحث ؛ بداهة أنّ غالب الأوامر والنواهی الصادرة من العرف والعقلاء فی کلّ یومٍ ولیلة ، بل الأوامر والنواهی الواردة فی الشریعة المقدّسة ـ التی هی الغایة القصوی من البحث فی أمثال هذه المسائل ـ إنّما تعلّقت وتتعلّق بأشیاء لا تأصّل لها فی الخارج ، بل باُمور اعتباریة ـ أعنی الماهیات المخترعة ـ کالصلاة مثلاً ؛ فإنّها ماهیة اعتباریة اختراعیة مرکّبة من عدّة اُمور ومقولات متکثّرة ، ولها وحدة فی عالم الاعتبار غیر متحقّق فی الخارج إلاّ اعتباراً ؛ ضرورة أنّ کلّ واحد من التکبیر والقراءة والرکوع والسجود وغیرها وجودات متکثّرة ، ولم تکن الصلاة عبارة عن کلّ واحد منها ، بل هی المجموع منها ، وواضح : أنّه لا یکون لها تحقّق ووجود فی الخارج حتّی یکون مصداقاً للکلّی الطبیعی ، فما یکون مصداقاً لها هو الواحد الاعتباری .
ومن الواضح : أنّ الماهیات الاعتباریة الکذائیة خارجة عن نزاع القائلین بأصالة الوجود أو الماهیة ؛ لوضوح أنّ معقد بحثهم إنّما هـو فی الماهیات الأصلیة ، وأمّا الماهیات الاعتباریة الاختراعیـة فجمیع الفلاسفة متّفقون علی عـدم تحقّق لها فی الخـارج ؛ لا لماهیّاتها ، ولا لوجودها . وإن أبیت عـن ذلک وتری أنّه لم یکن البحث مخصوصاً بالماهیات الاعتباریـة ، ولا أقلّ یکون أعمّ منها ، فابتناء المسألـة
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 406 علی أصالة الوجود أو الماهیة غیر وجیه ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّ البحث ـ کما أشرنا ـ فی أمر عقلائی فی الأوامر العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم وغلمانهم ، لا خصوص الأوامر الصادرة من مثل شیخ الرئیس وصدر المتألّهین ومن یحذو حذوهما . ومن المعلوم بدیهةً : أنّ العلماء ـ إلاّ الخواصّ والأوحدی منهم ـ فضلاً عن غیرهم الذین هم أکثر الناس لا یکادون یفهمون أصالة الوجود أو الماهیة ، وإن کنت فی شکّ فاختبرهم ! فتحصّل أنّ أبتناء المسألة علی أمر لا یکاد یفهمه الآمرون والمأمورون ، لعلّه ممّا یضحک منه الثکلی .
وثالثاً : أنّ مقتضی ذلک هو لزوم عرفان المأمور بمذهب مخاطبه ـ بالکسر ـ من حیث أصالة الماهیة أو الوجود ؛ فإن زعم أنّه یری مذهب الشیخ الرئیس بأصالة الماهیة فیحمل علی کون المتعلّق نفس الطبیعة ، وإن اعتقد أنّه علی مذهب صدر المتألّهین من کون التأصّل للوجود فیحمل علی کون المتعلّق الفرد من الطبیعی ، فإن شکّ فی مذهبه فلابدّ وأن یتردّد ولا یفهم المراد من الأمر أو النهی الملقی إلیه ، وهو کما تری ینکره کلّ من له إلمام بفهم المطالب العرفیة .
ومن هنا یظهر لک : أنّ ابتناء المسألة علی مسألة عقلیة اُخری ـ وهی وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج وعدمه ـ أیضاً ، غیر وجیه ؛ لأنّ ذلک إنّما هو فی الماهیات الأصیلة ، لا الماهیات الاعتباریة الاختراعیة التی هی محطّ نظر الاُصولی ، فالکلّ متّفقون علی عدم وجودها فی الخارج ؛ حتّی الرجل الهمدانی القائل بوجود الکلّی الطبیعی فی الخارج .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 407 وذلک لما أشرنا إلیه آنفاً : من أنّ الماهیات الاختراعیة بما أنّها غیر مندرجة تحت مقولةٍ واحدة غیر موجودة فی الخارج ؛ وبما أنّها لا یکون لمجموعها وجود حقیقی حتّی یکون مصداقاً للکلّی الطبیعی فلا تکون أفرادها أیضاً متحقّقة فی الخارج .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فلابدّ من عقد محطّ البحث بنحو یکون البحث فیه عقلائیاً یصحّ تمشّی النزاع من الأعلام وأساتذة الفنّ فیه ، من دون لزوم اللغویة .
ولتبیین ذلک ینبغی ذکر مقدّمة ؛ وهی : أنّه ـ کما أشرنا فی أقسام الوضع ، وفی وضع الحروف ـ أنّه یمکن أن یتصوّر فی وضع الحروف کون الوضع فیها عامّاً والموضوع له خاصّاً بأحد نحوین :
الأوّل : أن تلاحظ الماهیة اللابشرط القابلة للصدق علی الأفراد ، لکن یوضع اللفظ لما یکون مصداقـاً حقیقیاً لتلک الطبیعة ، مثلاً : یتصوّر عنوان «العالم» ، وحیث إنّه بحسب وجوده الخارجی یتّحد مع عناوین اُخر تخالفه ـ فإنّ الرجل العالم من حیث إنّه بحسب وجوده الخارجی ذو جسم یکون مصداقاً لعنوان الجسم ، ومن حیث کونه ذا لون یکون مصداقاً لعنوان اللون ، ومن حیث کونه ذا حیاة ونطق یکون مصداقاً للإنسان ، وهکذا . . . ـ فالعالم الخارجی یکون مجمعاً لعناوین کثیرة ، ولکن حیثیة کونه عالماً غیر تلک الحیثیات ، فیوضع لفظ «العالم» لما یکون مصداقاً ذاتیاً لعنوان العالم .
