البحث الرابع
نسبة الترک إلیه تعالیٰ
یستفاد من نسبـة الـترک إلـیـه تع الـیٰ أیضاً بعض الـبحوث الـسابقـة، مضافاً إلـیٰ أنّ الـترک الـذی لایکون لـه حظّ من الـوجود إلاّ ب الـتبع و الـعرض أیضاً لایخرج عن حیطـة إرادتـه وقدرتـه وعلمـه وحکمتـه، وفی ذلک إفادة أنّ فی نفس الـترک و الـتخلیـة ظلمات؛ لأنّ الـخروج عن محطّ الـوجود و الـنورانیـة، یلازم الـعدم و الـظلمـة و الـشرّ، وتدلّ الآیـة الـشریفـة علیٰ أنّ الانحراف عن الاعتدال و الـحرکـة نحو الـشقاوة، أیضاً بإذن اللّٰه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 89 تع الـیٰ وبترکهم فیها، إلاّ أنّ الـحرکـة نحو الـسعادة من اللّٰه وفی اللّٰه وإلـیٰ اللّٰه، و الـحرکـة نحو الـشقاوة بنفس ترکـه تع الـیٰ فی الـظلمـة الـتی نشأت من ذاتـه الإمکانیـة، ومن ملاحظـة هذه الـفقرة من هذه الآیـة وما مرّ من الآیـة الـسابقـة من قولـه تع الـیٰ: «وَیَمُدُّهُمْ فِی طُغْیَانِهِمْ یَعْمَهُونَ» ونظائرهما، یظهر : أنّ الـمبادئ الـموجبـة للانحراف عن الـجادّة الـمستقیمـة، والأسباب الـمورثـة للضلالـة فی الـطریقـة الأصلیـة الـصحیحـة، کلّها نشأت من ناحیـة الـمتحرّک و الـس الـک علیٰ الـوجـه الـمحرّر مراراً فیما سبق وسلف.
إن قلت : کیف یصحّ نسبـة الـترک إلـیـه تع الـیٰ، مع أنّ الـترک الـخاصّ الـمکانی وما شابهـه غیر معقول، و الـترک الـمطلق یستلزم انعدام الـشیء، و الـخروج عن حکومتـه والالتحاق ب الـعدم، فلایکونون فی ظلمات لایبصرون، بل یصیرون فی ظلمـة الـعدم، فلایبقون أو یبصرون لأجل انتفاء الـموضوع، وهو خلاف الـواقع.
قلت: إنّ الإنسان بحسب الـفطرة الأصلیـة تحت ظلّ الـعنایـة الالهیـة والاسم « الـهادی»، فإذا راعیٰ الـس الـک فی سلوکـه الـجهات الـعقلیـة و الـشرعیـة، یکون مهتدیاً باللّٰه تع الـیٰ وتحت لوائـه، وأمّا إذا انحرف واتّبع هواه وأخذ فی سبیل الـغیّ و الـشیطنـة، فقد أخرج نفسـه عن الاسم « الـهادی»، فترکـه اللّٰه تع الـیٰ، وفی نفس هذا الـترک ظلمات، بل نفس ترکـه تع الـیٰ ظلمـة وظلمات، فترکـه تع الـیٰ لیس مطلقاً، بل هو من الـترک الـخاصّ، ومن الـخروج عن تحت الاسم و الـدخول فی تحت الاسم الآخر « الـمُضِلّ»؛ علیٰ موازین عقلیـة وشواهد کشفیـة ومعاینات عرفانیـة، ولأجل
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 90 ذلک قیل: «ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَکَهُمْ فِی ظُلُمَاتٍ»، وکان هذا ثمرة الـمبایعـة الـسابقـة و الـتجارة الـمعهودة.
فإنّهم بعدما اشتروا الـضلالـة ب الـهدیٰ رضوا بأن یتربّوا بالاسم « الـمضلّ»، وب الـدخول فی الـظلمات ، وبتخلیـة اللّٰه تع الـیٰ سرْبهم ومسیرهم، وبترکـه تع الـیٰ إیّاهم بعدما کانوا مُتربّین بالاسم « الـهادی»، بل بالاسم الـجامع لقولـه تع الـیٰ: «ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ» فإذا ضلّوا اختصوا بالاسم الـخاصّ بهم، وکل ذلک من تبعات أفع الـهم الاختیاریـة واشترائهم بالاختیار و الـعقد؛ من غیر إکراه وإجبار، فلاتکون معاملتهم باطلـة من هذه الـجهـة؛ وإن کانت عاطلـة وغیر رابحـة من جهات شتّیٰ.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 91