ضابط لتبدّل الأحکام وتزییفه
ذکر المحقّق النائینی قدس سره ضابطاً لتبدّل الأحکام بعضها مع بعض لإیضاح المقصود فی المقام ؛ بأنّ تبدّل حکم إلی آخر إنّما هو فی صورة وحدة المتعلّق ، بحیث یکون متعلّق أحد الحکمین عین متعلّق الآخر ، کما لو نذر صلاة اللیل ؛ فإنّ الأمر الاستحبابی إنّما تعلّق بذات صلاة اللیل لا بما أنّها مستحبّة ، والنذر أیضاً یتعلّق بالذات ؛ إذ لا یمکن أن یتعلّق النذر بصلاة اللیل بوصف کونها مستحبّة ـ لأنّها بالنذر تصیر واجبة ، فلا یمکنه إتیانها بوصف الاستحباب ـ فلابدّ وأن یتعلّق النذر بالذات ؛ فیکون الأمر الوجوبی الجائی من قبل النذر متعلّقاً بعین ما تعلّق به الأمر الاستحبابی ؛ فیتبدّل الأمر الاستحبابی بالأمر الوجوبی ، ویکتسب الأمر الوجوبی التعبّدیة ، کما اکتسب الأمر الاستحبابی الوجوب ، فإنّ الأمر النذری وإن کان توصّلیاً ، إلاّ أنّه لمّا تعلّق بموضوع عبادی اکتسب التعبّدیة .
وأمّا إذا لم یکن متعلّق أحد الحکمین عین الآخر ، بل تعلّق الثانی بغیر ما تعلّق به الأوّل بقید کونه مأموراً به بالأمر الأوّل ، فلا یعقل التبدّل ، کما فی صلاة الظهر ، حیث اجتمع فیها أمران : أمرٌ تعلّق بذاتها ؛ وهو الأمر النفسی العبادی الذی لا یکاد یسقط إلاّ بامتثاله والتعبّد به ، وأمر تعلّق بها لکونها مقدّمة وشرطاً لصحّة صلاة العصر ، ولکن الأمر المقدّمی تعلّق بصلاة الظهر بقید کونها مأموراً بها بالأمر النفسی وبوصف وقوعها عبادة امتثالاً لأمرها النفسی ، فاختلف موضوع الأمر النفسی مع موضوع الأمر المقدّمی ، ولا یتّحدان ؛ فلا یمکن التبدّل .
فإذن نقول : الأمر المتعلّق بذات الوضوء ، قبل الوقت کان استحبابیاً ، وبعد
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 173 الوقت یکون الوضوء نفسه واجباً بالأمر الصلاتی ، ولمکان اتّحاد المتعلّقین یتبدّل الأمر الاستحبابی بالأمر الوجوبی ؛ لما عرفت : أنّ کلاًّ من الأمر الاستحبابی قبل الوقت والأمر الوجوبی النفسی العارض من جهة الأمر بالصلاة بعد الوقت متعلّقان بذات الوضوء ؛ فیتبادلان .
وأمّا الأمر الغیری العارض له بعد الأمر بالصلاة فلا یعقل أن یتّحد مع الأمر الاستحبابی أو النفسی ؛ لأنّ الأمر الغیری إنّما یعرض علی ما هو بالحمل الشائع مقدّمة ، والوضوء المأمور به بالأمر یکون مقدّمة ؛ فیکون حال الوضوء بالنسبة إلی الأمر النفسی حال نذر صلاة اللیل من حیث التبدّل ، وبالنسبة إلی الأمر الغیری حال صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر من حیث عدم التبدّل ، انتهی محرّراً .
فیما أفاده مواقع للنظر ، نذکر بعضها :
منها : ما یستفاد من مقاله : وهو أنّ الوضوء المستحبّ قد یجب بالنذر وشبهه ، ولا یخفی : أنّ هذا المقال غیر مخصوص بهذا المحقّق ، بل علیه جمهور الفقهاء ، کالمحقّق والعلاّمة وغیرهما ، حیث قالوا فی کتاب الطهارة : إنّ الوضوء وسائر الطهارات الثلاث مستحبّات نفسیة ، لکنّها تجب بالنذر والعهد والقسم ، بل قالوا بوجوب صلاة اللیل ، بل غیرها من المستحبّات ، بالإجارة ونحوها أیضاً .
