دفع توهّم عدم کون نفس الطبیعة متعلّقة للأمر
ظهر لک ممّا ذکرنا : أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة ـ من حیث هی ـ یراد إیجادها فی الخارج ، ولکن یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره : أنّها من حیث هی هی لم یکن متعلّقة للأمر ، بل الطبیعة بوجودها السعی بما هو وجودها ـ قبالاً لخصوص الوجود ـ متعلّقة للأمر ، وإن کان ذاک الوجود لا یکاد ینفکّ فی الخارج عن الخصوصیة ؛ قبالاً لوجودها المخصوص .
ویظهر من المحقّق العراقی قدس سره : أنّ معروض الطلب ومتعلّقه الطبیعة بما هی مرآة للخارج ویری بها عین الخارج باللحاظ التصوّری ، مع العلم والتصدیق بخلافه ؛ لما یری أنّها غیر موجودة فی الخارج .
وقریب من ذلک ما یظهر من شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره ؛ فإنّه کان یقول فی مجلس الدرس مکرّراً : إنّ متعلّق الأمر «طبیعت خارج دیده» . ومنشأ هذه الأقوال منهم زعمهم ـ وقد صرّحوا بذلک أیضاً ـ أنّ الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی ، لا مطلوبة ولا مبغوضة ، ولا متعلّقة للأمر أو النهی ، ولذا ذهب المحقّق الخراسانی قدس سره إلی أنّ الماهیة بوجودها السعی متعلّقة للأمر ، کما ذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی أنّها بما هی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 411 مرآة للخارج متعلّقة للطلب ، ونحوه ما ذهب إلیه شیخنا العلاّمة ، فلابدّ أوّلاً من ملاحظة الوجدان فی متعلّقات الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة إلی عبیدهم وغلمانهم ، ثمّ ملاحظة حکم العقل والبرهان المدّعی علی خلاف ما علیه العقلاء ، فالکلام یقع فی موردین :
المورد الأوّل : فیما یقتضیه الوجدان ، لا یخفی : أنّه لو خلّینا وأنفسنا عن المطالب العقلیة ، ولاحظنا الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة إلی عبیدهم وغلمانهم ، نری أنّ المولی قبل الأمر والبعث یلاحظ الماهیة المأمور بها أوّلاً ، ثمّ یبعث نحوها ، وإلاّ یلزم تعلّق الأمر والبعث بالمجهول المطلق .
ومن الواضح : أنّ لقوله : «أکرم العالم» مثلاً مادّة وهیئة ، والمتبادر من المادّة ـ کما یقتضیه تصریح أهل اللغة أیضاً ـ هی نفس الطبیعة ، والهیئة وضعت للبعث إلیها اعتباراً ، نظیر إشارة الأخرس .
فالهیئة إنّما تدعو إلی نفس الطبیعة ، فدعوتها إلی الخصوصیات الفردیة إمّا تکون إلزامیة قهریة ، أو اختیاریة إرادیة .
لا سبیل إلی الأوّل ـ کما هو واضح ـ فلابدّ وأن تکون دعوتها باختیار واستشعار ؛ فلابدّ وأن یلاحظها الآمر ، والمفروض أنّه لم یلحظ الآمر إلاّ نفس الطبیعة التی تکون محصّلة للغرض ، دون الخصوصیات الفردیة غیر الدخیلة فی الغرض .
وحدیث نشوء إرادة الخصوصیات من الإرادة المتعلّقة بنفس الطبیعة ممّا لا أساس له ، کما تقدّم .
نعـم ، یمکـن أن یقال : إنّ الآمـر عنـد لحاظـه نفس الطبیعـة ینتقل ذهنـه إلـی الخصـوصیات ـ إمّـا تفصیلاً أو إجمالاً ـ فیبعث نحـوهـا ، نظیر وضـع العامّ والموضـوع له الخاصّ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 412 ولکنّه خلاف المتبادر من الأوامر الصادرة من الموالی العرفیة بالنسبة إلی عبیدهم وأولادهم ، بل خلاف الوجدان والضرورة ؛ بداهة أنّه لا ینقدح عند الأمر بالطبیعة خصوصیات المصادیق ، بل ربّما تکون المصادیق عند الآمر مغفولة عنها .
