الخامسة : فی اعتبارات موضوع العامّ المخصّص
إنّه قد مرّ سابقاً أنّ التخصیص ـ سواء کان متّصلاً أم منفصلاً ـ یکشف عن تضیّق ما هو موضوع للعامّ بحسب الإرادة الجدّیة ، ولا یمکن تعلّق الحکم الجدّی علی جمیع الأفراد ، مع أنّه خصّصه بالإرادة الجدّیة علی أفراد مقیّدة بالعدالة . ولیس ذلک الامتناع لأجل تضادّ الحکمین حتّی یقال : إنّ الغائلة ترتفع بتکثّر العنوان ، بل لأجل أنّ الإرادة الجدّیة إذا تعلّقت بحرمة إکرام کلّ واحد من الفسّاق منهم یمتنع تعلّق إرادة اُخری علی إکرام کلّ واحد من العلماء جدّاً بلا تخصیص ، مع العلم بأنّ بعض العلماء فاسق ، ویؤول ذلک الامتناع إلی امتناع نفس التکلیف .
وإن شئت قلت : إنّ المولی الملتفت بموضوع حکمه لا تتعلّق إرادته الجدّیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 197 علی الحکم به إلاّ بعد تحقّق المقتضی وعدم المانع ، فإذا رأی أنّ فی إکرام عدول العلماء مصلحة بلا مفسدة ، وفی إکرام فسّاق العلماء مفسدة ملزمة أو لیست فیه مصلحة فلا محالة تتضیّق إرادته وتتعلّق بإکرام عدولهم أو ما عدا فسّاقهم .
ولا یقاس المقام بباب التزاحم ؛ إذ المولی لم یحرز فی الأفراد المخصّصة مصلحة ، بل ربّما أحرز مفسدة فی إکرامهم ، فلا یعقل ـ حینئذٍ ـ فعلیة الحکم فی حقّهم ، بخلاف باب المتزاحمین . وحینئذٍ یسقط ما ربّما یقال من أنّ المزاحمة فی مقام العمل لا توجب رفع فعلیة الحکم عن موضوعه .
وکیف کان : أنّ موضوع العامّ بحسب الإرادة الجدّیة بعد التخصیص یتصوّر علی وجوه ثلاثة :
الأوّل : أن یکون علی نحو العدم النعتی علی حذو لفظ العدول ، کالعلماء غیر الفسّاق ، وکالمرأة غیر القرشیة .
والثانی : أن یکون العدم النعتی علی حذو السالبة المحمول ، کـ «العلماء الذین لا یکونون فسّاقاً أکرمهم» و«المرأة التی لا تکون قرشیة تری الدم إلی خمسین» .
والثالث : أن یکون موضوع العامّ علی حذو السالبة المحصّلة التی تصدق مع عدم موضوعها ، کما إذا قلت : «إذا لم یکن العالم فاسقاً فأکرمه» .
فالموضوع ـ أعنی السالبة المحصّلة ـ مع قطع النظر عن حکمه الإیجابی ـ أی أکرم ـ یصدق فیما إذا لم یکن للعالم وجود أصلاً ، کما إذا قلت : «إذا لم تکن المرأة قرشیة تری الدم إلی خمسین» ، فیصدق موضوعه مع قطع النظر عن حکمه ـ أعنی تری ـ فیما إذا لم تکن المرأة موجودة رأساً .
هذه هی الوجوه المتصوّرة ، ولکن لا سبیل إلی الثالث ؛ إذ جعل الحکم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 198 الإیجابی علی المعدوم بما هو معدوم غیر معقول ، والحکایة بالإیجاب عن موضوع معدوم حکایة عن أمر محال .
فالسالبة المحصّلة بما أنّها تصدق بانتفاء الموضوع أیضاً یمتنع أن یقع موضوعاً لحکم إیجابی ؛ إذ قولنا : «إذا لم تکن المرأة قرشیة تری الدم إلی خمسین» لو کان بنحو السلب التحصیلی الصادق مع سلب موضوعه یرجع مغزاه إلی أنّ المرأة التی لم توجد أیضاً تری الدم ، فلا محیص عن فرض وجود الموضوع ، فیکون الحکم متعلّقاً بالمرأة الموجودة إذا لم تکن من قریش .
