حول الفطرة التوحیدیة
إنّ فی قولـه تع الـیٰ: «اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَیٰ» دلالـة علیٰ أنّ الإنسان مخلوق بحسب الـفطرة علیٰ الـتوحید و الـهدایـة؛ ضرورة أنّ الـمنافقین ما کانوا مهتدین ب الـهدایـة الاکتسابیـة، فهدایتهم طبعیـة فطریـة، کما فی الـحدیث الـمشهور بین الِفرَق.
ف الـفطرة الأوّلیـة الـمخمورة، هی فطرة الـتوحید وفطرة الـهدایـة و الـصراط الـمستقیم، ومبدأ الـحرکـة الـتدریجیـة هو الـمبدأ الـصحیح، إلاّ أنّ الـمتحرّک وراکب الـسفینـة یعوج الـطریق، ویَضِلّ ویُضِلّ، ویغرق فی الـبحر الـلجِّی فی ظلمات بعضها فوق بعض.
إن قلت : فکیف یجمع بینـه وبین قولـه تع الـیٰ: «وَمَا کَانُوا مُهْتَدِینَ»؟
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 28 قلت: مفاد الأخیرة: أنّهم ما کانوا مهتدین ب الـهدایات الاکتسابیـة، وما کانوا متأثّرین من ناحیـة الـعوامل الـخارجیـة.
ومفاد صدرها : أنّهم باعوا الـهدایـة الأوّلیـة الـفطریـة الـتی یولد علیها کلّ مولود، وهی فطرة اللّٰه الـتی فطر الـناس علیها.
وأیضاً فیـه إشعار: بأنّ ما أصابهم من سیّئـة فمن أنفسهم، وما أصابهم من حسنـة فمن اللّٰه، فإنّ الـضلالـة من سوء فع الـهم، فیکون نسبتها إلـیهم أقویٰ من نسبتها إلـیٰ اللّٰه. وأمّا الـهدایـة الـتی باعوها فهی من اللّٰه، وتکون نسبتها إلـیـه تع الـیٰ أقویٰ وأقرب.
ف الـضلالـة فی هذه الآیـة منسوبـة إلـیٰ الـمنافقین، وأنّهم أضلّوا أنفسهم بالاختیار والإرادة.
وأمّا أنّ الـهدایـة الـتی جعلوها ثمناً وعوضاً، فهل هی حصلت لهم بالاختیار أم لا؟ فالآیـة ساکتـة من هذه الـجهـة، إلاّ أنّ من جواز الاستبدال یظهر أنّ الـهدایـة أیضاً تحت الاختیار بقاءً وإن لم تکن حدوثاً تحتـه ومورد الـقدرة والإرادة، کما فی الـهدایـة الـذاتیـة و الـسعادة الـطبعیـة.
ومن هنا یظهر فساد مق الـة الـقائلین بأنّ الـضلالـة و الـهدایـة من مخلوقات اللّٰه ومن أفع الـه تع الـیٰ، ولایذمّ علیها ولایمدح.
وأیضاً تدلّ الآیـة علیٰ صحّـة تقبیح الـمنافقین، ولایصحّ ذلک إلاّ ب الـنسبـة إلـیٰ الاُمور الاختیاریـة، فتکون من هذه الـجهـة أیضاً دلیلاً علیٰ اختیاریـة الـضلالـة و الـهدایـة، وأنّهم أقرب إلـیٰ أفع الـهم الـسیّئـة من اللّٰه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 29 تع الـیٰ، کما أنّ الأمر کذلک بحسب ألفاظ الآیـة الـشریفـة.
ویمکن أن یقال: إنّ قولـه تع الـیٰ: «وَمَا کَانُوا مُهْتَدِینَ» ناظر إلـیٰ أنّ الـهدایـة لیست ب الـنسبـة إلـیهم من الـذاتیّات و الـمحمولات ب الـصمیمـة ب الـصاد فما کانوا مهتدین بحسب الـذات، بل کانت هدایتهم من الـمحمولات ب الـضمیمـة ب الـضاد، ولذلک تمکّنوا من اشتراء الـضلالـة بها. واللّٰه الـهادی.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 30