فیتوجّه علیه وعلیهم ما قلناه فی مبحث الطهارة وغیرها ، وحاصله : أنّ کلّ عنوان اُخذ موضوعاً لحکم ، لا یکاد یتعدّی الحکم ولا یتجافی عن العنوان الذی اُخذ موضوعاً إلی عنوان آخر ، وواضح : أنّ مقتضی ما دلّ علی وجوب الوفاء بالنذر أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 174 القسم أو العهد أو غیرها هو وجوب الوفاء بالنذر وشبهه . فالواجب بالنذر ـ مثلاً ـ هو عنوان «الوفاء بالنذر» لا شیء آخر ، وإن اتّحد معه خارجاً ، فمَن نَذر صلاة اللیل ـ مثلاً ـ لا تصیر صلاة اللیل بالنذر واجباً ، بل هی مستحبّة کما کان قبل النذر ، بل لو قلنا باعتبار قصد الوجه ـ من الوجوب أو الاستحباب ـ فی العبادة ، لم یحصل منه برء النذر إلاّ إذا أتی بصلاة اللیل مستحباً .
وذلک لأنّ الواجب علیه بالنذر هو عنوان «الوفاء بالنذر» لا صلاة اللیل . نعم ، الوفاء بالنذر إنّما هو بإتیان صلاة اللیل المستحبّة ، وهو غیر کون الصلاة متعلّقة للوجوب ، وبعد النذر لو ترک صلاة اللیل عمداً لا یسأل عنه بأنّه لِمَ ترکتَ صلاة اللیل ؟ بل یُسأل عنه : لِمَ لم تَفِ بنذرک ؟
فالخلط وقع بین ما هو متعلّق للنذر بالذات ، وبین ما هو مصداق له بالعرض .
وإن شئت مزید توضیح لذلک فنقول : إنّ ما ذکرناه هنا نظیر مسألة اجتماع الأمر والنهی .
فکما صحّ أن یقال هناک : إنّ النهی وهو لا تغصب ـ مثلاً ـ تعلّق بعنوان الغصب ، والأمر وهو صلّ ـ مثلاً ـ تعلّق بعنوان آخر وهو الصلاة وواضح : أنّ عنوان الغصبیة غیر عنوان الصلاتیة ، والحکم المتعلّق بأحدهما لا یکاد یتجاوز إلی العنوان الآخر ، ومجرّد اتّحادهما خارجاً أحیاناً لا یکاد یضرّ بذلک ؛ لعدم تعلّق التکلیف ـ الأمر والنهی ـ بالخارج ؛ لأنّ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته ، فیکون المصداق الخارجی مجمع العنوانین .
فکذلک نقول فیما نحن فیه ؛ لأنّ «فِ بنذرک» مثلاً تعلّق بعنوان «الوفاء بالنذر» ، والأمر به یقتضی إتیان المنذور علی ما هو علیه ، والأمر الاستحبابی تعلّق بعنوان صلاة اللیل . فبعد النذر ـ کقبله ـ تکون صلاة اللیل مستحبّة ، بحیث لابدّ وأن تؤتیٰ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 175 مستحبّة . نعم صلاة اللیل مصداق ما وجب علیه بالنذر ، وقد عرفت أنّ المصداق الخارجی لم یتعلّق به التکلیف .
فإذن : الوفاء بالنذر واجب توصّلی إلی الأبد ، کما أنّ صلاة اللیل مستحبّة تعبّدیاً کذلک . ولا معنی لاکتساب الوجوب التعبّدیة والاستحباب الوجوب ، فتدبّر .
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا ظهر لک : أنّ الطهارات الثلاث المستحبّات لا تتلوّن بلون الوجوب ولو صارت مقدّمة وواجبات غیریة ؛ لا قبل وقت الواجب ـ وهو ظاهر ـ ولا بعده .
