حول مقال العلمین الحائری والعراقی
ثمّ إنّ المحقّقین الحائری والعراقی حیث رأیا أنّ وجدانهم یقضی بکون المقدّمة الموصلة واجبة ، ولکن استصعبوا بعض الإشکالات التی أوردناها وأجبنا عنها ـ بحول الله وقوّته ـ تصدّیا لتصویرها بنحوٍ خالٍ عن الإشکال .
ولکن الإنصاف : أنّ ما ذکراه ـ مضافاً إلی أنّه غیر خالٍ عن الإشکال فی نفسه ـ یتوجّه علیه الإشکالات التی أوردناها .
وکیف کان : قال شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره : یمکن أن یقال : إنّ الطلب متعلّق بالمقدّمات ذواتها ، لکنّها فی لحاظ الإیصال ، لا مقیّداً به حتّی تلزم المحذورات السابقة ؛ وذلک لأنّ المقدّمة قد تلحظ مع سائر المقدّمات المنتظمة الواقعة فی طریق مبادئ المطلوب ، وقد تلحظ منفکّة عن سائر المقدّمات ، وواضح : أنّها إذا لوحظت منفکّة لا یریدها جزماً ؛ فإنّ ذاتها وإن کانت مورداً للإرادة ، لکنّها لمّا کانت المطلوبیة فی ظرف ملاحظة باقی المقدّمات معها لم تکن کلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق ، بحیث تسری الإرادة إلی حال انفکاکها عن باقی المقدّمات . فتحصّل : أنّ المقدّمة ذاتها مطلوبة فی لحاظ الإیصال ـ لا مقیّداً بالإیصال ، ولا مطلقة ـ ولکن لا ینطبق إلاّ علی المقیّدة ، وهذا الذی ذکرناه مساوق للوجدان ، ولا یرد علیه ما یرد علی القول باعتبار الإیصال قیداً ، وإن اتّحد معه فی الأثر ، انتهی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 199 وقال المحقّق العراقی قدس سره بتقریب آخر ، وهو : أنّ الواجب لیس مطلق المقدّمة ، ولا خصوص المقیّدة بالإیصال ، بل الواجب هو المقدّمة فی ظرف الإیصال بنحو القضیة الحینیة . وبعبارة اُخری : الواجب هو الحصّة من المقدّمة التوأمة مع وجود سائر المقدّمات الملازم لوجود ذی المقدّمة .
وکلا العلمان صرّحا بأنّ مقالهما موافق للوجدان . وأورد المحقّق العراقی قدس سرهعلی نفسه : بأنّه ما وجه العدول عن کون الواجب هو المقدّمة الموصلة ، إلی اختیار أنّ الواجب هو المقدّمة فی ظرف الإیصال ، مع الاعتراف بأنّ الغرض الداعی إلی إیجاب المقدّمات هو التوصّل إلی ذیها ؟
فأجاب بما حاصله : أنّ ما ذکره صاحب «الفصول» قدس سره غیر سلیم عن الإشکال ، وأمّا الذی ذکرناه فسلیم عنه .
ولا یخفی : أنّ المقالتین قریبتا المأخذ ، وما ذکراه ـ مضافاً إلی أنّه غیر سلیم عن الإشکال ـ یتوجّه علیه إشکال آخر ، وحاصله : أنّ المقدّمات المنتظمة أو المقدّمـات فی ظرف الإیصال إذا کانت واجبـة ، فهل لها دخالـة فی موضوعیـة الحکم ، أم لا ؟
فعلی الثانی یلزم أن یکون انتظام المقدّمات من باب الاتّفاق ، فتکون ذوات المقدّمات واجبة ؛ لأنّها تمام الموضوع للحکم ، وإن زالت تلک الحالة . وبالجملة : إن لم یکن لإنتظام المقدّمات دخالة فی موضوعیة الحکم فیکون تمام الموضوع نفس الذات ؛ انتظمت المقدّمات معها أم لا ولا یعقل رفع الحکم عنها بدون الانتظام .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 200 وعلی الأوّل فلا محالة تکون قیداً للمتعلّق ، فینطبق علی مقال صاحب «الفصول» قدس سره .
