الوجه السادس
حول الإتیان بـ (مِنْ مِثْلِهِ)
بحسب الـموازین الـنحویـة یجوز أن یکون کلمـة «من» تبعیضاً، وعلیـه استخرجها قوم، وقوم آخرون ق الـوا: هی للتبیـین، مثل قولـه تع الـیٰ: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ»، واستخرجها ث الـث: أنّها زائدة، کما قال فی سورة اُخریٰ: «فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ».
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 439 والإنصاف: أنّ الـقول ب الـتبعیض ضعیف وغفلـة، فإنَّ الـمتحدّی لو کان ببعض الـسورة حتّیٰ یشمل الآیـة الـواحدة، کان لـه وجـه، وإلاّ فما ق الـوه فی توجیـه الـتبعیض وتفسیره؛ أی فأتوا ببعض ماهو مِثْل لـه، وهو سورة، غیر صحیح، کما هو واضح.
وأمّا الـتبیـین فهو یصحّ فیما إذا کان الـحکم متوجّهاً إلـیٰ الـعامّ، ثمّ یحتاج إلـیٰ الـبیان لاختصاصـه ب الـخاصّ، مثل الأمر بالاجتناب عن الـرجس، فإنّـه یشمل مطلق الـرجس، فیحتاج إلـیٰ الـبیان؛ لأنّ الـرجس الـوثنی واجب الاجتناب، وهذا فی الـمقام غیر متصوَّر؛ لأنّ قولـه تع الـیٰ: «سُورَةٍ» یبیّن حدود الـمراد من قولـه: «مِمَّا نَزَّلْنَا»، فإنّ الـموصول ولو کان أعمّ إلاّ أنّـه مضافاً إلـیٰ ما اُشیر إلـیـه غیر محتاج إلـی الإبانـة.
وأمّا الـقول ب الـزیادة الـمطلقـة فهو واضح الـبطلان إلاّ برجوعـه إلـیٰ حسن الاستعمال وقبول الـطباع مع معهودیّـة ذلک بین أهلـه، وهذا فیما نحن فیـه، مع إمکان کونها بصدد إفادة الأمر الـخاصّ بهذه الآیـة وما هو مثلـه، دون الآیـة الاُخریٰ الـغیر الـمشتملـة علیٰ کلمـة «من»، فإنّـه کما یمکن أن یکون الـنظر إلـیٰ دعوتهم إلـی الإتیان بسورة مثل سور الـقرآن، یمکن أن یُوجّـه الـنظر ویُلفَت الـفکر إلـیٰ أن یأتوا بسورة من مثل الـرسول الاُمّی، الـغیر الـمتدرّب علیٰ شؤون الـفصاحـة، وغیر الـخائض فی جهات الـبلاغـة فی تلک الـعصور الـسابقـة، فتکون نشویّـة؛ أی فأتوا بسورة ناشئـة من مثلـه، وصادرة من مماثلـه ومشابهـه.
وما فی کلمات الـقوم: من أنّ بعضاً من الآیات الآتیـة، تـتحدّیٰ بالإتیان
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 440 بأشباه الـقرآن وأمثال الـکتاب، فتکون هذه الآیـة مثلها، غیر راجع إلـیٰ محصّل، فإنّ الـقرآن یتشبّث لهدایـة الـناس وترکیز الـحقّ فی نفوسهم بکلّ مایمکن أن یهدیهم إلـیـه ویسوقهم إلـیٰ الله تع الـیٰ، فربّما لایکون الـقرآن إعجازاً ب الـقیاس إلـیٰ طائفـة إلاّ لأجل هذه الـجهـة الأخیرة، وربّما یکون إعجازاً لأجل الـجهـة الاُولیٰ، وث الـثـة لمجموع الأمرین، ورابعـة لأمر آخر یحرّر فی محلّـه.
