الوجه السادس
حـول أنّ الآیة تُشْعِر بجلالة الإسلام
اختلفوا فی أنّ هذه الآیـة تمثّل حال الـمنافقین بأجمعهم، أو طائفـة خاصّـة من الـمنافقین، ف الـمعروف الـمشهور بینهم هو الأوّل؛ لأنّ هذه الآیات نازلـة فی بیان أحو الـهم ومفاسدهم وأغراضهم وکیفیـة سلوکهم وتواجبهم مع الـمؤمنین، فشبّهوا هنا فی خسارتهم فی أعم الـهم وفشلهم فی صنائعهم وأعم الـهم الـسیّئـة.
وقیـل ب الثـانی، وأنّ هـذه الآیـة مثـال فریـق، والآیـة الآتیـة مثـال الـفریق الثانی.
و الـذی یظهر لی: أنّ اختیار هذا الـتفکیک و الـتفصیل لأجل توهّم الإشکالات الـمتوهّمـة علیٰ الآیـة الـشریفـة، وهی :
1 ـ أنّ مستوقد الـنار اکتسب ناراً وخیراً فی الـجملـة، و الـمنافق لم یکتسب شیئاً ولا خیراً.
2 ـ أنّ الـمستوقد الـذی أضاءت الـنار حولـه انتفع فی الـجملـة، دون الـمنافق.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 70 3 ـ أنّ الـمستوقد کان لـه نور، فذهب اللّٰه بنورهم، و الـمنافق لا نور لـه.
وقد تصدّوا للجواب عنها؛ غافلین عن أنّ وجـه الـشبـه فی الـتشبیهات بل والاستعارات، لایعتبر أن یکون تامّاً مستوعباً لجمیع الـنواحی و الـجوانب، فإنّ الـمنافقین بما أنّهم أرادوا الـباطل حقیقـة، ودخلوا فی الـحقّ صورة وتظاهراً، فأوقدوا ناراً یحرق بها الأباطیل، وأشعلوا ضیاء یستولی علیٰ الـخبائث، ویزول بها الـکدورات و الـرذائل، ویتجلّیٰ بـه الـحسنات و الـفضائل، و الـنعوت الـع الـیات والأوصاف الـکاملـة، و الـکمالات الـمکنونـة فی الـنفوس الإنسانیـة و الـقلوب الـبشریـة و الـمجتمعات الـمدنیـة، ولکنّهم أخمدوها وأطفؤوها، وذهب اللّٰه بنورهم، وترکهم فی ظلمات الـحیرة و الـبطلان، وفی جه الـة الـضلالـة و الـعصیان، وهم بعد ذلک لایبصرون شیئاً، ولایهتدون سبیلاً.
وإن شئت قلت: فی هذا الـتمثیل إشعار بجلالـة الإسلام وعظمـة الإقرار ب الـلسان، والإیمان بدون الـعمل بالأرکان ولا الـعقد علیهما فی الأذهان، فإنّ الإسلام بمراتبـه عظیم فخْم، ذو آثار قیّمـة ومحاسن طیّبـة؛ من مرتبـة الـتظاهر الـمقرون ب الـنفاق إلـیٰ الـرتبـة الـعلیا الـتی لاتن الـها أیدی الـخواصّ، فضلاً عن الـعوامّ.
فلإفادة هذه الـخاصّـة شُبّهوا ـ فی نفاقهم الـفاسد وفی خُلُقهم الـکاسد ـ ب الـنار الـواقد الـمشتعل الـمضیء فی الـجملـة، و الـضیِّق مکاناً لما لایستضاء منـه إلاّ ما حولهم، ولایدوم زماناً لما یذهب اللّٰه بنورهم، فلابدّ فی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 71 الـتشبیـه من الـمحافظـة علیٰ جلالـة قدر الـمأمول، وعلیٰ تعظیم أمر الـمحبوب و الـمطلوب، فإنّ الـمنافق ینتفع أحیاناً من إظهار الإسلام بحفظ أمو الـهم وحقن دمائهم، ومن الـممکن انسحاب أذی الـهم إلـیٰ عقد الـقلب بـه، و الـعمل علیٰ طبقـه خ الـصاً مخلصاً.
وإن شئت قلتَ ثالثاً: إنّ فی عین الـتحقیر و الـهتک و الـتوهین، وفی نفس الـتذلیل وبیان أحو الـهم الـلاإنسانیـة، رُوعی فی هذا الـتشبیـه جانب الـرأفـة بهم و الـعطف علیهم؛ لإمکان اهتدائهم وانفتاح أبواب الـسعادة علیهم، فإنّهم إذا علموا أنّ ما صنعوه وأظهروه من الإسلام الـصوری، لایوجب وقوعهم فی الـضلالـة الأبدیـة، ولایستلزم سوء أفع الـهم وعقائدهم، ولاینجرّ سوء مقاصدهم إلـیٰ کون الإسلام الـصوری و الـلاإسلام واحداً أو أسوأ، بل هذه الـمرتبـة من الإسلام ـ أیضاً ـ فیها الـضوء و الـنار و الـنور، إلاّ أنّـه نار علیٰ الـمنار، لایتنوّر بـه إلاّ ما حولـه من الـجهات الـستّ الـمحیطـة بـه، الـمحدودة لأجل محدودیّتهم، ولایستضاء بـه إلاّ فی لحظات قصیرة لما یذهب اللّٰه تع الـیٰ بنورهم.
ففی هذا الـنحو من الـتشبیـه کمال الـغایـة إلـیٰ الـمحافظـة علیٰ الـمنافقین أیضاً؛ لئلاّ یسدّ جمیع الأبواب علیهم، ولئلاّ یخمد فی نفوسهم نور الـرجاء والأمل، فإنّ هذا الـقرآن کتاب الـهدایـة من جمیع الـضلالات، ودستور الـوقایـة من کافّـة أنحاء الـشقاوة، ولاینقطع من نظر إلـیـه رجاؤه، ولا یسلب من تأمّل فیـه تأمیلـه ومطلوبـه ولو کان ب الـغاً فی الـشقاوة أقصاها، واصلاً فی الـحرکـة الـذاتیـة منتهاها.
فبحمد اللّٰه ولـه الـشکر، تبیّن أنّـه لا حاجـة الـیٰ الـتفکیک الـذی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 72 اختاره بعض الـمتأخّرین، وتندفع بهذه الـتقاریب شبهـة الـمتوهّمین و الـقاصرین، واللّٰه خیر معین.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 73