الوجه الرابع
حـول کون الآیة مجازاً وادّعاءً
اختلفوا فی أنّ هذه الآیـة علیٰ مبنیٰ الـحقیقـة، أو الـمجاز والاستعارة، ثمّ علیٰ الـثانی فی أنّـه من أیّ أقسام الاستعارة:
فقال بعضهم: بأنّها حقیقـة؛ وذلک لأنّ الـسمع و الـبصر لکلٍّ منهما کُوّة إلـیٰ الـخارج، وکُوّتان من جهـة الـباطن إلـیٰ عالَم الـملائکـة وعالَم الـجِنّـة، وکُوّتهما إلـیٰ ع الـم الـملائکـة ذاتیة، وکُوّتهما إلی عالَم الجِنّة عرضیة، وختمهما عبارة عن سدّ کُوّتیهما إلیٰ عالم الملائکة، ف الـصمم و الـعمیٰ عبارة عن سدّ الـکوّتین الـلتین هما إلـیٰ عالَم الـملائکـة؛ بحیث لایسمع من الـمسموعات جهتها الـحقّانیـة الـتی تؤدّی إلیٰ عالَم الـملائکـة، ولایسمع من
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 117 عالَم الـملائکـة ولا من الـملک الـزاجر، ولایُبصر من الـمُبصَرات جهتها الـحقّانیـة.
فعلیٰ هذا تبیّن: أنّهمُ الـصُّمّ الـبُکْم حقیقـة، وهکذا حکم الـبکم لذهاب إدراکهم الـخی الـی عن قیمومـة الـعاقلـة، وعقلهم الـجزئی عن سلطان الـعقل الـکلّی الـفعّال.
وقال الآخرون ب الـمجازیـة، ومنهم من قال: هذا من الـتشبیـه الـبلیغ، ولیس من باب الاستعارة؛ لأنّ الـمستعار لـه مذکور وهم الـمنافقون.
وقـال بعضهـم : بالاستعارة، ولعلّ ذلک علیٰ مبنیٰ جواز الـتغافل عن ذکـر الـسلف.
وقال آخرون: بجواز الأمرین.
والذی هو الحقّ الصریح: ما عرفت منّا فی محلّـه، وحرّرنا تفصیلـه فی علم الاُصول: أنّ أساس الـمجاز بمعنیٰ استعمال الألفاظ فی غیر ما وضع لـه غلط جدّاً، وإنّما حقیقـة الـمجاز هو الـتلاعب فی عالَم الـمعنیٰ؛ من غیر استعمال الـلفظ إلاّ فیما هو الـموضوع لـه، ففی أبواب الـتشبیـه عند حذف أداتـه، وفی باب الاستعارات بأقسامها الـمفردة وغیر الـمفردة، یکون استعمال
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 118 الـلفظ فیما هو الـموضوع لـه، کما فی أبواب الـحقیقـة بلا زیادة ونقصان.
نعم إنّما الـفرق بینهما فی محیط خارج عن اُفُق الاستعمال و الـوضع، وهو اُفُق الـمعنیٰ، وأنّ الـمتکلّم الـفصیح الـبلیغ لمقاصد خاصّـة، ولأغراض سیاسیـة أوشعریـة ذوقیـة، یشرع فی الـتلاعب فی عالَم الـمعنیٰ و الـموضوع لـه؛ بتوسعـة الـمعنیٰ وادّعاء أنّ للمعنیٰ عرضاً عریضاً، وإنّ فی قولـه تع الـیٰ: «مَا هَـٰذا بَشَراً إِنْ هـٰذا إِلاَّ مَلَکٌ کَرِیمٌ» یرید درجـة فی سلسلـة الـملائکـة بحسب الـحقیقـة و الـطبیعـة، وإذا کان یریٰ ذلک فی هذه الـنظرة وبهذه الـنظرة، فعلیـه أن یسلب عنـه الـبشریـة.
وفیما نحن فیـه أیضاً کذلک، فإنّهم بعدما کانوا علیٰ تلک الـح الـة الـدنیئـة الـفاسدة الـحیوانیـة، أو الأسوأ منها، فلایمکن أن یحکم علیهم بأنّهم یسمعون ویبصرون وینطقون ویدرکون ویعقلون، فإنّ من لا نفع لـه فی سماعـه، ولا فی بصره ونطقـه، ولا فی إدراکـه، فلیس إلاّ الـصُّمّ الـبُکْم الـعُمْی واقعاً ادّعائیاً، فلا مجاز بمعناه الـمعروف، ولاتشبیـه ولا استعارة، بل هی حقیقـة، ولکن لا بإرادة الـمعنیٰ الـموضوع لـه إرادة أصلیـة جدّیـة، بل بإرادة الـتجاوز من الـمعنیٰ الـموضوع لـه إلـیٰ الـمعنیٰ الـمنسلک فیـه فی عالَم الادّعاء و الـتلاعب، ولأجل هذا الـتجاوز عُدّ مجازاً وقنطرة. ومن هنا یظهر سقوط الـبحوث الـمشار إلـیها، و الـبحوث الـمماثلـة لها فی کتبهم الأدبیـة و الـتفسیریـة وغیرها.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 119