الثانی : أن یلاحظ الماهیة اللابشرط القابلة للصدق علی الأفراد ، ولکن یوضـع اللفظ لما یکون مصداقـاً لها بجمیع خصوصیاتها اللاحقـة لها والمنضمّة إلیها فی الخارج .
وقد سبق : أنّ المختار فی کون وضع الحروف عامّاً والموضوع له خاصّاً إنّما هو النحو الأوّل ، فنقول هنا : إنّ الأمر فی المقام أیضاً کذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 408 وذلک لأنّ الصلاة ـ مثلاً ـ لها حیثیة ذاتیة اعتباریة ؛ وهی التی أوّلها التکبیر ، وآخرها التسلیم ، مستجمعاً لجمیع الأجزاء والشرائط ، فاقدة للموانع ، من دون أن تکون للخصوصیات الزمانیة والمکانیة وغیرها دخالة فیها أصلاً .
فالقائل بتعلّق الأمر بالطبیعة یری أنّ نفس طبیعة الصلاة من حیث هی متعلّقة للأمر ، والقائل بتعلّقه بالفرد یری تعلّق الأمر بما یکون مصداقاً ذاتیاً لها علی نحو الإجمال ، ومن الواضح : أنّه کما یمکن تصوّر نفس طبیعة الصلاة ، فکذلک یمکن تصوّر ما یکون مصداقاً ذاتیاً لها علی نحو الإجمال .
ولعلّه ظهر لک ممّا ذکرنا وجه عدم الوضع بالنحو الثانی ـ بأن لاحظ نفس طبیعة الصلاة مثلاً ، فوضع لفظة «الصلاة» لما یکون مصداقاً لها حافّة بالخصوصیات اللاحقة والمنضمّة إلیها ـ وذلک لبعد أن تنازع العلماء والأساطین فیما لا یکون دخیلاً فی المقصود والغرض .
وبالجملة : لو رجع نزاع القائلین بتعلّق الأمر بالفرد فی قبال القائلین بتعلّقه بالطبیعة ، إلی ما ذکرنا ـ من أنّه یتصوّر الآمر ماهیة الصلاة مثلاً ، وحیث إنّ لها مصادیق ذاتیة متّحدة مع خصوصیات اُخر غیر دخیلة فی تحصیل الغرض والمطلوب ، فیلاحظها إجمالاً ویأمر بها ـ لکان النزاع فی أمر معقول فی الجملة ، ولم یکن واضح الفساد وتحصیلاً للحاصل ، کما یترائی مـن کلمات القوم ، فالقائل بتعلّق الأمر بالفرد یری تعلّقـه بالمصداق الذاتی للطبیعة ، لا الموجـود منها حتّی تکون محالاً وتحصیلاً للحاصل ، ولا بما أنّها المخلوطـة فی الذهـن ـ وإن کانت موجـودة فیـه ـ ومن المعلوم : أنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها ، کما أنّ نفس الطبیعة قابلة للتصوّر کذلک ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 409 فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فی المراد بتعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد فنقول : الحقّ کون متعلّق الأمر نفس الطبیعة ، لا الفرد منها ؛ وذلک لأنّه لا إشکال فی أنّ الآمر العاقل الملتفت قبل أمره وبعثه إلی أمر لابدّ له من أن یتصوّر المتعلّق بجمیع ما یکون محصّلاً لغرضه ، فإن کانت نفس الطبیعة من حیث هی محصّلة لغرضه فیبعث نحوها فقط ، ولکن إذا کانت للخصوصیات دخالة فی تحصیل غرضه فلابدّ وأن یبعث إلیها مستجمعة للخصوصیات ، ولا تکاد تتعلّق إرادته بنفس الطبیعة .
وبالجملة : لا یکاد یبعث المولی الملتفت إلی غیر ما یراه واجداً للمصلحة ؛ لا أزید منه ولا أنقص ، بل البعث إلیهما مساوق للبعث إلی أمر لم یکن فیه صلاح .
فإذن : الخصوصیات المتوهّمة دخالتها فی متعلّق الأمر ، إن اُرید بها خصوصیات مثل الشرط والجزء وعدم المانع ، بحیث لم تکن نفس الطبیعة من حیث هی بدون الشرط والجزء وعدم المانع محصّلة لغرضه ، فواضح أنّ القائلین بکون المتعلّق نفس الطبیعة یرون ذلک أیضاً ؛ بداهة أنّهم لم یریدوا بالطبیعة ، الطبیعة الفاقدة للخصوصیات الدخیلة فی الغرض .
وأمّا إن اُرید بها الخصوصیات الفردیة غیر الدخیلة فی تحصیل الغرض ، فلا یکاد یتعلّق الأمر بها ؛ لأنّ البعث تابع للإرادة ، وهی تابعة للأغراض والمصالح فی المتعلّق ، وواضح : أنّه لم تکن للخصوصیات الفردیة دخالة فی تحصیل الغرض ، فلا یکاد یتعلّق الأمر بها ؛ بداهة أنّ تعلّقه بشیء لم یکن دخیلاً فی الصلاح ممتنع .
ولیعلم : أنّه لا فرق فیما ذکرنا بین القول بأصالة الماهیة أو أصالة الوجود فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 410 الماهیات الأصلیة ؛ لأنّ کلاًّ من الطائفتین یری أنّ الآمر یبعث نحو الطبیعة ویرید إیجادها ، وأمّا نفس الطبیعة بدون الوجود فلا تکون منشأ للأثر عند جمیعهم ؛ حتّی القائلین بأصالة الماهیة ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 411