فظهر : أنّ الذی یقتضیه الوجدان ـ کما علیه العرف والعقلاء فی الأوامـر الصادرة من الموالی العرفیة ـ هو أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة ، من دون لحاظ الخصوصیات ، فلابدّ من ملاحظة البرهان المدّعی فی المقام علی خلاف ما علیه ارتکاز العقلاء ووجدانهم .
فحان وقت التنبّه علی المورد الثانی ـ وهو قول الحکماء : «إنّ الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی» ـ فنقول : لیس مرادهم ما زعموه من أنّ الماهیة من حیث هی لیست بموجودة ولا معدومة ، ولا محبوبة ولا مطلوبة ، إلی غیر ذلک ، بل مرادهم : أنّ الماهیـة فی مرتبـة ذاتها لیست إلاّ ذاتها وذاتیاتها ، بحیث یسلب عنها جمیع الخصوصیات الخارجیة عنها ؛ ولذا یقولون : إنّ التناقض منتفٍ عن المرتبة .
فالطبیعة والماهیة فی مرتبة ذاتها لیست إلاّ نفسها وأجزاءها ، فالوجود والعدم ، والحبّ والبغض ، والطلب والإرادة ، وغیرها من اللواحق تسلب عن مرتبة ذات الطبیعة وذاتیاتها ، ولم تکن نفسها ولا جزء منها ، بل الطبیعة فی مرتبة ذاتها خالیة عن تلک القیود واللواحق برمّتها .
ولکن لا ینافی ذلک عروض الوجود والعدم ، وتعلّق الأمر بها أو النهی عنها ؛ بداهـة أنّ القائل بلحوق الأمـر والطلب وعروضـه علی الطبیعة لا یریـد إثبات
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 413 أنّ المطلوبیة لنفس الطبیعة أو جزء منها ، فللآمر أن یتصوّر الطبیعة ویصدّق بفائدتها ویریدها ، ثمّ یبعث نحوها ، ویفهم العرف من البعث إلیها إیجادها خارجاً ؛ لوضوح أنّ الطبیعة قبل وجودها خارجاً لیست طبیعة وماهیة ، بل لیست هناک إلاّ مجرّد تصوّر وتخیّل ، فلا تکون مطلوبة ولا متعلّقة للبعث ، کما أنّ الموجود الخارجی أیضاً کذلک لا یتعلّق به الطلب ؛ لأنّ الخارج ظرف السقوط ، لا ظرف الثبوت ، فالموضوع للأثر وإن کان هو الموجود الخارجی ، لکنّه غیر مطلوب ؛ لکون الخارجی بما هو کذلک غیر قابل للتعقّل ، وأمّا الوجود الذهنی فلم یکن مطلوباً أیضاً ؛ لعدم تعلّق الغرض به ، کما لا یخفی .
وبالجملة : المطلوب الحقیقی والمنشأ للأثر غیر موجود فی الذهن ، وما یتعلّق به الإرادة والأمر ـ وهو الوجود الذهنی ـ غیر مطلوب حقیقة ، فیجعل غیر المطلوب قنطرة ووسیلة لمطلوبه النفسی ، فیبعث نحو الطبیعة ؛ فیفهم العرف من ذلک لزوم تحصیلها وإیجادها ، فتدبّر .
وبما ذکرنا یظهر : أنّ ما ربّما یقال : إنّ ما تقوم به المصلحة ویترتّب علیه الأثر هو المطلوب ومتعلّق الأمر ، غیر صحیح ، بل محال أن یکون القائم به المصلحة مأموراً به ؛ بداهة أنّ ما یترتّب علیه الأثر ، الموجود الخارجی ، والموجود فی الذهن لم یکن کذلک ، نعم ، یلاحظ المولی أنّ الأثر یترتّب علی الموجود الخارجی ، وحیث إنّه لا یعقل الأمر به بعد وجوده فیتصوّر نفس الطبیعة ویبعث بالطلب نحوها ویرید إیجادها خارجاً .
