المسألة السادسة
حول النار فی الآخرة
فی قولـه تع الـیٰ: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» إشعار بأنّ الـنار الـتی اُعدّت فی الآخرة لیست من قبیل نار الـدنیا، وفی قولـه تع الـیٰ : «اُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ» رمز إلـیٰ أنّ تلک الـنار موجودة ب الـفعل، خلافاً لطائفـة من الـفلاسفـة، ولبراهین عقلیـة محرّرة فی محلّـه.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 537 وعلیٰ الـدقّـة فی الـجملـة الاُولیٰ یظهر : أنّ الـنار الـتی وَقودها الـناس لیست مشتعلـة ب الـفعل، وإذا لم تکن الـنار مشتعلـة ب الـفعل، فلیست موجودة ب الـفعل؛ لأنّ الاشتعال فرع الـوقود، وإذا کان الـوقود فی الـدنیا و الـنار فی الآخرة، فلاتکون موجودة طبعاً.
وقضیّة الدقّة فی الجملة الثانیة: أنّها مهیّأة ب الـفعل، وحاضرة فی الساعة للکافرین، فیدخلونها ویتوطّنونها وینزلون بساحتها، فساء صباح المنزَلین.
ثمّ إنّ أرباب الآراء وأصحاب الاختلاف والفتیا اختلفوا: فی أنّ الجنّة و النار هل هما مخلوقتان، أو هما غیر مخلوقتین؟ فإن کانتا مخلوقتین فأنّیٰ محلّهما؟
وقد وردت فی الـمسألـة أخبار وروایات عامّیـة، وفی أخبارنا أیضاً، و الـکلّ مضطربـة حسب الـظاهر، ومتکاذبـة بحسب الـدلالات الـوضعیـة و الـظهورات الـلُّغویـة و الـعرفیـة.
وقد وردت الأخبار الاُخر الـناظرة إلـیٰ أنّ الـروایات تُعرض علیٰ کتاب الله فما کان منها موافقاً لـه فخذوه، وما خ الـفـه فاطرحوه، وما وجد له شاهد أو شاهدان من کتاب الله یؤخذ بـه، و الـمخ الـف یضرب علیٰ الجدار.
وقد ذهب جمع من أساطین الـحدیث إلـیٰ أنّ هذه الأخبار الـعلاجیـة،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 538 ناظرة إلـیٰ الأخبار الـمختلفـة فی الاعتقادیات، وأنّ أعداء أئمّتنا الـمعصومین علیهم السلام قـد دسّـوا فی أخبـارهم وروایـاتهم کثیراً؛ نظراً إلـی إیجاد سوء الـعقیدة فی سمعتهم الـشریفـة، وتخیّلاً أنّ اُولئک الـنجباء الـعلماء ب الـحقائق الـمکلَّفین علیٰ الآفاق والأنفس یتکدّرون بتلک الأباطیل والأوهام، خذلهم الله تع الـیٰ.
وبالجملة: هذه الـمسألـة وإن کانت من الـمسائل الإلهیـة الـغامضـة؛ لبعد أفکار الـناس و الـخواصّ عن نیلها وإدراک حدودها، ولکن لاتخرج عن الـقواعد الـکلیّـة الـمحرّرة فی الـعلم الأعلیٰ، ولا تکون خارجـة عن أحوال الـوجود وتعیّناتـه، ولذلک لو کانت مقرونـة بما فی الأخبار الـمذکورة والآیات الإلهیـة، ومشحونـة ب الـکشفیات الـقلبیـة و الـفتوحات الـمکّیـة، لکانت أکثر وضوحاً وأعلیٰ شهوداً وأرفع بیاناً وأرقیٰ برهاناً.
وقد استدلّوا بهذه الـجملـة الـشریفـة: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ» فی الـکتب الـعقلیـة و الـعرفانیـة علیٰ أنّ حقیقـة الـنار من تبعات الـنفوس الـبشریـة، ومثلها الـجنّـة. وقد صرّح الـشیخ الإلهی فی موضع من کتابـه: هما مخلوقتان غیر مخلوقتین، وقال رئیس الـحکمـة الـمتع الـیـة فی کتابـه الـکبیر ـ بعد نقل کلام بعض الـعرفاء تحت عنوان «ذکر تنبیهی» ـ قال: وفیـه تأیـید لما قلناه من أنّ جهنّم لیست من حیث کونها دار الـعذاب بما لـه وجود حقیقی بل منشؤها وجود الـضلال و الـعصیان فی الـنفوس، حتّیٰ أنّـه لو لم
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 539 تکن معصیـة بنی آدم لما خلق الله الـنار. انتهیٰ.
وبالجملة: کلماتها صدراً وذیلاً صریحـة فی إنکار وجود جوهریّ تمتاز، خارج عن الـنفوس الـبشریـة، وواقع فی وعاء من أوعیـة الـعالَم الـمعبّر عنـه بما سویٰ الله تع الـیٰ، فإنّ الـعالَم عندنا عند الإطلاق هو ما سویٰ الله ، فیشمل بقضّها وقضیضها؛ عقولها وحجارتها.
