التنبیه الثانی : فی الامتثال عقیب الامتثال
المشهور المعروف امتناع الامتثال عقیب الامتثال، وفی «الکفایة» تفصیل لاینبغی أن یصغیٰ إلیه.
وجه الامتناع واضح؛ ضرورة أنّ معنیٰ أنّ الأمر متعلّق بالطبیعة، مع کون الغرض وجودها الصِرْف، سقوط الغرض والأمر بإتیانها، ومعنی الامتثال الثانی کون الغرض وجودها الساری، وهو خلف وتناقض. أو معناه تعدّد الأمر بلا ملاک. أو الامتثال بلا أمر، وهکذا ممّا لایمکن الالتزام به.
وأمّا تخیّل أنّ المولیٰ إذا أمر بإتیان الماء للوضوء والشرب، فاُریق الماء بعد الامتثال، فإنّه یجب علیه الامتثال ثانیاً؛ لبقاء الغرض، فهو مخدوش من جهات عدیدة، لانحتاج إلیٰ رفع نقابها .
والذی هو التحقیق : أنّ الامتثال متقوّم بالأمر، ولا معنیٰ لصدق الامتثال إذا کان غرض المولیٰ معلوماً؛ فإنّ وجوب القیام بالغرض المعلوم، لایکون ملازماً لصدق الطاعة والإطاعة والامتثال. هذا أوّلاً.
وثانیاً : لیس هذا الأمر المتعلّق بالطبیعة، ساقطاً بالامتثال؛ فإنّه لامعنیٰ للسقوط إلاّ إذا رجع إلیٰ قصور الأمر عن الباعثیّة لتمامیّة الغرض، وإلاّ فالأمر المتعلّق بالطبیعة، باقٍ فی عالمه الإنشائیّ أبداً.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 211 وثالثاً : الأغراض الموجبة لصدور الأمر مختلفة :
فمنها : ماهی بسیطة غیر ذات مراتب، کما إذا تعلّق غرض المولیٰ بقتل زید وضربه، فإنّه عند تحقّق القتل والضرب لا غرض له باقٍ، وإن کان یمکن تصویره ثبوتاً، ولکنّه غیر باقٍ حسب المتعارف.
ومنها : ماهی ذات مراتب، کغرضه المتعلّق بإکرام الفقیر والمسکین، فإنّ الأمر الصادر منه وإن کان ـ بلحاظ بعض الجهات الاُخر ـ غیر منحلّ إلی الأوامر؛ لکونه متعلّقاً بنفس الطبیعة، کما هو مفروض البحث، ولکنّه لایسقط الغرض بمجرّد إکرام الفقیر، فإنّه فی نفسه طالب لإکرامه بوجه أحسن مثلاً، فلا یسقط الغرض رأساً.
فإذا تبیّن لک هذه الاُمور، یتضّح لک: أنّ ما تعارف بین العقلاء من تبدیل المصداق بالمصداق الأحسن بعد الامتثال، لما له من الوجه العقلیّ أیضاً؛ ضرورة أنّا إذا راجعنا وجداننا، نجد جواز تبدیل الدرهم المغشوش بالدرهم الخالص، وأنّه بذلک یکون أقرب إلی مولاه فی القیام بوظیفته بالقطع والیقین، ولیس ذلک إلاّ لأنّ الامتثال لایستلزم سقوط الأمر، بل هو یستلزم سقوط الغرض الإلزامیّ، ولکنّ الأمر باقٍ بحاله.
هذا هو التقریب الذی لامنع من الالتزام به فی صلاة الجماعة.
ولکن بعد المراجعة لتلک الأدلّة، یظهر وجه آخر منها ذکرناه فی کتاب الصلاة: وهو أنّ الاُمور الاعتباریّة بید من له الاعتبار؛ وبید المقنّن النافذ فی کلمته، فإذا فوّض الاُمور إلی المکلّفین، فیکون اعتبارهم نافذاً، والأمر فی الامتثال عقیب الامتثال من هذا القبیل، فإنّه إذا أتیٰ بصلاة الظهر، فهو بالخیار بین الإعادة؛
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 212 وجعل ما أتیٰ به تسبیحاً، وبین اعتبار ما أتیٰ به فریضةً؛ فإنّ الأمر إذا کان کذلک فلا یحتاج فی الامتثال الثانی إلی الانحلال المفروض عدمه، بل له إعادة الأمر الساقط، وإتیان الفرد الآخر؛ لأنّ الغرض غیر ساقط، وإعادة الأمر اعتبار بید المکلّفین.
فتحصل : أنّ هنا طریقین لتصویر الامتثال عقیب الامتثال:
أحدهما : متفرّع علیٰ أنّ الأمرالأوّل لایسقط رأساً، بل الساقط غرض إلزامیّ.
ثانیهما : أنّ الأمر الأوّل یسقط، ولکن للعبد اعتبار عوده؛ للإتیان بالمصداق الأتمّ.
ولو اُرید الامتثال عقیب الامتثال، مع وحدة الأمر شخصاً، وانعدامه بالامتثال الأوّل، فهو مستحیل. ولکنّه لیس مقصودهم، بل المتبادر من المنکرین؛ هو أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة یسقط، ولا یعقل له الوجود ثانیاً حتّیٰ یعتبر الامتثال مکرّراً، وأنت عرفت ما فیه، فلا تخلط.
فبالجملة : قد توهّم الأصحاب ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم ـ سقوط الأمر، وامتناع عوده، فحکموا بامتناع الامتثال عقیب الامتثال؛ لأنّ معنی الامتثال عدم الأمر، ومعنی الامتثال عقیب الامتثال وجوده، وهو تناقض.
وأنت بعدما أحطت خبراً بما أشرنا إلیه، عرفت إمکانه، بل وقوعه فی الشریعة، کما هو صریح الأخبار فی المعادة، ولذلک قوّینا أنّ الصلاة المعادة تکون علیٰ صفة الوجوب، کما هو المفتیٰ به فی کلام بعض فقهاء العصر، فراجع.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 213 ثمّ إنّه غیر خفیّ : أنّ المقصود لیس إثبات إمکان الامتثال عقیب الامتثال فی جمیع الأوامر بل المقصود إثبات إمکانه فی الجملة.
وإن شئت قلت : قضیّة الوجه الأوّل جواز الامتثال عقیب الامتثال، ومقتضی الثانی جواز تبدیل الامتثال بالامتثال الآخر، فتدبّر.
إن قلت : علی الوجه الأوّل یلزم الانحلال، وهو خلف.
قلت : کلاّ؛ فإنّ الانحلال الخلف، هو انحلال التکلیف الوجوبیّ إلی التکالیف الکثیرة؛ حسب الأفراد والمصادیق، والتکلیف فیما نحن فیه لاینحلّ.
نعم، لایسقط باعثیّته؛ لبقاء الغرض غیر اللاّزم استیفاؤه. ولو استوفی فلایبقیٰ له الباعثیّة فی مرحلة الامتثال الثالث مثلاً، وهذا شاهد علیٰ عدم الانحلال.
ثمّ إنّ فی المسألة (إن قلت قلتات) ترجع إلیٰ مباحث الفقه، وتکون خارجة عن کبراها، ومن شاء فلیرجع إلیها.
کتابتحریرات فی الاصول (ج. 2)صفحه 214