المقام الثالث
فی الأمر الواقع عقیب الحظر
اعلم : أنّ هذه المسألة فی الحقیقة تذییل للمباحث السابقة؛ وذلک لأنّ البحث هنا حول أنّ الأمر إذا کان محفوفاً بما یصلح للقرینیّة، هل یستفاد منه أیضاً الوجوب والنفسیّة والعینیّة والتعیینیّة وغیرها، أم لا؟
وبعبارة اُخریٰ: لیس الجهة المبحوث عنها هنا أمراً جزئیّاً، وبحثاً خاصّاً بالأمر الواقع عقیب الحظر، بل الجهة المقصودة معنی أعمّ من ذلک، ومن الهیئة المقارنة لما یصلح للقرینیّـة علیٰ خلاف ما یستفاد منها إطلاقاً؛ ضرورة أنّه مع وجود القرینة علی الندب والغیریّـة وغیرها، یحمل علیها، ومع عدم القرینة یحمل علی الوجوب والنفسیّة ... إلی آخره.
وإذا کان فی الکلام ما یصلح للقرینیّة علی الندب والغیریّة، کقوله: «اغتسل للجمعة والجنابة» فإنّ الجنابة قرینة علیٰ أنّ الهیئة فی الجمعة غیریّة؛ بناءً علی مفروغیة استفادة الغیریّة منه، وأنّ غسل الجنابة لیس مطلوباً نفسیّاً.
ومن هذا القبیل الأمر الواقع عقیب المنع التحریمیّ، أو التنزیهیّ، أو الواقع عقیب توهّم المنع، کقوله تعالیٰ:«وَإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا».
فبالجملة : المقصود بالبحث کلّی لایختصّ بالوجوب، بل یشمل النفسیّة وأخواتها، ولا یختصّ بکون الأمر عقیب الحظر، بل یشمل کلّ ما کان فی کلام صالحاً للقرینیّة علیٰ مقابلاتها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 193 إذا عرفت ذلک فاعلم: أنّ استفادة الوجوب والنفسیّة، إن کانت لأجل عدم القرینة الذی هو القرینة علیها، فإذا کان الکلام محفوفاً بالصالح لها، یلزم الشکّ المستند والمستقرّ العقلائیّ فی تمامیّة الحجّة؛ واستکشاف اللزوم والنفسیّة.
نعم، لو قلنا : بأنّ الهیئة موضوعة للوجوب، ومجاز فی الندب، أو قلنا: بأنّها موضوعة لإفادة المطلوب النفسیّ، ومجاز فیما کان مستعملاً فی الغیریّ، فلایبعد تعیّن الأخذ بالمدلول المطابقیّ.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ المجاز المشهور یمنع عن الحمل علی الحقیقة؛ لعدم التعبّد فی إجراء أصالة الحقیقة من ناحیة الشرع، فإذا کانت هی ساقطة لکثرة الاستعمال المجازیّ، فلایمکن استفادة الوجوب علیٰ جمیع المبانی؛ أی سواء قلنا بمقالة السیّد، أو قلنا بمقالة الوالد ـ عفی عنهما ـ أو قلنا: بأنّها کاشفة عقلائیّة؛ لأجل القرینة العدمیّة عن الإرادة اللزومیة والمطلوب النفسیّ، فإنّه علیٰ جمیع التقادیر لایمکن ذلک، کما لایخفیٰ.
ثمّ إنّ الأنظار کثیراً ما تختلف بالنسبة إلیٰ صغری الصالح للقرینیّة، والمناط هو الصالح النوعیّ، لا الشخصیّ ، فاحتمال الحظر الشخصیّ غیر کافٍ؛ إلاّ فی الخطابات الجزئیّة الشخصیّة، والوهم والتوهّم غیر العقلائیّ لایکفی، فلاتغفل.
وممّا ذکرناه یظهر قصور کتب القوم عن إفادة ماهو الشأن فی البحث. هذا کلّه فی کبری المسألة.
وأمّا فی صغراها التی تعرّض لها الأصحاب ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ وهو
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 194 الأمر عقیب الحظر، فالاحتمالات ربّما تکون أربعة: من الوجوب، والندب، والإباحة، والکراهة؛ لأنّ من الممکن کون الأمر لرفع اشتداد المبغوضیّة. بل وهی خمسة؛ بناءً علیٰ کون الإذن المطلق غیر الإباحة الخاصّة.
وربّما یختلف باب التعبّدیات عن غیرها، فیکون القدر المتیقّن فی الباب الأوّل هو الاستحباب، وفی الباب الثانی هی الإباحة، فلایتمّ ما اشتهر: من عدم دلالة الأمر علی أحد المحتملات.
نعم، لایمکن تعیین إحدی الاحتمالات بنحو کلّی؛ لاختلاف مواقف الاستعمالات حسب القرائن الکلّیة والجزئیّة، فلا تخلط، وکن علیٰ بصیرة من أمرک.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 195