الوجه الثامن
حول التحدّی ثبوتاً وإثباتاً
حیث إنّ الـتحدّی بالإتیان من مثلـه أو بمثلـه ذو مرحلتین: مرحلـة الـثبوت ومرحلـة الإثبات، رُوعی فی هذه الآیـة الـشریفـة کِلا الـمرحلتین، وهی تکشف عن نهایـة الـبلاغـة، وتشهد علی اشتمال الآیـة علی أوجـه وجوه الأدب و الـدقّـة، وفی أمر الـرس الـة و الـدعایـة إلـی الـحقّ:
أمّا المرحلة الاُولیٰ: فقد تصدّیٰ لها قولـه تع الـیٰ: «إِنْ کُنْتُمْ...» إلـیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 446 قولـه تع الـیٰ: «وَادْعُوا».
وأمّا المرحلة الثانیة: فتصدّیٰ لها قولـه تع الـیٰ: «وَادْعُوا شُهَدَاءَکُمْ مِنْ دُونِ الله ِ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِینَ»؛ وذلک لأنَّ الإتیان ب الـمِثْل أمر، وإثبات أنّـه الـمِثْل أمر آخر، فربّما یأتون ب الـمِثْل ولایصدّقـه الـمسلمون، وربّما لایأتون ب الـمثْل، وَیدَّعون الـمماثلـة جُزافاً، فلابدّ مضافاً إلـیٰ ذلک من إقامـة الـشهادة علی الـمماثلـة و الـمشابهـة.
وأمّا الاختلاف فی المراد من الـشهید، هل هو الـشاهد و الـبیّنـة، أم هو الـناصر، أو هو الـحاضر؟ فهو اختلاف غیر جائز؛ لما یُعلم من مناسبات الحکم و الـموضوع أنّ الأمر أوسع من ذلک، وأنّهم فی سعـة من إقامـة محضر یحضره الـشهود الـقائمون ب الـشهادة و الـناصرون لهم، طبعاً لکونهم منهم أو إقامة مجلس یحضره کلّ من یشهد، ویکون أهلاً للشهادة علیٰ البلاغة و الفصاحة.
وتوهّم: أنّ الأمر وهذه الـدعوة تهکّم وتعجیز، غیر صحیح؛ لأنّ حصول الـعجز أمرٌ، وکون الأمر للتعجیز أو الاستهزاء أمر آخر، وقد مرّ أنّ الـمفروض ارتیابهم فی الأمر و الـقرآن ولعلّهم من الـقاصرین غیر الـجائز استهزائهم عقلاً وشرعاً، فعندئذٍ لا معنیٰ للخلاف، بل معنیٰ الـشهادة و الـشهید و الـشاهد واحد، وکونـه ناصراً لیس من معانیـه الـلغویـة الأوّلیـة، بل هو من توابع معناه فی بعض الأحیان، وقد مرّ معناه فی بحوث الـصرف و الـلغـة، فما فی کتب الـتفاسیر لایخلو عن تأسّفات، والأمر سهل.
ومن هنا یظهر: أنّ اختصاص الـشهداء بالأوثان وآلهتهم، کما عن أرباب
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 447 الـحدیث کابن عبّاس و الـسدّیّ ومقاتل، أو اختصاصهم بالأعوان والأنصار الآدمیـین، کما عن ابن قُتیبـة وجمع آخر، وفیهم أیضاً ابن عباس، أو الأعوان من الـجنّ وغیرهم، کلّـه غیر واقع فی محلّـه، فإنّ الـمدّعی فی هذه الـمعرکـة وفی هذا الـحوار فی سعـة من أمره.
وأمّا قول مجاهد: أنّهم یأتون بمن یشهد لهم فی مجلس الـدعویٰ و الـمبارزة، فهو مبنیّ علیٰ کون الأمر للاستهزاء، وهذا خلاف الـتحقیق، فإنّ الـکلام مبنیّ علی الـجدّ و الـتحقیق والاستدلال لحاضری مکّـة و الـحجاز وسائر الـبلدان فی جمیع الأعصار والأزمان، ولیس ما توهّموه شأن الـقرآن فی هذا الـمیدان.
ومن هنا یظهر: أنّ إضافـة الـشهداء إلـیهم لیست لأجل أنّ شهداءهم ینصرونهم واقعاً، ویشهدون لهم حقیقـة، بل ربّما یحضر الـمدّعی الـبیّنـة فی مجلس الـقضاء، و الـبیّنـة بعد الاستماع إلـیٰ أطراف الـقضیّـة، تشهد علیٰ خلاف الـمدّعی وعلیٰ بطلان دعواه.
وکان فی هذه الآیـة ونظائرها إبراز وإظهار لعظمـة الـقرآن علیٰ وجـه لو کانوا یأتون بشهدائهم وأنصارهم وأعوانهم من کلّ جنس کان، لکان الأمر ینقلب علیهم بعد الـمقایسـة بین الآتی من الـسماء والآتی من الأرض وبعد الاطّلاع علیٰ حدّ الـفضل بینهما فی الـشرافـة و الـرفعـة و الـعظمـة.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 448