والحاصل : أنّه لو کانت ذوات المقدّمات واجبة فمحال أن ینفکّ عنها فی صورة عدم الانتظام ، فبانفکاک الحکم عنها فی تلک الصورة یستکشف عن دخالة الانتظام ، وهو مقال صاحب «الفصول» ، فتدبّر . هذا ما فی کلام شیخنا العلاّمة قدس سره .
وقریب من ذلک ما فی کلام المحقّق العراقی قدس سره ، بل کلامه أسوأ منه ؛ وذلک لأنّ معنی اعتبار الشیء حیناً هو عدم خصوصیته له ، بل اُخذ بعنوان الظرف لمعرّفیة الموضوع ، کقولک : «أکرم زیداً الذی یکون فی المسجد» ؛ فإنّه لم یکن للجلوس فی المسجد خصوصیة ؛ فکما لا یکون للکون فی المسجد خصوصیة فی موضوعیة زید لوجوب الإکرام ، فکذلک لا خصوصیة لظرف الإیصال فی موضوعیة ذوات المقدّمات للحکم ؛ فالذوات واجبة ، والتوأمیة لا خصوصیة لها .
مضافاً إلی أنّه ـ کما أشرنا إلیه غیر مرّة ـ أنّ الحصّة لا تصیر حصّة إلاّ بالتقیید ؛ لأنّه بالتقیید تصیر متمیّزة عن غیرها ، وإلاّ فهی باقیة علی إطلاقها ، فإن قیّدت فلیس القید إلاّ الإیصال ، وهو لیس إلاّ مقال صاحب «الفصول» قدس سره .
فظهر : أنّ العلمین قصدا الفرار عن الإشکال ، ولکنّه توجّه علیهما بنحو أشدّ ، فتدبّر .
توجیه وتزییف
ویمکن أن یقرّر کلام العلمین بوجهٍ آخر ـ وإن کان هذا الوجه خلاف ظاهر عبارتهما ـ وهو : أنّ المقدّمة وکذا غیرها إذا وجبت لغایة فلا یمکن أن تکون مطلق المقدّمة واجبة ، ولا المقدّمة مقیّدة بالغایة واجبة :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 201 أمّا الأوّل : فیلزم منه أن تکون واجبة لا لغایة ، فیکون وجوبها جزافیاً .
وأمّا الثانی : فلامتناع التقیید بالغایة ؛ لأنّ العلّة الغائیة مقدّمة تصوّراً ومتأخّرة وجوداً ؛ لأنّه یتصوّر الغایة فی الرتبة المتقدّمة فیتحرّک نحوها ، وحیث إنّ وجودها خارجاً متوقّف علی مقدّمات فیأتی بها فتوجد بعد . فإذا ظهر أنّهما فی رتبتین فلا یکاد یمکن أن یقیّد الشیء بما یتقدّم علیه أو یتأخّر .
وبالجملة : المقدّمات حیث إنّها معلّلة بالأغراض فلها نحو دخالة فی تضیّق دائرة الإرادة ، فلا تکون مطلق المقدّمة ، ولا المقدّمة المقیّدة واجبة . نعم لها نحو دخالة توجب أن لا ینطبق إلاّ علی المقیّد .
ولکن بعد اللتیّا والتی لا یتمّ هذا التوجیه أیضاً ، ولا یصحّ الالتزام به ؛ لما أشرنا وسیظهر لک جلیاً عند ذکر کلام المحقّق الأصفهانی قدس سره : أنّ البحث فی الملازمة حیث إنّها عقلی فلابدّ من تدقیق النظر فیها ، والجهات التعلیلیة فی حکم العقل ترجع إلی الجهات التقییدیة ، فلم یکن عند العقل واسطة وذو واسطة وترتّب ذی الواسطة علیها ، بل جمیع القیود دخیلة فی الموضوع . فإذن قولنا لغایة الإیصال مرجعه إلی موضوعیة الحیثیة الموصلة ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202