وعلیٰ مسلک المفسّرین وأرباب الرأی والنظر
«یَکَادُ الْبَرْقُ»؛ أی الـبرق الـذی یجعلون أصابعهم خوفاً منـه فی
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 259 آذانهم «یَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ» زائداً علیٰ هلاکهم من ناحیـة آذانهم.
وبعبارة اُخریٰ: هم یفرّون من إصابـة الـبرق من ناحیـة آذانهم بجعل أصابعهم فیها، وفی عرض هذه الإصابـة یخطف الـبرق أبصارهم، ولایتمکّنون ـ حینئذٍ ـ من جعل الأصابع علیها، فیکون عذاب اللّٰه محیطاً بهم ومستولیاً علیهم. «کُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ»؛ أی أضاء الـبرق ممشاهم وطریقهم و الـجادّة و الـشارع لهم «مَشَوْا فِیهِ»وتحرّکوا وفرّوا «وَإِذَا أَظْلَمَ» الـبرق «عَلَیْهِمْ» ممشاهم وممرّهم «قَامُوا»وسکنوا وتوقّفوا «وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ»؛ أی ولو شاء اللّٰه هلاکهم لصنع بهم ذلک، أو ولو شاء اللّٰه فی حقّهم شیئاً لکان هو إهلاکهم بإذهاب سمعهم وأبصارهم.
«إِنَّ اللّٰهَ عَلَیٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ» ومقتدر، ولا یعجز أن یذهب بسمعهم ولو جعلوا أصابعهم فیها، وبأبصارهم ولو توسّلوا لمحافظتها بأمر وبحافظ، فإنّ جمیع الأشیاء خواصّها تحت إرادتـه تع الـیٰ.
وقریب منه: «یَکَادُ الْبَرْقُ» الـسماوی «یَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ» الـجسمانیـة و الـبرق الـباطنی الـحاصل من رعد الـصفات الـمذمومـة و الـحسد والأحقاد أبصارهم الـباطنیـة وبصائرهم الـمودوعـة فی أنفسهم حسب أصل الـخلقـة «کُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِیهِ»؛ أی ضاء لهم الـبرق مشوا فی الـبرق؛ باعتبار أنّ الـبرق مستولٍ علیٰ ممشاهم وطریقهم. «وَإِذَا أَظْلَمَ» وإظلام الـبرق بالانتفاء والانعدام «عَلَیْهِمْ»، فصاروا فی ظلمـة الـسبیل و الـطریق «قَامُوا» من الانحراف وح الـة الـهُویّ الـتی کانوا یمشون علیها وکأنّهم کانوا یمشون فی الـبرق راکعین، کما هو الـمتعارف فی حال الـخوف؛ لعدم تمکنّهم من الـرؤیـة الـصحیحـة، ولأجل رفع الـموانع عن الـطریق،
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 260 فقاموا وسکنوا عند استیلاء الـظلمـة علیهم.
«وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ» شیئاً فی حقهم وإذهاب أبصارهم وأسماعهم وإهلاکهم من الـنواحی الـمختلفـة، «لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ».
وقیل: وعید بإذهاب الأسماع والأبصار من أجسادهم؛ حتّیٰ لایتوصّلوا بهما إلـیٰ ما لهم کما لم یتوصّلوا بهما إلـیٰ ما علیهم.
وقریب منه : لأظهر علیهم نفاقهم، فذهب منهم عزّ الإسلام.
وقیـل : لأذهب أسماعهم فلا یسمعون الصواعق فیحذرون، ولأذهب أبصارهم فلایرون الـضوء لیمشوا.
وقیل: لزاد فی قصیف الـرعد فأصمّهم وفی ضوء الـبرق فأعماهم.
وقیل: لأوقع بهم ما یتخوّفونـه من الـزجر و الـوعید.
وقیل: لفضحهم عند الـمؤمنین وسلّطهم علیـه.
«إِنَّ اللّٰهَ عَلَیٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ»، فلا یخصّ بقول وتفسیر خاصّ، بل جمیع هذه الـمعانی قابلـة لأن تکون مقصودة، فإنّ اللّٰه تع الـیٰ علیٰ کلّ شیء قدیر، فهو الـمقتدر علیٰ إرادة الـکلّ.
وقریب منه: «یَکَادُ الْبَرْقُ» وما فی الـکتاب الإلهی و الـقرآن الـعظیم من الـحجج الـقامعـة و الـنوامیس الـقاطعـة «یَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ» وقلوبهم الـمتشتّـتـة، ویسرق ما فی باطنهم بحدوث الـتحیّر و الـتزلزل فی ذاتهم «کُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ»وتلألأ الإسلام فی الـخیر و الـغنائم والاُمور الـمطلوبـة الـدنیویّـة «مَشَوْا فِیهِ»وأسرعوا نحوها لجلب منافعهم ونیل آم الـهم «وَإِذَا أَظْلَمَ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 261 عَلَیْهِمْ»واشتدّ الأمر علیٰ الـمسلمین، وتحمّلوا من الـمشقّات الـخارقـة للعادات «قَامُوا»ورجعوا وتحیّروا زائداً علیٰ الـتحیّر الأوّل، وأخذوا بأصابعهم وعضّوها بأضراسهم الـخسیسـة الـخبیثـة.