فالاعتبارات التی یمکن أخذها قیداً لموضوع العامّ المخصّص أحد هذه الاُمور : العدم النعتی العدولی ، والسالبة المحمول ، والسالبة المحصّلة ، بشرط أمرین : اعتبار وجود الموضوع وإلاّ یلزم جعل الحکم علی المعدوم ، وعدم إرجاعه إلی التقیید والنعت وإلاّ یرجع إلی السالبة المحمول .
إذا عرفت ما مهّدناه فاعلم : أنّه إذا کان الفرد الموجود متّصفاً بعنوان العامّ وغیر متّصف بعنوان الخاصّ سابقاً ؛ بحیث کان عالماً غیر فاسق ، فشکّ بعد برهة من الزمن فی انقلاب أحد القیدین إلی ضدّه فلا إشکال فی أنّه یجری الأصل ویحرز به عنوان العامّ بما هو حجّة ؛ أعنی «العالم العادل» أو «العالم غیر الفاسق» . وهذا فیما إذا کان العلم بعدالته مقارناً للعلم بأنّه عالم ، بأن نعلم أنّه کان قبل سنة عالماً وعادلاً .
وأمّا لو علمنا أنّ زیداً کان غیر فاسق ، وشککنا فی بقاء عدمه النعتی ، ولکن لم یکن علمه فی حال عدم فسقه متیقّناً حتّی یکون المعلوم عندنا کونه العالم غیر الفاسق ، بل علم أنّه عالم فی الحال فلا یمکن حینئذٍ إحراز موضوع العامّ بالأصل والوجدان ، إلاّ علی القول بحجّیة الاُصول المثبتة ؛ لأنّ استصحاب عدم کون زید
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 199 فاسقاً أو کونه غیر فاسق ، مع العلم بأنّه عالم فی الحال یلزمه عقلاً أنّ زیداً العالم غیر فاسق علی نحو النعت والتقیید .
وبعبارة اُخری : أنّ موضوعه هو العالم المتّصف بعدم کونه فاسقاً ، فجزؤه عدم نعتی للعالم بما هو عالم ، وهو غیر مسبوق بالیقین ، وما هو مسبوق به هو زید المتّصف بعدم الفسق لا العالم ، وهو لیس جزءه . واستصحاب العدم النعتی لعنوان لا یثبت العدم النعتی لعنوان متّحد معه إلاّ بحکم العقل ، وهو أصل مثبت . وتعلّق العلم بأنّ زیداً العالم فی الحال لم یکن فاسقاً بنحو السلب التحصیلی لا یفید ؛ لعدم کونه بهذا الاعتبار موضوعاً للحکم .
ومن هذا ظهر : عدم إمکان إحراز جزئی الموضوع بالأصل إذا شکّ فی علمه وعدالته مع العلم باتّصافه بهما سابقاً فی الجملة ، لو لم یعلم اتّصافه بهما فی زمان واحد ؛ حتّی یکون العالم غیر الفاسق مسبوقاً بالیقین . فالمناط فی صحّة الإحراز هو مسبوقیة العدم النعتی لعنوان العالم ، لا العدم النعتی مطلقاً ، فتدبّر .
هذا کلّه فی الأوصاف العرضیة المفارقة ، وقد عرفت مناط جریانه .
وأمّا إذا کان الاتّصاف واللا اتّصاف من العناوین التی تلزم وجود المعنون ـ کالقابلیة واللا قابلیة للذبح فی الحیوان ، والقرشیة واللا قرشیة فی المرأة ، والمخالفة وعدمها للکتاب فی الشرط ـ فهل یجری فیه الأصل لإحراز مصداق العامّ أو لا ؟
الحقّ : امتناع جریانه علی جمیع الوجوه المتصوّرة .