فتحصّل : أنّ البحث عقلائی ؛ فلابدّ من ملاحظة دیدن العقلاء وبنائهم فی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 414 أوامرهم ونواهیهم علیه ، ولو تأمّلت حالهم تراهم إذا أدرکوا أنّ ماهیة من حیث هی فیها مصلحة إمّا مجرّدة ، أو هی مع الخصوصیات ـ من الشرط وعدم المانع ونحوهما ـ فیلاحظوها علی ما هی علیها محصّلة للغرض ، وحیث یرون أنّ الماهیة بوجودها الخارجی محصّلة لغرضهم یبعثون بالهیئة نحوها یریدون إیجادها ، ومن الواضح : أنّ ما یتعلّق الأمر به غیر منشأ للأثر ، ولکن حیث یمکن أن یتوسّلوا بمطلوبهم بهذا النحو فیوجّهون الطلب نحوها یریدون تحقّقها وإیجادها ، فما یترتّب علیه الأثر هو الذی یوجده المکلّف فی الخارج ؛ سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهیة .
فبعدما ظهر لک أنّ قولهم : «إنّ الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی» أجنبی عمّا نحن فیه ؛ لصحّة لحوق کثیرٍ من الأشیاء بها ، وعرفت : أنّ متعلّق الأمر والطلب غیر ما هو المحصِّل للغرض وما قام به المصلحة ؛ بداهة أنّ الواجد لهما هو الموجود الخارجی الذی یوجده المکلّف .
فإذن نقول : لا وجه لرفع الید عمّا هو المرتکز فی أذهان العرف والعقلاء ، فلا معنی لأن یقال : إنّه إذا قال المولی لعبده «اسقنی الماء» ، فمعناه : أوجد وجود الماء ، بل غایة ما یفهم منه هی إتیان الماء خارجاً ، ومعنی إتیانه خارجاً هو إیجادها ، وکم فرق بین دلالة البعث والأمر علی شیء ، وبین کونه لازماً للبعث والأمر عرفاً ؟ !
والذی أوقع الأعلام فیما وقعوا ، وارتکبوا خلاف ما هو المرتکز فی أذهان العرف والعقلاء ، وقال بعضهم بأنّ المراد بالماهیة المطلوبة وجودها السعی ، کما قال آخر : إنّ المراد أنّ الماهیة ـ بما هی هی ـ مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع العلم بخلافه ، وکما قال ثالث : بأنّ المراد الماهیة التی رأت الخارج (ماهیت خارج دیده) .
إنّما هو لمحذور عقلی توهّموه ، فبعد ما عرفت عدم کونه محذوراً فی المسألة فسهل لک التصدیق بما علیه ارتکاز العرف والعقلاء .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 415 کما أنّ ما ربّما یظهر من «الفصول» وافقه المحقّق الخراسانی قدس سره فی «کفایة الاُصول» من أنّ البعث طلب الوجود ، رفع للید عمّا هو الظاهر من الهیئة ، حیث إنّها نظیر إشارة الأخرس للبعث إلی المادّة بلحاظ القول بأصالة الوجود ، وقد أشرنا أنّه رکن غیر وثیق فیما هو المهمّ فی المسألة .
فظهر بما ذکرنا أیضاً ضعف ما یستفاد من المحقّق العراقی ، ووافقه شیخنا العلاّمة الحائری من أنّ لحاظ الطبیعة یتصوّر علی وجوه :
منها : لحاظها بما هی موجودة فی الذهن .
ومنها : لحاظها بما هی شیء فی حدّ ذاتها ، مع قطع النظر عن وجودها الذهنی أو الخارجی .
ومنها : لحاظها بما هی مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع العلم بخلافه ؛ لما یری أنّها غیر موجودة فی الخارج .