وقیل: إذا آمنوا صار الإیمان لهم نوراً، وأمّا بعد ما ماتوا عادوا إلـیٰ ظلمـة الـعقاب.
وقیل: هم الـیهود لمّا نُصِر الـمسلمون ببدر ق الـوا: هذا الـذی بَشّر بـه موسیٰ، فلمّا نُکِبوا باُحُد وقفوا وشکّوا.
«وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» حتّیٰ لا یتوجّهوا إلـیٰ مناصبهم الاجتماعیـة و الـشخصیّـة و الـدنیویـة والاُخرویـة؛ أی لذهب بکلّ خاصّـة لهم من الـخواصّ الإنسانیـة و الـحیوانیـة؛ حتّیٰ یصبحوا أضلّ من الـحیوان، کما هم کانوا کذلک بحسب الـذات و الـطینـة، و«إِنَّ اللّٰهَ عَلَیٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ»، ولایعجزه شیء، ولامانع من بسط قدرتـه إلـیٰ جمیع أماکن حکومتـه؛ من الـجواهر والأعراض و الـحرکات و الـسکنات.
وقریب منه: «وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» ولکن یمتنع أن یشاء؛ لأنّـه خروج عن الـنظام الـعامّ، وهی الـعلِّیـة و الـمعلولیـة، وهذا الامتناع لاینافی قدرتـه تع الـیٰ: «إِنَّ اللّٰهَ عَلَیٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ».
وقریب منه: أنّ أبصار الـمنافقین تکون عاجزة عن إدراک الآیات الـمنیرة، فإذا تلألأت أطرافهم من الـبرق الـبعید عنهم یمشون یسیراً، وهؤلاء الـمنافقون لشدّة الـخوف و الـیأس عن الـبلوغ إلـیٰ آم الـهم، لا یقدرون علیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 262 الـحرکـة فی أمر حیاتهم و الـتوثّب فی معیشتهم، وکأنّهم واقفون وینظرون إلـیٰ ما یحدث لهم من الـحوداث الأرضیـة و الـسماویـة، وإلـیٰ بختهم ونصیبهم وحظّهم، ویرون ما یحصل لهم من اقتران الـکواکب ومقارنات الـسیارات وآثارها الـحاصلـة منها.
ومن الـعجیب أنّهم لشدّة تحیّرهم وانغمارهم فی الـضلالـة، یأملون الـحیاة و الـمعیشـة مع ما یخافون منـه ویحذرون، وکأنّهم علیٰ الـدوام یتدبّرون فی هذه الاُمور، وأبصارهم متوجّهـة ومحدّقـة إلـیٰ الأطراف مع غفلتهم عمّا فیهم من الـذخائر الـمودوعـة و الـقویٰ الـمعنویـة، فإذا «أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِیهِ» شیئاً علیٰ خلاف طبعهم، «وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَیْهِمْ» یتوقّفون حسب طینتهم وسجیّتهم.
«وَلَوْ شَاءَ اللّٰهُ» فلا یکتفی بفناء نور قلوبهم، وبإهلاک مقتضیات فطرتهم، وإعدام أملهم فقط، بل اللّٰه یقدر علیٰ أن یُذهب بنور أبصارهم وأسماعهم؛ حتّیٰ لا یتمکّنوا من أن ینتفعوا منها فی الـظاهر من الـحرکات و الـسکنات، وکأنّهم صاروا حیوانات من قِبَل سوء سریرتهم وخبث فع الـهم؛ لِما لا یدرکون ب الـبصر ما یدرکـه الإنسان، ولایستخبرون ب الـسمع ما یسمع بـه الـبشر، فهم قد أخمدوا فی وجودهم نار الـمخابرات ونور الاستعلامات، ولو شاء اللّٰه تع الـیٰ لصنع بهم ما ینبغی لهم بعد ذلک بما قد ظلموا أنفسهم، واللّٰه لا یظلم أحداً، فهم قد تجاوزوا عن حدّ الاعتدال بسوء الاختیار، فصحّ لهم وحقیق بهم أن یصیروا بعد ذلک صُمّاً وعُمیاناً، بل ویخرجوا عن حدّ الـحیوانیـة إلـیٰ حدّ الـجماد و الـنبات، فإنّ خمود نیران الـبصر و الـسمع یستـتبع خمود سائر الـقویٰ الإنسانیـة و الـحیوانیـة، واللّٰه تع الـیٰ «عَلَیٰ کُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ»، إلاّ أنّـه
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 263 تع الـیٰ لیس ظلاّماً للعبید، وأنّـه تع الـیٰ بمجرّد الاقتدار علیٰ شیء لا یصنعـه؛ لأنّـه ربّما یکون ظلماً، فإذهاب سمعهم وإبصارهم حسب استحقاقهم، ولکنّـه تع الـیٰ لکمال رحمتـه ورأفتـه فی حقّهم، أبقاهم علیٰ ح الـهم لعلّهم یهتدون.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 264