بیان ذلک : أمّا إذا کان الوصف من قبیل العدم النعتی بنحو العدول أو بنحو الموجبة السالبة المحمول فواضح ؛ لأنّ کلاًّ منهما یعدّ من أوصاف الموضوع وقیوده ؛ بحیث تتّصف الموضوع بهذه الصفة . والاتّصاف والصفة فرع کون الموضوع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 200 موجوداً فی الخارج ؛ لما مرّ من القاعدة الفرعیة ؛ حتّی یتقیّد بأمر وجودی .
وعلیه : فلو قلنا إنّ الموضوع بعد التخصیص عبارة عن المرأة غیر القرشیة والشرط غیر المخالف علی نحو الإیجاب العدولی ، أو عبارة عن المرأة التی لیست بالقرشیة ، والشرط الذی لیس مخالفاً للکتاب بنحو السالبة المحمول ، فلا محیص عن فرض وجود الموضوع حتّی یصحّ فی حقّه هذه الأوصاف .
ولکنّه مع هذا الفرض غیر مسبوق بالیقین ؛ إذ الفرد المشکوک کونها قرشیة أو لا ، أو مخالفاً للکتاب أو لا لم تتعلّق به الیقین فی زمان بأنّه متّصف بغیر القرشیة ، أو بأنّها لیست بقرشیة ؛ کی یجرّ إلی حالة الشکّ ؛ لأنّ هذه الأوصاف ملازمة لوجود الفرد من بدو نشوه لا ینفکّ عنه أصلاً ، فهی إمّا تولدت قرشیة أو غیر قرشیة .
والحاصل : أنّک لو تأمّلت فی أمرین یسهل لک التصدیق للحقّ :
أحدهما : أنّ الإیجاب العدولی والموجبة السالبة المحمول ـ مع کونهما جملة ناقصة لأجل أخذهما قیداً للموضوع ـ یحتاجان إلی الموضوع ؛ فإنّه فی کلّ منهما یکون الموضوع متّصفاً بوصف . فکما أنّ المرأة غیر القرشیة تتّصف بهذه الصفة کذلک المرأة التی لم تتّصف بالقرشیة أو لم تکن قرشیة موصوفة بوصف أنّها لم تتّصف بذلک أو لم تکن کذلک .
والفرق بالعدول وسلب المحمول غیر فارق فیما نحن فیه ؛ إذ المرأة قبل وجودها کما لا تتّصف بأنّها غیر قرشیة ـ لأنّ الاتّصاف بشیء فرع وجود الموصوف ـ کذلک لا تتّصف بأنّها هی التی لا تتّصف بها ؛ لعین ما ذکر .
وتوهّم : أنّ الثانی من قبیل السلب التحصیلی ناشٍ من الخلط بین الموجبة السالبة المحمول وبین السالبة المحصّلة ، والقید فی العامّ بعد التخصیص یتردّد بین التقیید بنحو الإیجاب العدولی والموجبة السالبة المحمول ، ولا یکون من قبیل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 201 السلب التحصیلی ؛ لأنّه لا یوجب تقییداً فی الموضوع ، والمفروض ورود تقیید علی العامّ بحسب الجدّ .
ثانیهما : عدم حالة سابقة لهذا الموضوع المقیّد بأحد القیدین ؛ لأنّ هذه المرأة المشکوک فیها لم یتعلّق بها العلم بکونها غیر قرشیة فی زمان بدو وجودها حتّی نشکّ فی بقائه ، بل من أوّل وجودها مجهولة الحال عندنا .
وأمّا إذا کان القید من قبیل السلب التحصیلی الذی لا یوجب تقییداً فی الموضوع فهو وإن کان لا یحتاج فی صدقه إلی وجود الموضوع ؛ لعدم التقیید والاتّصاف حتّی یحتاج إلی المقیّد والموصوف إلاّ أنّه یمتنع أن یقع موضوعاً لحکم إیجابی ؛ أعنی حکم العامّ ـ وهو قوله «تری» ـ لأنّ السلب التحصیلی یصدق بلا وجود موضوعه ، فلا یعقل جعله موضوعاً لحکم إثباتی .
