المحذور الثالث : محذور اجتماع الإرادة الوجوبیة والتحریمیة
حاصل الإشکال : أنّ الإرادة القطعیة قد تعلّقت بالعمل علی الأحکام الواقعیـة ، والمفروض أنّ الأمـارات قـد تؤدّی إلی خلاف الواقـع ، فإیجاب التعبّد بها والترخیص بالعمل بها مـع فعلیـة الإرادة المتعلّقة بالأحکام الواقعیـة ممّا لا یجتمعان .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 376 وهـذا الإشکال سیّال فی الأحکام الظاهریـة کلّها ـ أمـارة کانت أو أصلاً ـ فإنّ إرادة العمل علی طبق الأمارة والاستصحاب أو قاعدة الفراغ وأصالة الإباحة وهکـذا . . . ممّا لا یجتمع مـع الإرادة الحتمیـة بالنسبـة إلی الأحکام الواقعیـة ، بعدما علم أنّ الاُصول والأمارات قد تؤدّیان إلی خلاف الواقع .
أمّا الجواب فنقول : اعلم أنّ للحکم الشرعی مرتبتین ، لیس غیر :
الاُولی : مرتبة الإنشاء وجعل الحکم علی موضوعه ، کالأحکام الکلّیة القانونیة قبل ملاحظة مخصّصاتها ومقیّداتها ، نحو قوله تعالی : «أَوْفُوا بِالعُقُودِ» ، أو «أَحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» ، وکالأحکام الشرعیة التی نزّل به الروح الأمین علی قلب نبیّه ، ولکن لم یأن وقت إجرائها ؛ لمصالح اقتضته السیاسة الإسلامیة ، وترک إجرائها إلی ظهور الدولة الحقّة ، عجّل الله تعالی فرجه .
الثانیة : مرتبة الفعلیة ؛ وهی تقابل الاُولی من کلتا الجهتین ، فالأحکام الفعلیة عبارة عن الأحکام الباقیة تحت العموم والمطلق بعد ورود التخصیصات والتقییدات حسب الإرادة الجدّیة ، أو ما آن وقت إجرائها .
فالذی قام الإجماع علی أنّه بین العالم والجاهل سواسیة إنّما هو الأحکام الإنشائیة المجعولة علی موضوعاتها ؛ سواء قامت علیه الأمارة أم لا ، وقف به المکلّف أم لا ، وهکذا ؛ وهی لا یتغیّر عمّا هی علیه . وأمّا الفعلیة فیختلف فیها الأحوال ، کما سیوضح .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 377 وأمّا توضیح الجواب وحسم الإشکال فهو ما مرّ منّا : أنّ مفاسد إیجاب الاحتیاط ـ کلاًّ أو تبعیضاً ـ صارت موجبة لرفع الید فی مقام الفعلیة عن الأحکام الواقعیة فی حقّ من قامت الأمارة أو الاُصول علی خلافها .
ولیس هذا أمراً غریباً منه ، بل هذا نظام کلّ مقنّن ؛ إذ فی التحفّظ التامّ علی الواقعیات من الأحکام مفسدة عظیمة لا تجبر بشیء ، أیسرها خروج الناس من الدین ورغبتهم عنه وتبدّد نظام معاشهم ومعادهم . فلأجل هذا کلّه رفع الید عن إجراء الأحکام فی الموارد التی قام الأمارة أو الأصل علی خلافها .
ولیس هذا من قبیل قصور مقتضیات الأحکام وملاکاتها فی موارد قیام الأمارات والاُصول علی خلافها حتّی یتقیّد الأحکام الواقعیة بعدم القیام ، بل من قبیل رفع الید لجهة اللا بدّیة ومزاحمة الفاسد والأفسد فی مقام الإجراء . فالأحکام الواقعیة تنشأ علی موضوعاتها من غیر تقیید .
وتوهّم لغویة تلک الأحکام الإنشائیة إذا فرض قیام الأمارة أو الأصل علی خلافها من أوّل زمن تشریعها مندفعة بأنّه لا محالة ینکشف الخطأ ـ ولو عند ظهور الدولة الحقّة ـ ولو کانت عاطلة غیر منشأة من رأس صارت مهملة إلی الأبد ؛ حتّی بعد قیام القائم علیه السلام ؛ لانسداد الوحی وتشریع الأحکام بعد ما رفع النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم إلی الرفیق الأعلی .
وبذلک یندفع الإشکال کلّه .
فإن قلت : إنّه لیس فی الواقع أحکام إنشائیة ، بل الموجود فی نفس الأمر هـو إنشاء الأحکام ؛ أی تشریعها علی موضوعاتها المقدّر وجـودها بجمیع مـا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 378 اعتبر فیها ؛ من القیود والشرائط وعدم الموانع علی نهج القضایا الحقیقیة ، وفعلیة الحکم عبارة عـن تحقّق موضوعـه بجمیع ما اعتبر فیه ، ولا یعقل لفعلیة الحکم معنی غیر ذلک .
فالأحکام الواقعیة : إمّا مقیّدة بعدم قیام الأمارة علی الخلاف أو لا ، فعلی الأوّل یلزم التصویب ، وعلی الثانی یلزم اجتماع الضدّین .
قلت : یکفی فی صحّة ما ذکرنا ملاحظة القوانین العالمیة أو المختصّة بجیل دون جیل وطائفة دون اُخری ؛ فإنّ الأحکام ینشأ علی وجه الإنشاء علی موضوعاتها العاریة من کلّ قید وشرط . ثمّ إذا آن وقت إجرائه یذکر فی لوح آخر قیوده ومخصّصاته .
فالمنشأ علی الموضوعات قبل ورود التخصیص والتقیید هو الحکم الإنشائی ، والحکم الفعلی اللازم الإجراء ما یبقی تحت العموم والمطلق ، بعد ورودهما علیه ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّه لو صحّ ما ذکر ؛ من أنّ الأحکام مجعولة علی موضوعاتها من أوّل الأمر بجمیع قیوده لما جاز التمسّک بالإطلاق والعموم ؛ فإنّ مبنی التمسّک هو أنّ الحکم مجعولة علی الماهیة المجرّدة ، وأنّ الإرادة الاستعمالیة مطابقة للإرادة الجدّیة ، إلاّ ما قام الدلیل علی خلافه .
فلو کان اللازم إنشاء الحکم علی موضوعه بعامّة قیوده لما صار للتمسّک بأصالـة الإطلاق معنی ؛ فإنّ الإطلاق متقوّم بأنّ الواقـع تحت دائـرة الحکم هـو تمام الموضـوع للحکم ، ومثله أصالـة العموم ؛ فإنّها متقوّمة بظهور الکلام فی کـون
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 379 الحکم علی العموم ، وأنّ التخصیص کالتقیید أمـر خارجی لا یتصرّف فـی اللفظ ، بل یکشف عن ضیق الإرادة الجدّیة .
والحاصل : أنّ ملاحظة تقنین القوانین العرفیة کافیة فی إثبات ما قلناه ؛ فإنّ الدائر بینهم هو وضع الأحکام أوّلاً بنحو العموم والإطلاق ، ثمّ بیان مخصّصاتها ومقیّداتها منفصلاً عنها ، من دون أخذ ما هو الملاک بحسب الإرادة الجدّیة فی موضوع الأحکام من أوّل الأمر .
وأنت إذا تدبّرت تعرف أنّ هذا الجواب سیّال فی موارد الأمارات والاُصول إذا کانت مخالفة للواقع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 380