الوجوه العقلیّة علی أصالة التعبّدیة
ثمّ إن هاهنا بعضاً من الوجوه الاُخر التی استند إلیها لأصالة التعبّدیة، لابأس بالإشارة إلیها:
أوّلها : ما سلکه شیخ مشایخنا العلاّمة الحائریّ فی اُخریات عمره، وبنیٰ علیه جمعاً من المسائل العلمیّة، کعدم التداخل فی الأسباب، وکظهور الأمر فی الفور، ودلالته علی المرّة، وهکذا اختار أصالة التعبّدیة بعد ذهابه إلی التوصّلیة فی «درره» والدورة الاُولیٰ من بحثه.
وملخّص ما أفاده : أنّه قاس العلل التشریعیّة بالعلل التکوینیّة؛ وأنّ الإرادة بالنسبة إلی المراد کالعلّة التکوینیّة، وإن لم تکن عینها من جمیع الجهات، فإذا کانت العلّة التکوینیّة مستتبعة لمعلولها بلا تخلّل وبلا تخلّف، فتلک الإرادة الموجودة فی المقنّن مثل تلک العلل، فشأنیّة الإرادة التشریعیّة والتکوینیّة واحدة.
وکما إنّ علّیة الإرادة التکوینیّة، لیست مقیّدة بأمر فی ناحیة المعلول، فلایکون موجدیّتها منوطة بتقیّدها بالمعلول؛ للزوم الدور، ولا تکون ـ مع أنّها لیست مقیّدة ـ مطلقة؛ بحیث تؤثّر فی إحراق القطن کیفما اتفق، فلایکون المعلول قیداً، ولا العلّة مطلقة، بل ماهو العلّة هی الطبیعة المضیّقة التی لاتنطبق إلاّ علی المقیّد، وهی المعبّر عنها بـ «الحصّة التوأمة» فی کلام شقیقه العلاّمة الأراکیّ فی «مقالاته».
فعلیٰ هذا، لابدّ من الالتزام بأنّ الأمر المتعلّق بشیء، وإن لم یکن الشیء
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 155 مقیّداً بجهة من ناحیة الأمر، ولایکون الأمر مطلقاً، ولکن لایکون مجرّد تحقّق المأمور به، کافیاً فی سقوطه، بل ماهو مسقطه هی الطبیعة المضیّقة التی وجدت بتحریک الآمر.
وهکذا یجب الالتزام بالفوریّة، وبدلالته علی المرّة؛ لعدم التفکیک بین العلّة ومعلولها، ولعدم اقتضاء العلّة الواحدة إلاّ معلولاً واحداً، انتهیٰ.
فکأنّه بمقیاس العلل التکوینیّة وخواصّها المختلفة وآثارها الشتّیٰ، استظهر المسائل المزبورة، فاستظهر التضیّق ـ الذی هو الحدّ المتوسّط بین الإطلاق والتقیید من التکوین؛ لأجل أنّه لا مطلق، ولا مقیّد، کما استظهر صاحب «المقالات» منه ذلک، وبنیٰ شتات المسائل العلمیّة علیه، وحلّ به الغوامض العقلیّة من أوّل الاُصول إلیٰ آخره.
ومن العجب، أنّه لایجری هذه المقالة فی هذه المسألة قائلاً: «بأنّ الحصّة التوأمة، غیر وافیة بحلّ معضلة أخذ قصد الأمر فی المتعلّق»!! فراجع، واستظهر الفوریّة من جهة اُخریٰ، والمرّة من جهة ثالثة.
وما هذا إلاّ للاستظهار، فلایرد علیه بعض ما أورده علیه السیّد الوالد ـ مدّظلّه : من أنّ وزان العلل التکوینیّة یکون کذا وکذا، وأنّ المعالیل ربط محض بعللها، فإنّه رحمه الله ما کان فی هذا الموقف، وما کان أهلاً لذلک المیدان، ولکنّه لمکان التقریب إلی الأذهان؛ وأنّ العرف یساعد علیٰ ذلک لأجل ما یرون فی التکوین، التجأ إلیٰ هذا القیاس، الذی هو الممنوع فی الشرع الأقدس إلاّ فی هذه المحالّ، فلیتدبّر جیّداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 156 أقول : یالیته ما کان عادلاً عن الفکرة الاُولیٰ، وما خطر بباله هذه المقایسة الهلکاء، کی یقع فیما لا ینبغی، ولقد مرّ منّا فی الصحائف السابقة: أنّ مقایسة العلل الاعتباریّة بالتکوینیّة، غیر صحیحة، وتورث الزلل الکثیر، والخطأ غیر الیسیر.
فبالجملة : لو سلّمنا تمامیّة جمیع المقدّمات، فإن ثبت إمکان أخذ قصد الأمر فی المتعلّق، فلا وجه للتضییق فی خصوص هذا القید، فلابدّ ـ بناءً علیٰ مرامه ـ من نفی الإطلاق بالنسبة إلیٰ سائر القیود والشرائط.