ولا معنی لتعلّق الحکم الإیجابی علی العالم ؛ مسلوباً عنه الفسق بالسلب التحصیلی الذی یصدق بلا وجود للعالم . فلابدّ من أخذ الموضوع مفروض الوجود ، فیکون العالم الموجود إذا لم یکن فاسقاً موضوعاً .
ویرد علیه : ما ورد علی القسمین الأوّلین من انتفاء حالة سابقة .
أضف إلی ذلک : أنّ القول بأنّ هذه المرأة لم تکن قرشیة قبل وجودها قول کاذب ؛ إذ لا ماهیة قبل الوجود ، والمعدوم المطلق لا یمکن الإشارة إلیه ؛ لا حسّاً ولا عقلاً ، فلا تکون هذه المرأة قبل وجودها هذه المرأة ، بل تلک الإشارة من مخترعات الخیال وأکاذیبها ، فلا تتّحد القضیة المتیقّنة مع القضیة المشکوک فیها .
وصحّـة الاستصحاب منوطة بوحدتهما ، وهذا الشرط مفقودة فی المقام ؛ لأنّ المرأة المشار إلیها فی حال الوجود لیست موضوعة للقضیة المتیقّنة الحاکیة عن ظرف العدم ؛ لما عرفت أنّ القضایا السالبة لا تحکی عن النسبة والوجود
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 202 الرابط ، ولا عن الهوهویة بوجه . فلا تکون للنسبة السلبیة واقعیة حتّی تکون القضیـة حاکیة عنها .
فانتساب هذه المرأة إلی قریش مسلوب أزلاً ، بمعنی مسلوبیة کلّ واحد من أجزاء القضیة ـ أعنی هذه المرأة وقریش والانتساب ـ لا بمعنی مسلوبیة الانتساب عن هذه المرأة إلی قریش ، وإلاّ یلزم کون الأعدام متمایزة حال عدمها .
وإن شئت قلت : فالقضیة المتیقّنة غیر المشکوک فیها ، بل لو سلّم وحدتهما یکون الأصل مثبتاً .
وبالجملة : فالقضیتان مختلفتان ؛ فما هو المتیقّن قولنا : «لم تکن هذه المرأة قرشیة» ولو باعتبار عدم وجودها ، والمشکوک قولنا : «هذه المرأة کانت متّصفة بأنّها لم تکن قرشیة» وکم فرق بینهما .
وإن شئت قلت : إنّ المتیقّن هو عدم کون هذه المرأة قرشیة باعتبار سلب الموضوع ، أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول ، واستصحاب ذلک وإثبات الحکم للقسم المقابل أو للأخصّ مثبت ؛ لأنّ انطباق العامّ علی الخاصّ فی ظرف الوجود عقلی ، وهذا کاستصحاب بقاء الحیوان فی الدار ، وإثبات حکم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار .
فظهر : أنّ السالبة المتقیّدة بالوجود أخصّ من السالبة المحصّلة المطلقة ، واستصحاب السلب المطلق العامّ الذی یلائم مع عدم الوجود لا یثبت الخاصّ المقیّد بالوجود ویعدّ من لوازمه .
وأنت إذا أمعنت النظر فی أحکام القضایا الثلاث ـ من المعدولة والسالبة المحمول والسالبة المحصّلة ـ وفی أنّ الأوّلین باعتبار وقوعهما وصفین لموضوع العامّ لابدّ فیهما من وجود الموضوع ، لقاعـدة «ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 203 المثبت له» ، وأنّ الثالث باعتبار صدقه بلا وجود موضوعه لا یمکن أخذه موضوعاً لحکم إیجابی ، وهو حکم العامّ .
یسهّل لک التصدیق بعدم جریان استصحاب الأعدام الأزلیة فی أمثال المقام مطلقاً ؛ لعدم الحالة السابقة لهذا الأصل تارة ، وکونه مثبتاً اُخری .
وبما ذکـرنا یظهر الإشکال فیما أفاده بعض الأجلّـة فی تعالیقـه علی تقریراتـه ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 204