قیام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً
أمّا الأوّل: فالظاهر إمکانه ، ویستفاد من المحقّق الخراسانی الامتناع فیما إذا کان التنزیل بجعل واحد ؛ لوجهین :
الأوّل ما محصّله : أنّ الجعل الواحد لا یمکن أن یتکفّل تنزیل الظنّ منزلة القطع وتنزیل المظنون منزلة المقطوع فیما اُخذ فی الموضوع علی نحو الکشف ؛ للزوم الجمع بین اللحاظین المتنافیین ـ أی اللحاظ الآلی والاستقلالی ـ حیث لابدّ فی کلّ تنزیل من لحاظ المنزل والمنزل علیه ، مع أنّ النظر فی حجّیته وتنزیله منزلة القطع آلی طریقی ، وفی کونه بمنزلته فی دخله فی الموضوع استقلالی موضوعی ، والجمع بینهما محال ذاتاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 328 وأنت خبیر بما فیه ؛ یظهر من التأمّل فیما ذکرناه جواباً لما استشکله بعض أعاظم العصر فی تصویر القطع الطریقی علی نحو تمام الموضوع ، وحاصله : أنّ نظر القاطع والظانّ إلی المقطوع به وإن کان استقلالیاً وإلی قطعه وظنّه آلیاً إلاّ أنّ الجاعل والمنزّل لیس نفس القاطع حتّی یجتمع ما ادّعاه من الامتناع ، بل المنزّل غیر القاطع ؛ فإنّ الشارع ینظر إلی قطع القاطع وظنّه ، ویلاحظ کلّ واحد استقلالاً واسمیاً ، وینزّل کلّ واحد منزلة الاُخری .
فکلّ واحد من القطع والظنّ وإن کان ملحوظاً فی نظر القاطع والظانّ علی نحو آلیة إلاّ أنّه فی نظر الشارع والحاکم ملحوظ استقلالاً . فالشارع یلاحظ ما هو ملحوظ آلی للغیر عند التنزیل علی نحو الاسمیة والاستقلال ، ویکون نظره إلی الواقع المقطوع به والمظنون بهذا القطع والظنّ ، وإلی نفس القطع والظنّ فی عرض واحد بنحو الاستقلال .
فما ذکره قدس سره من الامتناع من باب اشتباه اللحاظین ؛ فإنّ الحاکم المنزّل للظنّ منزلة القطع لم یکن نظره إلی القطع والظنّ آلیاً ، بل نظره استقلالی ؛ قضاءً لحقّ التنزیل ، کما أنّ نظره إلی المقطوع به والمظنون استقلالی .
وأمّا القول بقصور الأدلّة فهو خارج عن المقام ، وسوف نستوفی الکلام فیه فی المقام الثانی .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر أجاب عنه : بأنّ المجعول هـو الکاشفیة والوسطیـة فی الإثبات ، وبنفس هـذا الجعل یتمّ الأمـرین ، وسوف یوافیک فی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 329 محلّه عدم صحّة تلک المقالة .
ثمّ إنّ المحقّق الخراسانی فی «تعلیقتـه» أجاب عـن هـذا الإشکال : بأنّ المجعول فی الأمـارات هـو المؤدّی ، وأنّ مفاد أدلّـة الأمـارات جعل المؤدّی منزلـة الواقع . ولکن بالملازمـة العرفیـة بین تنزیل المؤدّی منزلـة الواقـع وبین تنزیل الظـنّ منزلـة العلم یتمّ المطلب .
وعدل عنه فی «الکفایة» بما أوضحه بعض أعاظم العصر : أنّ ذلک یستلزم الدور ؛ فإنّ تنزیل المؤدّی منزلة الواقع فیما کان للعلم دخل لا یمکن إلاّ بعد تحقّق العلم فی عرض ذلک التنزیل ، فإنّه لیس للواقع أثر یصحّ بلحاظه التنزیل ، بل الأثر مترتّب علی الواقع والعلم به ، والمفروض أنّ العلم بالمؤدّی یتحقّق بعد تنزیل المؤدّی منزلة الواقع ، فیکون التنزیل موقوفاً علی العلم ، والعلم موقوفاً علی التنزیل ، وهذا دور محال .
وهذا هو الوجه الثانی من الوجهین .
وفیه : أنّ اشتراط ترتّب الأثر علی التنزیل إنّما هو لأجل صون فعل الحکیم عن اللغویة ، واللغویة کما تندفع بترتّب الأثر الفعلی کذلک تندفع بالأثر التعلیقی ؛ أی لو انضمّ إلیه جزئه الآخر یکون ذا أثر فعلی .
والحاصل : ما هـو اللازم فی خـروج الجعل عـن اللغویـة هـو کـون التنزیل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 330 ذا أثـر ؛ بحیث لا یکون التنزیل بلا أثر أصلاً ، والمفروض أنّ المؤدّی لمّا نزّل منزلـة الواقع فقد اُحـرز جـزء مـن الموضوع ، وأنّ هـذا التنزیل یستلزم عرفاً فی الرتبة المتأخّـرة تنزیل الظنّ منزلـة العلم بالملازمـة العرفیة ، وبه یتمّ مـا هـو تمام الموضوع للأثر .
بل یمکن أن یقال : إنّ هاهنا أثـراً فعلیاً لکـن بنفس الجعل ، ولا یلزم أن یکون الأثر سابقاً علی الجعل . ففیما نحن فیه لمّا کان نفس الجعل متمّماً للموضوع یکون الجعل بلحاظ الأثر الفعلی المتحقّق فی ظرفه ، فلا یکون الجعل متوقّفاً علی الأثر السابق . فاللغویة مندفعة : إمّا لأجل الأثر التعلیقی ، أو بلحاظ الأثر المتحقّق بنفس الجعل .
هذا ، ویمکن أن یقرّر الدور بوجه آخر ، وهو أقرب ممّا قرّره بعض الأعاظم ، وحاصله : أنّ تنزیل المؤدّی منزل الواقع یتوقّف علی تنزیل الظنّ منزلة العلم فی عرضه ؛ لأنّ الأثر مترتّب علی الجزئین ، وتنزیل الظنّ متوقّف علی تنزیل المؤدّی حسب الفرض ؛ أی دعوی الملازمة العرفیة .
وإن شئت قلت : إنّ تنزیل جزء من المرکّب یتوقّف علی کون الجزء الآخر غیر المنزّل ذا أثر وجداناً أو تنزیلاً ، والأوّل مفقود قطعاً .
وعلیه : تنزیل المؤدّی یتوقّف علی ثبوت الأثر لجزئه الآخر ـ أعنی الظنّ ـ والمفروض أنّ الظنّ لا یصیر ذا أثر إلاّ بالملازمة العرفیة ، وهی لا تتحقّق إلاّ بعد تنزیل المؤدّی منزلة الواقع ، فیلزم الدور .
ویظهر جواب هذا التقریر من الدور مما ذکرناه جواباً عن التقریر الأوّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 331