النزول وتأریخ الآیة
فی أوّل طلیعـة الأمر یتوجّـه الـقارئ إلـیٰ سؤال الارتباط بین الآیات الـسابقـة الـمشتملـة علیٰ أحوال الأصناف الـثلاثـة فی اعتبار و الـسبعـة فی آخر، وبین هذه الآیـة، ویتقوّیٰ فی الـنظر مق الـة ابن عبّاس ومجاهد وعلقمـة و الـحسن: أنّ کلّ آیـة أوّلها «یَا أَیُّهَا النَّاسُ» مکّیـة، وکلّ آیـة أوّلها «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا»مدنیـة، فتکون هذه الآیـة بحسب الـنزول متقدّمـة علیٰ الآیات الـسابقـة وأجنبیـة عنها، وإنّما عُقّبت الآیات الـسابقـة بها عند جمع الـکتاب الإلهی، أو أنّها نزلت ثانیاً من غیر لزوم مراعاة الارتباط؛ لأنّ الـنزول الـثانی لیس إلاّ علیٰ مبنیٰ بیان کیفیـة تألیف الآیات و الـسور.
فما اشتهر: أنّ سورة الـبقرة کلّها مدنیـة إلاّ آیـة واحدة هی غیر هذه الآیـة، محلّ الـمناقشـة، وربّما یقال: إنّ ما حُکی عن ابن عبّاس وأشباهـه غیر صحیح بشهادة هذه الآیـة، فإنّها مدنیـة وأوّلها «یَا أَیُّهَا النَّاسُ». ویؤیّد الـکلام الأوّل قول الـقاضی؛ حیث قال: إنْ کان مبنیٰ الـکلام الـسابق علیٰ
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 269 الـنقل فمُسلّم. انتهیٰ.
أقول: إنّ هذا الـخطاب الـعامّ الـعالَمی، لا یناسب إلاّ ما بعد انبساط الإسلام ونفوذه فی الـناس الـموجودین فی شبـه جزیرة الـعرب، وحیث إنّ توبیخ الـکفّار و الـمنافقین یستحسن فیما إذا کان مشفوعاً ب الـرأفـة و الـرحمة، وممزوجاً باحتمال هدایتهم وإسلامهم، یصحّ تعقیب الآیات الـسابقـة بتوجیـه الـخطاب الـعامّ حتّیٰ یتوهّموا أنّ الـقرآن لا یـیأس منهم وأنّ الـکتاب الإلهی لایحسبهم صُمّاً وعُمیاناً علیٰ الإطلاق، بل یریٰ فیهم بَعْدُ نورَ الـهدایـة وإمکان الـرجوع إلـیٰ الـحقّ، فیکون هناک شدّة الارتباط.
وأمّا ما حُکی عنهم فهو لو صحّ کلام غ الـبیّ لا کلّی، أو حلّ الـمشکلـة بالالتزام بتکرار الـنزول، فتارة نزلت فی مکّـة، واُخریٰ فی الـمدینة، ولاَحَدٍ دعویٰ أنّ المحکیّ عن ابن عبّاس غیر ثابت، وعلیٰ فرض ثبوتـه غیر حجّـة.
ثمّ إنّه غیر خفیّ: أنّ الآیات الـسابقـة کانت تشتمل علیٰ ثلاث مواضیع، وتنقسم بحسب الـموضوع إلـیٰ ثلاث أقسام، وهذه الآیـة و الـتی بعدها إلـیٰ قولـه تع الـیٰ: «فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أیضاً موضوع رابع من موضوعات سورة الـبقرة، ولذلک جمع کثیر من الـمفسّرین بینهما بحسب الـتفسیر و الـبحث.
کتابتفسیر القران الکریم: مفتاح أحسن الخزائن الالهیة (ج. 4)صفحه 270