ومن الواضح : أنّه لیس مراد القائل بکون متعلّق الأمر الطبیعة ، الطبیعة من حیث هی ؛ لوضوح أنّها لیست إلاّ هی ، فلا تکون موردة للمصلحة ، ولا الطبیعة بما هی موجودة فی الذهن ؛ لوضوح أنّها بهذا الاعتبار مع کونها کلّیاً عقلیاً غیر قابل للصدق علی الخارج ، بل المراد الطبیعة بما هی مرآة للخارج باللحاظ التصوّری مع القطع بخلافه بالنظر التصدیقی ، انتهی محصّلاً .
وکان یعبّر شیخنا العلاّمة عـن هذا المعنی فی مجلس الدرس بـ «ماهیت خـارج دیده» .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 416 ولیت شعری ما الداعی إلی تصوّر الآمر الطبیعة مرآةً للخارج مع القطع بخلافه ، کما یراه المحقّق العراقی ؟ !
وأسوأ منه ما ذکره شیخنا العلاّمة ـ ماهیت خارج دیده ـ فإنّه قدس سره لو لم ینضمّ إلیه القطع بالخلاف ـ کما صرّح به المحقّق العراقی ـ فلازمه : أنّه تری الصلاة الخارجی ، فنقول : إذا رؤیت الصلاة الخارجی ـ مثلاً ـ فی قوله : «صلّ» ، وحیث إنّ العنوان فانٍ فی المعنون ، فلا معنی للبعث نحوها ؛ لاستلزامه إیجاد ما هو موجود ، فتدبّر .
ذکر وتعقیب
قال المحقّق الأصفهانی قدس سره : التحقیق یقتضی کون متعلّق الأمر الفرد بمعنی وجود الطبیعة ، فأوضحه بأنّ طبیعة الشوق من الطبائع التی لا تتعلّق إلاّ بما له جهة وجدان وجهة فقدان ؛ إذ لو کانت موجودة من کلّ جهة کان طلبها تحصیلاً للحاصل ، ولو کانت مفقودة من کلّ جهة لم یکن طرف یتقوّم به الشوق ؛ لأنّه ـ کالعلم من الصفات ذات الإضافة ـ لا یتشخّص إلاّ بمتعلّقه ، بخلاف ما لو کان موجوداً من حیث حضوره للنفس مفقوداً من حیث وجوده الخارجی ، فالعقل یلاحظ الموجود الخارجی ؛ فإنّ له قوّة ملاحظة الشیء بالحمل الشائع ، کما له ملاحظة الشیء بالحمل الأوّلی ؛ فیشتاق إلیه ، فالموجود بالفرض والتقدیر مقوّم للشوق ، لا بما هو هو ، بل بما هو آلة لملاحظة الموجود الحقیقی ، والشوق یوجب خروجه من حدّ الفرض والتقدیر إلی الفعلیة والتحقّق ، وهذا معنی تعلّق الشوق بوجود الطبیعة ، لا کتعلّق البیاض بالجسم . . . إلی آخر ما ذکره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 417 وفیه : أنّ هذا منه قدس سره عجیب ؛ لعدم ارتباط الدلیل بمدّعاه ومطلوبه ؛ بداهة أنّ مجرّد کون متعلّق الشوق لابدّ وأن یکون أمراً موجوداً مـن جهةٍ ومعدوماً مـن جهةٍ اُخری ، لا یثبت کون المتعلّق الفرد ؛ ضرورة أنّ القائل بتعلّق الأمر بالطبیعة لا یری تعلّقه بالطبیعة المعدومة من کلّ جهة ، بل یری الطبیعة المتصوّرة ، ومن الواضح : أنّ البعث نحـو المادّة لیس إلاّ بعثاً نحـو الطبیعة ، ومجـرّد إمکان تصوّر الشـیء بالحمل الأوّلی أو الحمل الشائـع لا یثبت کون الواقـع بحسب التصدیق کذلک ، فافهم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 418