ومن هنا یظهر: أنّ الـخلاف فی مرجع الـضمیر من قولـه تع الـیٰ: «مِنْ مِثْلِهِ»لیس خلافاً فی الـمسألـة الـنحویـة أیضاً؛ لجواز رجوعـه إلـی الـموصول وإلـیٰ الـعبد، وإنّما الـخلاف فی مقتضی الـبلاغـة و الـفصاحـة، وقد ذهب الأکثرون إلـیٰ رجوعـه إلـی الـموصول، وبعضهم إلـی الـعبد، وجواز رجوعـه إلـیهما معاً ولو کان ممکناً، إلاّ أنّـه غیر مراد هنا قطعاً، وسیظهر تحقیقـه فی الأمر الآتی إن شاء الله تع الـیٰ.
وغیر خفیّ: أنّ مفهوم الـمِثْل علیٰ کلّ تقدیر واحد، وإنّما الـخلاف فی مصداقـه، فعلیٰ الأوّل یکون مصداقـه الـقرآن، وعلیٰ الـثانی مماثل الـنبیّ صلی الله علیه و آله وسلم.
وأمّا توهّم: أنّ الـعائد إلـیٰ الـموصول یلزم أن یکون محذوفاً، ففی غیر محلّـه؛ لأنّ عائده مفعول «نَزَّلْنَا»، وهو محذوف؛ لأنّـه معلوم، فیجوز حذفـه.
ثمّ إنّ احتمال کون «مِن» بمعنیٰ الاستبدال، نحو «أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِی هُوَ أَدْنَیٰ بِالَّذِی هُوَ خَیْرٌ»، أو بمعنی الـتجاوز، أو تکون صلـة لقولـه تع الـیٰ:
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 441 «فَأْتُوا»غیر تامّ، إلاّ الأخیر، فإنّ کون «مِن» بمعنیٰ الاستبدال و الـتجاوز، من الـخلط بین مفهوم الـمعنیٰ الـمستفاد من الـمفاهیم الاسمیـة، وبین الـمعنیٰ الـحرفی لکلمـة «مِن»، کما لایخفیٰ.
وأمّا کونـه متعلّقاً وصلـة لکلمـة «فَأْتُوا» فهو لاینافی الـبحث الـسابق؛ لأنّ «مِن» الـتبیـین و الـتبعیض أیضاً متعلّق بفعل یسبقـه. نعم إذا کانت للتعدیـة تکون معنیً آخر، إلاّ أنّـه لایحتاج إلـی الـتعدیـة لتعدّی الإتیان ب الـباء، وتکون جملـة «مِنْ مِثْلِهِ»صفـة لـ «سورة» علیٰ رأی جمع، مع أنّـه لا وجـه لتوصیف الـسورة بجملـة الـجارّ و الـمجرور، إلاّ فی صورة حذف الـجارّ واشتقاق صفـة من الـمجرور ، فیکون الـمعنیٰ: فأتوا بسورة تماثلـه أو مشابهـة لـه، وغیر ذلک، فالأظهر ـ بعد الـلَّتیّا و الـتی ـ أنّها متعلّقـة بجملـة محذوفـة؛ أی فأتوا بسورة ناشئـة من مثلـه. هذا بحسب الـقواعد الـنحویـة مع رعایـة الـجهات الـمنتهیـة إلـیٰ الـفصاحـة و الـبلاغـة الـمخصوصتین ب الـکلام الإلهی. والله الـع الـم بحقائق آیاتـه.
ثمّ من المحسّنات: هو الالتفات من الـغائب إلـیٰ الـمتکلّم، کما تریٰ بین هذه الآیـة وما سبق.
وما اشتهر: أنّ الـتعدیـة بـ «علیٰ»؛ أی نزّلنا علیٰ عبدنا إیماء إلـیٰ عُلوّ الـمنزَّل، مخدوش بقولـه تع الـیٰ: «وأنْزَلْنَا إِلَیْکَ الذِّکْرَ».
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 442