وحیث إنّ الـمسألـة بعیدة عن الأذهان الـمتعارفـة بل و الـخواصّ، ومحتاجـة إلـیٰ الـغور فی الآیات والأخبار زائداً عمّا شاهدناه بعین الاعتبار، فلابدّ هنا من طرح الـمسألـة، ثمّ فی آخر کتابنا هذا نشیر إلـی الآیات الـدالّـة علیٰ أطراف الـمسألـة.
وتوضیحها علیٰ وجـه یظهر بعد ذلک ـ إن شاء الله تع الـیٰ ـ ماهو الـموافق للبـرهـان و الـوجدان، ونرجو الله تع الـیٰ أن یوفّقنا لإتمامـه، فإنّـه لـه شیء یسیر، وإن کان فی حقّی ـ الـقاصر الـمقصّر ـ کثیراً فی کثیر. وغیر خفیّ أنّ کتـب الأصحـاب طُـرّاً، قاصـرة بحثـاً وبعیدة نیلاً عمّا هو الـحقّ الـصُّراح فی الـبحث.
فنقول: إنّ الـعو الـم الـکلّیـة تنقسم ـ فی اعتبار ـ : إلـی الـعو الـم الـمجرّدة الـمطلقـة الـفارغـة عن الـموادّ و الـمقادیر، وتلک الـموجودات الـمجرّدة الـکلّیـة الـنوریّـة الـوجودیـة موجودات، لا نحو موجودیّـة الـمادّة و الـمادّیات أو الـمقدّرات الـقابلـة للإشارة إلـیها إشارة خارجیّـة، و الـواقعـة فی جهات من الـجهات الـواقعـة فی الـعالَم.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 540 وإلـیٰ الـعو الـم الـمجرَّدة عن الـمادّة و الـمدّة، ولکنّها متقدّرة بمقادیر ومتلوّنـة بألوان، فهی متکمّمات، وهذه الـموجودات تشبـه الـموجودات الـمقداریـة الـواقعـة فی خی الـنا، وتکون ذات مقادیر خاصّـة حسب الاقتضاءات الـتی تحصل لمبادیها وعللها. وب الـجملـة: هی الـموجودات الـواقعـة فی جهـة من جهات الـعالَم، الـقابلـة للمشاهدة من قریب بالبصیرة لا بالباصرة، کما نشاهد الـمقدّرات الـذهنیـة الـحاصلـة عندنا؛ سواء کانت الـنفس تن الـها من الـخارج، أو تبتدعها وتبتکرها من قِبَل ماعندها من الـموادّ الـموجودة عندها؛ أی الـمقادیر الـحاصلـة فی خزانتها.
وإلـیٰ الـمادّیات الـواقعـة فی الـمادّة و الـمدّة الـمتقدّرات الـمتکیّفات الـمشاهدة من قریب ب الـباصرة وواقعـة فی أسفل الـعو الـم وجهـة سفلی الـدائرة و الـقوس الـنزولی.
وهذه الـمرحلـة و الـنشأة الـحسّیـة ممّا لاینکرها إلاّ الـسفسطائیون الـقائلون بما لایقول بـه الـبشر الـذی لـه ضمیر ووجدان، فإنّ مُکابر الـوجدان لایمکن إقناعـه ب الـبرهان، کما هو الـظاهر للعیان.
وأمّا الـعُلْویات الـواقعـة فی مبدأ الـکثرات الـوجودیـة، فهیخارجـة عن نطاق بحثنا، وأهل الـعلم بین مُنکر لها ومثبت، وقد أشرنا إلـیٰ هذه الـمسألـة فی مطاوی بحوثنا الـسابقـة إجمالاً وحقّقنا تفصیلها فی قواعدنا الـحِکمیـة.
وأمّا الـوجودات الـمتوسّطـة بین الـنشأتین، و الـمتقدّرات الـمتحقّقـة بین الـمرحلتین، الـتی منها الـجنّـة و الـنار و الـجحیم و الـنعیم، فهی أیضاً محطّ الـخلاف ومصبّ الـنفی والإثبات عقلاً ونقلاً.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 541 وربّما یُستدلّ بهذه الـشریفـة، وهی قولـه تع الـیٰ: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»علیٰ أنّ الـجحیم لیس لها وجود استقلالی؛ لأنّ مامن شأنـه ذلک یکون وجوده تبعَ وجودِ الـناس؛ وأنّ الـنار تُوقَد بهم، وحمل الآیـة الـشریفـة علیٰ الـمجاز خلاف الأصل، ولاسیّما إذا ساعدنا الـبرهان علیـه، ولأجل ذلک کتبنا فیما سلف: أنّ فی الآیـة إعجازاً من جهات عدیدة، فإنّ هذا الـتعبیر لم یکن مسبوقاً فی کلام الـعرب شعراً ونثراً، فکیف یکون هو قول شعری وترقیق تخیـیلی، بل هو واقع بتّی وحقیقـة خارجیـة.
نعم فی جملـة «اُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ» إشعار بموجودیّتـه الـفعلیّـة، وهو کذلک؛ لأنّ نسبـة الـجحیم إلـیٰ الـدنیا نسبـة الـروح إلـیٰ الـبدن، و الـطبیعـة بدن الـجحیم، والإنسان نارها ووَقودها، فإذا مات بقلب سلیم جاز الـنارَ وهی خامدة، وإذا مات بقلب خبیث یسقط فی الـنار. والله الـع الـم.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 542