وممّا یؤیّد ما ذکرنا ، بل یدلّ علیه : فتوی الأصحاب بأنّه لو نذر شخص أن یصلّی صلاة الظهر الواجب ـ مثلاً ـ یقع نذره صحیحاً ؛ فلو خالف ولم یصلّ عمداً فمقتضی القاعدة أن یعاقب عقابین ؛ لأنّه خالف أمرین عمداً : أحدهما الأمر المتعلّق بصلاة الظهر ، والثانی الأمر المتعلّق بوفاء النذر لحنث النذر .
وأمّا علی ما علیه المحقّق النائینی قدس سره ومن یحذو حذوه ـ من القول بالتبدّل ـ فمقتضاه أن یعاقب عقاباً واحداً ـ وهو مخالفة الأمر النذری ـ کما کان یعاقب کذلک فی ترک صلاة اللیل المستحبّة المنذورة ، وهو کما تری .
ومنها : قوله قدس سره بعدم معقولیة التبدّل فی صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر ، ووجوب التبدّل فی صلاة المنذور .
فلیته عکس الأمر ویقول بالتبدّل فی صلاة الظهر ، حیث إنّها مقدّمة لصلاة العصر ؛ لأنّ المقدّمة علی مبناه ومبنی المحقّق الخراسانی فی مقدّمة الواجب ـ کما سیجیء ـ عبارة عمّا یکون مقدّمة بالحمل الشائع ، وواضح : أنّ ما یکون مقدّمة
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 176 بالحمل الشائع هی الصلاة بقصد الأمر ، فینحلّ إلی «الصلاة» و«قصد الأمر» ، فکلّ من الصلاة وقصد الأمر مقدّمة لملاک التوقّف والمقدّمیة عقلاً ، وإن لم یکن عرفاً . والبحث فی مقدّمة الواجب فی الملازمة العقلیة لا العرفیة . فصلاة الظهر تعلّق بها الوجوب النفسی ، وهو واضح ، والوجوب الغیری لکونها مقدّمة بالحمل الشائع لصلاة العصر .
فعلی هذا : الوضوء المقدّمی عبارة عمّا یکون مأموراً به للصلاة ، فذاته مأمور به بالأمر الغیری ، ومأمور به بالأمر الذاتی الاستحبابی ، فیتبادلان . فالأمر الغیری ـ علی مَزعمته ـ یکتسب العبادیة ، والأمر النفسی یکتسب الوجوب ، وهو کرٌّ علی ما فرّ ؛ لأنّه قدس سره لا یری تبدّل الاستحباب النفسی بالوجوب الغیری ، بل إنّما یری تبدّل الاستحباب النفسی بالنسبة إلی الوجوب النفسی الثابت للوضوء بعد الوقت ، فتدبّر .
ومنها : أنّه قدس سره ذکر أوّلاً وادّعی البداهة علیه بأنّ الوضوء إنّما یکتسب العبادیة من ناحیة الأمر النفسی المتوجّه إلی الصلاة .
فعبادیة الوضوء إنّما هی بعدما کان الأمر الصلاتی عبادیاً ، فذات الوضوء قد اکتسبت حصّة من الأمر بالصلاة لمکان قیدیته لها . فإذا کان الأمر کذلک فی الوضوء بالنسبة إلی الصلاة ، فلیکن کذلک فی صلاة الظهر بالنسبة إلی صلاة العصر ؛ فإنّها شرط شرعاً لصلاة العصر . ومثلها صلاة المغرب بالنسبة إلی صلاة العشاء ، فتتوقّف صلاة العصر علیها ، کما تتوقّف الصلاة علی الطهارة ؛ فتکون عبادیتها اکتسابیة اکتسبتها من الأمر بصلاة العصر . فیلزم أن لا تکون صلاة الظهر من الفرائض ، بل عبادیتها وفریضیّتها لأجل کونها شرطاً لصحّة صلاة العصر .
نعم ، فی موردٍ نسی صلاة العصر تقع صلاة الظهر فریضة وعبادة ، وواضح : أنّ الالتزام بکون صلاة الظهر أو المغرب غیر فریضة ممّا یبطله أذهان المتشرّعة ، هذا .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 177