وإن ثبت امتناعه، فلا حاجة إلیٰ تلک الإطالة المنعطفة عن جادّة الاعتدال والواقع، ولاتکون طریقة جدیدة فی تحریر الأصل فی المسألة.
ثانیها : الأمر الصادر من الآمر لایکون إلاّ لغرض؛ لاحتیاجه إلیه بالضرورة، ولایکون الغرض إلاّ جعل الداعی، فیأمر بداعی تحریک الأمر، فلو کان المأمور منبعثاً عن غیر هذا الداعی، یلزم لغویّة الداعی الموجود فی نفس المولیٰ، فلایکون الفعل المحقّق بغیر داعی الأمر، مسقطاً لأمره قهراً وطبعاً.
أقول : هذه مصادرة؛ ضرورة أنّ الواجبات التعبّدیة تکون هکذا، وأمّا الواجبات التوصّلیة، فأوامرها لیست إلاّ لانتقال المکلّفین إلیٰ لزوم تحقّق متعلّقاتها سواء کان الداعی إلیٰ إیجادها أمرها، أو أمراً آخر من الدواعی الاُخر النفسانیّة.
هذا مع أنّ من الممکن دعویٰ: أنّ غایة الأمر إمکان جعل الداعی، لا الداعی الفعلیّ، فلا تخلط.
وبعبارة اُخریٰ : الهیئات موضوعة للتحریک الاعتباریّ الإنشائیّ، سواء صارت محرّکة بالفعل وباعثة، أو لم تصر کذلک.
ثمّ إنّه لو کان الأمر الصادر من الآمر مغیّا بما قیل، للزم إنکار الواجبات
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 157 التوصّلیة رأساً، وهو فاسد بالضرورة.
ثالثها : لا شبهة فی وجوب إطاعة المولیٰ عقلاً ونقلاً؛ بمعنیٰ أنّ المستفاد من الکتاب العزیز، لزوم انتزاع عنوان «الإطاعة» من أعمال العباد، زائداً علیٰ حکم العقل بلزوم تبعیّة العبد للمولیٰ، ومفهوم «الطاعة» لایتحقّق بمجرّد التطابق القهریّ بین المأتیّ به والمأمور به؛ أی مجرّد تحقّق المأمور به غفلةً عن الأمر، لایکفی لانتزاع هذا المفهوم، بل اللازم فی ذلک کون العبد، متحرّکاً بالأمر فی إمکان انتزاع مفهوم «الطاعة والإطاعة».
فقوله تعالیٰ: «أطِیعُوا الله َ وَرَسُولَهُ» إمّا إرشاد إلیٰ حکم العقل، فیعلم منه لزوم کون المأتیّ به متنزعاً منه عنوان «الطاعة» وإمّا إرشادیّ إلیٰ تقیید متعلّق سائر الأوامر بکونه بحیث ینتزع منه هذا المفهوم، وهو المطلوب.
أقول : ما یحکم به العقل هو لزوم القیام بالوظائف الثابتة بالأوامر، ولا یدعو الأمر إلاّ إلیٰ متعلّقه، وهی الصلاة، فلا سبیل للعقل إلیٰ الحکم بکون المأمور به مقیّداً بکذا، حتّیٰ ینتزع عنه عنوان «الطاعة» وهکذا فی جانب النواهی؛ فإنّ الترک والانتراک علیٰ حدّ سواء فی إسقاط النهی من غیر شرطیّة الانزجار بالنهی حتّیٰ یتضیّق دائرة المنهیّ عنه.
وأمّـا الآیة الشریفة، فلاینتقل منها العرف إلاّ إلیٰ هذا، وأمّا استفادة تقیید متعلّق الأمر والنهی بکونه قابلاً للانتزاع المزبور، أو استفادة کون المأتیّ به فی ظرف الامتثال، قابلاً لانتزاع مفهوم «الإطاعة» ـ علی اختلاف المسالک فی امتناع وإمکان إحدی الطریقین دون الاُخریٰ ـ فهو فی غایة الإشکال، ونهایة الصعوبة، وإلاّ یلزم الابتلاء بکون جمیع الأوامر والنواهی، متقیّدة بحسب الجعل، أو متضیّقة
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 158 بحسب الامتثال؛ بکون المأمور متحرّکاً بتحریکها، ومنزجراً بزجرها، وهذا غیر قابل للتصدیق.
ولو کان بعض الواجبات خارجاً یسقط الاستدلال؛ لما یکون من التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیّة، بل یلزم التمسّک بالإطلاق فی الشبهة المصداقیّة لدلیل المقیّد؛ بناءً علیٰ رجوع التقییدات الکثیرة إلی التقیید بالعنوان الواحد، کما مضیٰ ذیل الوجه الأوّل، فتأمّل.
ویمکن أن یقال : بأنّ غایة ما یستدلّ به هو إطلاق الآیة ـ لحذف المتعلّق ـ علی المرام المزبور، وهو قابل للتقیید، وعندئذٍ لایتمّ المقصود کما لایخفیٰ.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 159